موعد آخر فرصة لتقليل الاغتراب والتحويلات بتنسيق المرحلتين الأولى والثانية    الأحد 17 أغسطس 2025.. أسعار الأسماك في سوق العبور للجملة اليوم    الأحد 17 أغسطس 2025.. أسعار الخضروات والفاكهة بسوق العبور للجملة اليوم    وزيرة التنمية المحلية: إزالة 4623 مخالفة بناء فى عدد من المحافظات    وزراء نتنياهو يهاجمون الاحتجاجات ويعتبرونها مكافأة لحماس    حركات فلسطينية مكثفة في الأمم المتحدة لدعم حل الدولتين    تحرك شاحنات القافلة السادسة عشرة من المساعدات من مصر إلى غزة    فحوصات طبية ل فيريرا بعد تعرضه لوعكة صحية مفاجئة عقب مباراة المقاولون    "لا يصلح".. نجم الأهلي السابق يكشف خطأ الزمالك في استخدام ناصر ماهر    قمة إنجليزية.. مواعيد مباريات اليوم الأحد    طقس الإسكندرية اليوم.. انخفاض الحرارة والعظمى تسجل 31 درجة    تشكيل فريق طبي لمتابعة حالات مصابي حادث انقلاب أتوبيس نقل عام بطريق أسيوط الصحراوي الغربي    الفرح تحول إلى مأتم.. مصرع 4 شباب وإصابة 5 آخرين في زفة عروس بالأقصر    انتهاء امتحان اللغة الأجنبية الثانية الدور الثاني للثانوية العامة    إنقاذ شخص تعطل به مصعد داخل مول بالمنوفية    ضبط قضايا إتجار بالنقد الأجنبي بقيمة 11 مليون جنيه خلال 24 ساعة    أحمد السعدني للراحل تيمور تيمور: محظوظ أي حد عرفك    يسري جبر: الثبات في طريق الله يكون بالحب والمواظبة والاستعانة بالله    شرطة الاحتلال: إغلاق 4 طرق رئيسية بسبب إضراب واسع في إسرائيل    أسعار الخضراوات والفاكهة بسوق العبور اليوم الأحد 17 أغسطس 2025    إصلاح الإعلام    البوصلة    فتنة إسرائيلية    جمعية الكاريكاتير تُكرّم الفنان سامى أمين    "بشكركم إنكم كنتم سبب في النجاح".. حمزة نمرة يوجه رسالة لجمهوره    صناديق «الشيوخ» تعيد ترتيب الكراسى    حظك اليوم وتوقعات الأبراج    قوات الاحتلال تُضرم النار في منزل غربي جنين    "يغنيان".. 5 صور لإمام عاشور ومروان عطية في السيارة    السيسي يوجه بزيادة الإنفاق على الحماية الاجتماعية والصحة والتعليم    مصرع شخصين وإصابة 30 آخرين فى انقلاب أتوبيس نقل على الطريق الصحراوى بأسيوط    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 بحسب أجندة رئاسة الجمهورية    مشيرة إسماعيل تكشف كواليس تعاونها مع عادل إمام: «فنان ملتزم جدًا في عمله»    عيار 21 الآن.. أسعار الذهب اليوم في مصر الأحد 17 أغسطس 2025 بعد خسارة 1.7% عالميًا    للتخلص من الملوثات التي لا تستطيع رؤيتها.. استشاري يوضح الطريق الصحيحة لتنظيف الأطعمة    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأحد 17 أغسطس 2025    وكيل صحة سوهاج يصرف مكافأة تميز لطبيب وممرضة بوحدة طب الأسرة بروافع القصير    رويترز: المقترح الروسي يمنع أوكرانيا من الانضمام للناتو ويشترط اعتراف أمريكا بالسيادة على القرم    تدق ناقوس الخطر، دراسة تكشف تأثير تناول الباراسيتامول أثناء الحمل على الخلايا العصبية للأطفال    8 ورش فنية في مهرجان القاهرة التجريبي بينها فعاليات بالمحافظات    مواقيت الصلاة في محافظة أسوان اليوم الأحد 17 أغسطس 2025    «مش عايز حب جمهور الزمالك».. تعليق مثير من مدرب الأهلي السابق بشأن سب الجماهير ل زيزو    الداخلية تكشف حقيقة مشاجرة أمام قرية سياحية بمطروح    رئيس جامعة المنيا يبحث التعاون الأكاديمي مع المستشار الثقافي لسفارة البحرين    لأول مرة بجامعة المنيا.. إصدار 20 شهادة معايرة للأجهزة الطبية بمستشفى الكبد والجهاز الهضمي    كيف تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع تعادل الزمالك والمقاولون العرب؟ (كوميك)    المصرية للاتصالات تنجح في إنزال الكابل البحري "كورال بريدج" بطابا لأول مرة لربط مصر والأردن.. صور    تعليق مثير فليك بعد فوز برشلونة على مايوركا    «أوحش من كدا إيه؟».. خالد الغندور يعلق على أداء الزمالك أمام المقاولون    وزيرا خارجية روسيا وتركيا يبحثان هاتفيا نتائج القمة الروسية الأمريكية في ألاسكا    الأردن يدين بشدة اعتداءات الاحتلال على المسيحيين في القدس    كيف تتعاملين مع الصحة النفسية للطفل ومواجهة مشكلاتها ؟    "عربي مكسر".. بودكاست على تليفزيون اليوم السابع مع باسم فؤاد.. فيديو    «زي النهارده».. وفاة البابا كيرلس الخامس 17 أغسطس 1927    يسري جبر يوضح ضوابط أكل الصيد في ضوء حديث النبي صلى الله عليه وسلم    عاوزه ألبس الحجاب ولكني مترددة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز إخراج الزكاة في بناء المساجد؟.. أمين الفتوى يجيب    الشيخ خالد الجندي: الإسلام دين شامل ينظم شؤون الدنيا والآخرة ولا يترك الإنسان للفوضى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غواية الصورة .. ونوازلها الواقعة والمتوقعة
