الصراع الحزبي، الدائر بين مختلف الأطياف السياسية والحركات المشاركة في الوصول إلي كراسي مجلس الشعب، يدهس مبدأ المواطنة قلباً وقالباً؛ حيث الممارسات المضللة التي اختلطت فيها الشعارت الانتخابية بالفتاوي الدينية، وكلها عوامل تفتت المواطنة، خاصة أنه من المعروف أن هناك أعدادًا لا بأس بها سوف تسقط مشاركتها السياسية ويضيع حقها الانتخابي. جاءت انتخابات مجلس الشعب لتفتح بابًا جديدًا من الجدل حول الديمقراطية والمواطنة وسيادة القانون في مصر، والمنظومة السياسية التي صارت تحكم البلاد، خاصة أن المشهد السياسي قاتم بجدله وصراعه العقيم، وبالتالي فالنتائج باتت مظلمة؛ لانتشار الاعتقاد السائد بأن هذه النتائج ستكون لصالح الحزب الوطني الحاكم مرتبطة بمصالحه السياسية؛ لأن أغلب الظن أن هذا الماراثون لا يمثل سوي بروفة مؤقتة محمودة العواقب استعداداً للعرس الأكبر الذي تنتظره مصر في 2011 خلال انتخابات الرئاسة. (1) لقد استطاعت مصر أن تخطف الأنظار العالمية، وتصنع رقمًا قياسيا في ترمومتر السياسة العالمية، خاصة مع دعاوي التغيير التي انطلقت مؤخراً والحديث عن سيناريو التوريث المرتقب، بالإضافة الي أحاديث الإثم والبراءة حول مدي نزاهة وشفافية الانتخابات، ومخاوف من عمليات التزوير التي حذرت منها جميع الأحزاب والتيارات السياسية. فقد ذهب المواطنون الذين من المفترض ان يبلغ عددهم اربعين مليون ناخب إلي صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم؛ حيث تنافس خمسة الآف وثمانية وخمسون مرشحًا من الأحزاب السياسية الشرعية والمستقلين والإخوان المسلمين علي خمسمائة وثماني مقاعد، بينها: أربعة وستون مقعدا مخصصة للمرأة (بفعل قانون الكوتة)، وتتنافس عليها ثلاثمائة وثمانٍ وسبعون امرأة من ستة عشر حزبًا سياسيا إلي جانب المستقلات وتنظيم الأخوات المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين المعارضة، وتحتم أن يكون نصف مقاعد المجلس علي الأقل من العمال والفلاحين، وتجري الانتخابات في ظل إشراف ألفي ومائتين وستة وثمانين قاضيا يتولون رئاسة اللجان العامة والإشراف علي لجان الاقتراع والفرز، إلي جانب تولي مائتين وستة آلاف موظف في الدولة والهيئات والمؤسسات العامة لمهمة والإشراف والعمل في أربعٍ وأربعين ألفا وخمسمائة لجنة انتخابية فرعية. جاء ذلك وسط إجراءات أمنية مشددة؛ لتأمين جبهته وحماية مرشحي الحزب الوطني من السقوط؛ مما أحدث العديد من الاشتباكات والتجاوزات والمشادات بين المواطنين ورجال الأمن في شتي الدوائر، بشكل يعكس المفهوم الخاطئ للمواطنة الذي استند في مفهومه المعاصر إلي أساس فلسفي قديم ارتبط بمفهوم الدولة المدينة التي بنيت في اليونان قديمًا، باعتبارها المنظومة الأساسية التي تدور في فلكها الحقوق المدنية بما فيها السياسة كافة؛ فالديمقراطية التي نجمت عن أساس موحد يتمثل في المشاركة السياسية المباشرة للمواطنين في الدولة التي ينتمون اليها، وكذا النظر إليها ومعاملتها باعتبارها هي الحق والواجب للممارسة السياسية الصحيحة والمشاركة المجتمعية التي يراها الكثيرون أنها غابت عن الانتخابات البرلمانية المصرية. (2) لاشك أن المشاركة الانتخابية هي الأساس الأمثل لقيام دولة مدنية صحيحة، ترتكز علي مبدأ المواطنة الموحد، وليس دوره الذي يطبق لخدمة سياسة عامة يرسمها نظام قائم أو حزب مهيمن علي الأوضاع العامة؛ فالجوهر العام للمواطنة يستمد معناه لغويا من مفهوم الوطن، أو باعتباره علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي والدولة بمفهومها السياسي؛ حيث يقوم المواطن فيها بتقديم السمع والطاعة والدولة تقدم الحماية، وهذه العلاقة تتحدد عن طريق النظام الحاكم، وقد ورد مفهوم المواطنة في "دائرة المعارف البريطانية" باعتباره تلك العلاقة بين الفرد والدولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة بين الطرفين من واجبات وحقوق متبادلة. وبالتالي يدهس الصراع الحزبي، الدائر بين مختلف الأطياف السياسية والحركات المشاركة في الوصول إلي كراسي مجلس الشعب، مبدأ المواطنة قلباً وقالباً؛ حيث الممارسات المضللة التي اختلطت فيها الشعارت الانتخابية بالفتاوي الدينية، وكلها عوامل تفتت المواطنة، خاصة أنه من المعروف