نشر في صوت البلد يوم 16 - 07 - 2016

يعتمد عقل الإنسان في التفكير على مدخلات عديدة من الأفكار والآراء والتصورات. ويتم في هذا العقل، أو لنقل (المختبر)، إجراء عمليات ضخمة تحلّل وتقرّب وتربط بين المعلومات المخزنة والتصورات المتراكمة للخروج بقرار أو رأي يحتاج إليه الإنسان أمام لحظة عابرة يعيش من خلالها موقفاً أو يتذكر إنساناً أو يتدبر في معنى ورد على ذهنه. قد يسعفنا في تصوّر هذا التمازج الفعّال (هيوم) في نظريته حول العليّة من خلال التجاور والتتابع والارتباط الضروري بين الواقع وانطباعاتنا داخل الذهن.
هذا الشكل الطبيعي للتفكير وبناء الوعي حيال موضوع ما تناوله عدد من الفلاسفة القدماء، خصوصاً ديكارت وبيكون وكانط وغيرهم، في تحليل الأفكار والخيال والواقع التجريبي والعلاقة بينهما، ولكن أظن ذلك تغير، وربما تم نسفه، ليس لأنه كان خطأ فتبين لنا بعد ذلك الصواب، بل لأن العقل دخل عليه في التصور مؤثر جديد لم يسبق أن حدث بهذا الشكل من قبل، ألا وهو (الصورة) المعاصرة، الثابتة أو المتحركة.
وبالرجوع إلى الحقائق الغيبية والتاريخية، نجد أن للقرآن الكريم موقفاً واضحاً من تأثير الصورة على تفكير الإنسان وتغيير قناعاته، ولعل من أعظم الشواهد في ذلك تحذير القرآن من المنافقين بوصفٍ يختزل هذا المعنى من التحذير، كما في قوله تعالى «وإذا رأيتَهم تعجبك أجسامُهم وإن يقولوا تسمعْ لقولهم كأنهم خشبٌ مسنّدة يحسبون كلَّ صيحة عليهم هم العدوُّ فاحذرْهم قاتَلَهم اللهُ أنّى يؤفكون» (المنافقون: 4)، فالمظهر الخارجي أو الصورة الظاهرية تجعل الإنسان يعجب بالأجساد فتغيب معاني التقويم الأخرى فيتأثر بعيداً من البرهان والمنطق، وهذا حصل بالفعل مع بني إسرائيل عندما غاب عنهم موسى للقاء ربه تعالى، ثم قام السامري بجمع الحلي وصناعة عجل من ذهب له خوار، كما في قوله تعالى: «فأخرج لهم عجلاً جسداً له خُوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي * أفلا يرون ألاّ يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضرّاً ولا نفعاً» (طه: 88، 89) ومع ذلك عكفوا عليه يعبدونه من دون الله على رغم وجود نبي مرسل يعيش معهم، فالسامري دغدغ مشاعرهم بعيداً من منطقهم، بسحر الصورة المتجسدة والمتحركة أيضاً فتاهت عقولهم شغفاً بهذا الشكل من التصوير، ولأجل ذلك ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «إن أشدّ الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصوّرون» (رواه البخاري: 5606، ومسلم: 2109)، والسبب كما قال الخطابي: «إنما عظمت عقوبة المصور لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض النفوس إليها تميل» (فتح الباري 10/397 طبعة المكتبة السلفية)، فالتاريخ يثبت حقيقةً أن الصورة الباهرة تتحول إلى فتنة آسرة، وأكثر الأصنام التي عبدها العرب في الجاهلية هي لأناس صالحين صوروهم على هيئة تماثيل، ومع تقادم الزمن وضعف التوحيد وتسلط الشيطان توافقت النفوس المشدودة إلى مادية الأرض إلى تقديسها من دون الله، حتى المسيحية كانت مترددة في إجازة رسم المسيح وصنع التماثيل له، فكانت البداية من القرن السابع تقريباً، ثم حاربتها البروتستانتية، ثم جاء عصر النهضة فازدهرت بشكل كبير صور المسيح وتماثيله في أغلب كنائس العالم، ولا يزال أغلب المعابد في الملل والنحل كافة في العالم تمارس تنميط الصور في ذهن المنتمي لديانة ما، كونها الأقرب إلى التأثير بسبب قوة الحاسة البصرية على بقية الحواس، ولأنها توصل رسالة واضحة يفهمها الجميع، حتى الأميّ، بخلاف الخطب والكلمات المقروءة التي تحتاج إلى إعمال العقل في التحليل والاستنتاج والربط بين المعاني والألفاظ.