أن هناك أعدادًا لا بأس بها سوف تسقط مشاركتها السياسية ويضيع حقها الانتخابي، نتيجة كثرة الأبواق الرنانة التي ترفع شعارات عاطفية ودينية مؤثرة، وكل حزب أو تيار يأخذ جزء من كعكة الشعارات ويتاجر بها دون الارتكاز علي مبدأ أساسي، حتي إن كان ذلك علي حساب اعتبارات أخري كفلتها دساتير الحكومات المختلفة، لاسيما المواطنة، حتي إن ما برز مؤخراً من ضرورة التمكين السياسي للمرأة وحقوق المرأة السياسية في مصر، والعمل بنظام الكوتة الذي يضمن لها أربعة وستين مقعداً، انقسمت الأطياف في موقفها من حقوق المرأة السياسية، بشكل يضع محاذير متعددة حول حقها في السياسة والانتخاب. (3) فالانتخابات البرلمانية الحالية، رغم أنها أخطر انتخابات نيابية في تاريخ مصر منذ برلمان الخديوي، إلا أنها تعتبر اختبارًا حقيقيا للمواطنة والديمقراطية، وكشفًا حقيقيا عن مستقبل البلاد في ظل الظروف المقبلة التي ستصنعها نتيجة الانتخابات؛ مما يفجر سؤالًا استدراكيا لقراءة القادم من أحداث، مفاده: هل المواطنة في مصر - نظرياً وعملياً - كاملة أم يشوبها النقصان ويؤثر فيها؛ مما قد يجعلها غير موجودة؟ وهل كل مواطني مصر - علي اختلاف أجناسهم وعقائدهم - يمارسون حقهم في المشاركة السياسية؟ وهل المناخ العام الذي يسود البلاد حيوي وصحي يسمح بوجود الاختلاف وأدب الحوار؟ وهل يؤمن بالتنوع ويسعي لتدعيم انتماء المواطينن، ويعمل علي ترسيخ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، لاسيما وأن فكرة الانتماء ليست شيئاً مادياً يمكن لمسه؛ مثل: الأرض، والسماء، والماء، والهواء، ولا تمثل جنسية تشترك فيها جموع مختلفة من البشر؟ فالمواطنة هي الحلم بهدف واحد، أن يكون الجميع مصريين. ومن الضروري في هذه الزاوية ألا ننسي الدور المنوط لأجهزة الإعلام بأشكالها كافة، سواء تلك التي تمثل الحكومة والنظام الرسمي، أو الخاصة والمستقلة، فهو المحرك الأساسي لترسيخ أية فكرة أو مبدأ؛ سواء علي المستوي الشعبوي أو حتي الرسمي، وذلك بالأشكال التي يمثلها الإعلام المقروء أو المسموع أو المرئي، وايضاً خلال "الفيس بوك" والمدونات الإلكترونية، فالآن زمن السماوات المفتوحة والتواصل السريع؛ خاصة بعد اتساع رقعة الحرية الإعلامية وتعدد وسائل النشر. (4) وعلي صعيد مختلف، نري أن الأعمال الأخلاقية التي تمثلها حوادث الشغب والعنف وأحداث البلطجة والاشتبكات المتتالية التي تقع في الدوائر الانتخابية؛ سواء كان ذلك في دوائر الثروة التي يمثلها كبار رجال الأعمال، أو الدوائر ذات الصبغة الدموية التي أطلقوا عليها دوائر الدم والرصاص، خاصة التي تقع في جنوب البلاد (الصعيد)؛ حيث لا تزال النعرات القبلية سيدة الموقف، أو في دوائر السلطة التي يقع فيها كبار رجال النظام ووزرائه الذين يبلغ عددهم ثمانية وزراء يتنافسون علي مقاعد البرلمان. وهذه العوامل هي أكثر الأمور الضاربة للمواطنة في مقتل؛ حيث تتنافي هذه الأفعال مع مفهومها ومبدئها؛ فقد شهدت الانتخابات سقوط عدد من القتلي والجرحي من جراء أحداث عنف جرت أمام بعض اللجان الانتخابية. كل هذه الوجوه والأفعال من شأنها تشويه صورة حق الانتخاب، وتهدد مدي صدق النزاهة في العملية الانتخابية؛ لذا فمن الضروري: تفعيل القانون، والالتزام بقواعد وشروط اللجنة العليا للانتخابات التي تلزم الحكومة بالالتزام بها، ومساعدة اللجنة علي تطبيق تلك القواعد ووقف الإجراءات التي تتعلق بعدم خلط الدين بالسياسة، ومنع البلطجة، وتفعيل قواعد وضوابط الأحزاب، والتزام مرشحيها ببرامجها وعرضها بكل شفافية، والالتزام بمبادئ الحياة والتمثيل المشرف للشعب في البرلمان، والعمل علي خروج جميع فئات الشعب للتصويت لكي تكون هناك مشاركة إيجابية من الشعب لاختيار ممثليهم في مجلس الشعب، وإثبات أن الشعب وحده هو القادر علي اختيار مرشحيه وتكون لهم الشرعية الأكبر في اختيار من يتولي مسئولية عرض مشاكلهم ومطالبة الحكومة بتطبيقها. (5) ورغم كل ذلك فمن الضروري المشاركة السياسية الجدية وتشجيع المشاركة في صناديق الاقتراع بدلاً من مقاطعتها، وكذلك من الضروري أن تؤمن الأحزاب المختلفة بأهمية المشاركة في الانتخابات؛ لإخراجها بصورة نزيهة، وأن يستخدم المواطن حقه الدستوري في التصويت؛ لأنه الضمانة الحقيقية للتغيير.