وأمام هذه الحقائق الدينية التي تبين خطورة انحراف الصورة في تشكيل التصور، وانحباس العقل في أطرها الخادعة، يطرح العديد من التساؤلات حول الموقف الأمثل من طغيان الصورة اليوم؟! بكل تقنياتها الحديثة وجاذبيتها الفاتنة، والتي تلاحقنا في كل مكان، وأصبحت البديل المنافس للكلمات والأرقام، والناظر إلى حجم التعاطي اليومي مع الصورة المتحركة أو الثابتة يذهل من حجم الأرقام المتزايدة كل عام، فالمملكة العربية السعودية على سبيل المثال تعتبر الأولى عالمياً في مشاهدة وتنزيل المقاطع المرئية من الموقع الشهير «يوتيوب» بواقع 90 مليون مشاهدة يومياً (العربية.نت 10/12/2015)، وفي تقرير آخر أن السعوديين هم أكثر العرب استخداماً لبرنامج «سناب شات» كما احتلوا المركز الثاني عالمياً في عدد المستخدمين الفعليين (جريدة الرياض 20/7/2015)، هذه الصورة الباهرة التي تتربع بشكل مستعر ومستقر على عقول غالب أجيالنا اليوم إلى أين ستقودهم تلك الصورة. أمام هذه النازلة المابعد حداثية، أضع بين أيديكم بعض الملاحظات:
أولا: فقه الصورة اليوم، اعتبره من أدق وأهم مجالات التصور الذي تبنى عليه الأحكام، «لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره» (شرح الكوكب المنير 1/17)، والصورة اليوم قد تحيل الكذب صدقاً، وقد تخدع الحاذق المتمرس وتظهر له واقعاً مزيفاً لا يشك في حقيقته، فعندما يبني الفقيه حكمه على تلك الصور التي تعرضها مواقع التواصل والإعلام الجديد، فإن عليه الحذر مضاعفاً، فليست كل صورة تظهر في الأعلام أو يتداولها الملايين، أو تبكي لها العين ويدمي لها القلب، هي الواقع الحقيقي للأمر، فالمغالطات في التصور تقود للغلط في الأحكام، وكم من الصور والمقاطع التي أجبرت بعض المفتين أن يحكم على فعل أو حالة أو شخص أو جماعة بما هو قطعي في الوجوب أو الحرمة، بينما الواقع مزيف بالكامل. يقول ابن القيم: «كم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق؟ وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل؟ ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك، بل هذا أغلب أحوال الناس، ولكثرته وشهرته يستغنى عن الأمثلة» (أعلام الموقعين 5/99).
ثانياً: يعاني المسلمون في كثير من المناطق من انتشار الفكر المتطرف، خصوصا فكر «داعش»، ويستغرب الكثير من المراقبين كيف يتم تجنيد شباب أغرار بسرعة كبيرة وفي مناطق تمثل أماناً علمياً وحصناً من الشبهات، ومع ذلك يعتنق هؤلاء الشباب أخطر أنواع الأفكار صداماً وعنفاً وحرباً على الجميع، وينفذون أوامر قياداتهم الضالة بكل خضوع وطاعة ولو أن يقتل أمه أو أباه، ولهذا يثور الكثير من الأسئلة في تحليل هذه الحالة من الخطورة، وفي تقديري أن للصورة تأثيراً كبيراً على هؤلاء الشباب الذين لم يعتادوا على حلق العلم ومجالس الفقهاء، بل غالبيتهم من مدمني الألعاب القتالية الإلكترونية ومقاطع «يوتيوب» وأفلام الإثارة، ولهذا أدمنوا هذا النمط من التلقي، وفطنت «داعش» أو من يقف خلفها إلى ضرورة استغلال هذا الشكل من التجنيد، من خلال سحر الصورة وجاذبية المقطع التصويري من دون الحاجة لقناعات خطابية وبراهين عقلية. وكشفت دراسة قام بها معهد «بروكنغز»، أن غالبية الحسابات تنشط من السعودية من خلال وجود أكثر من 866 حساباً، وكشفت الدراسة أيضاً عن وجود أكثر من 3 ملايين تغريدة تروّج ل «داعش» على «تويتر» وأكثر من 1.7 مليون مقطع فيديو إرهابي متاح للمشاهدة!(جريدة العرب 11/8/2015م).
ثالثاً: يحرص العالم الغربي على فرض سيطرته على العالم واستحواذه على مقدراته بالأساليب الناعمة، فلم يعد للقوة المادية مسوغ إلا في البيئات المستنزفة أو المستهلكة، والاستحواذ اليوم يكاد ينحصر في من يملك المعلومة والصورة (شبكات عنكبوتية، أقمار اصطناعية، مواقع تواصل، وكالات إعلامية، صناعة أفلام وهكذا)، ولا أظن أحداً يختلف على الهيمنة الأميركية اليوم على سوق التأثير المرئي والمعلوماتي، وهذا يمنح قوة في الانتشار وسرعة في الوصول وقدرة على خلق الأعداء والأصدقاء وتبديل الأدوار بين الملائكة والشياطين وفق متطلبات السياسة ومقتضياتها، وهناك عدد من الدراسات الحديثة التي تثبت ذلك بلا مواربة.
السؤال: ما هو المطلوب بعد هذا العرض لغواية الصورة وتأثيراتها المستقبلية على الفرد والمجتمع؟ أعتقد أن حماية العقل وتحصينه ستكون ذات صعوبة بالغة، ولكن منافسة الموجود ببدائل صالحة ومؤثرة ليست بالأمر المتعسر، خصوصاً أن أدوات صناعة الصورة ونشرها لم تعد حكراً على أحد، بل متاحة ومتيسرة للجميع، شرط وجود هدف وغاية وتخطيط استراتيجي يقاوم سحر الأعين ويجعل الوعي يقظاً من خطر اغتياله أثناء ارتخائه في لحظات متعته الآسرة، فإذا كانت التوراة قالت قديماً: «في البدء كانت الكلمة»، فإن الإعلام اليوم يقول: «في العمق كانت الصورة»!
يعتمد عقل الإنسان في التفكير على مدخلات عديدة من الأفكار والآراء والتصورات. ويتم في هذا العقل، أو لنقل (المختبر)، إجراء عمليات ضخمة تحلّل وتقرّب وتربط بين المعلومات المخزنة والتصورات المتراكمة للخروج بقرار أو رأي يحتاج إليه الإنسان أمام لحظة عابرة يعيش من خلالها موقفاً أو يتذكر إنساناً أو يتدبر في معنى ورد على ذهنه. قد يسعفنا في تصوّر هذا التمازج الفعّال (هيوم) في نظريته حول العليّة من خلال التجاور والتتابع والارتباط الضروري بين الواقع وانطباعاتنا داخل الذهن.
هذا الشكل الطبيعي للتفكير وبناء الوعي حيال موضوع ما تناوله عدد من الفلاسفة القدماء، خصوصاً ديكارت وبيكون وكانط وغيرهم، في تحليل الأفكار والخيال والواقع التجريبي والعلاقة بينهما، ولكن أظن ذلك تغير، وربما تم نسفه، ليس لأنه كان خطأ فتبين لنا بعد ذلك الصواب، بل لأن العقل دخل عليه في التصور مؤثر جديد لم يسبق أن حدث بهذا الشكل من قبل، ألا وهو (الصورة) المعاصرة، الثابتة أو المتحركة.
وبالرجوع إلى الحقائق الغيبية والتاريخية، نجد أن للقرآن الكريم موقفاً واضحاً من تأثير الصورة على تفكير الإنسان وتغيير قناعاته، ولعل من أعظم الشواهد في ذلك تحذير القرآن من المنافقين بوصفٍ يختزل هذا المعنى من التحذير، كما في قوله تعالى «وإذا رأيتَهم تعجبك أجسامُهم وإن يقولوا تسمعْ لقولهم كأنهم خشبٌ مسنّدة يحسبون كلَّ صيحة عليهم هم العدوُّ فاحذرْهم قاتَلَهم اللهُ أنّى يؤفكون» (المنافقون: 4)، فالمظهر الخارجي أو الصورة الظاهرية تجعل الإنسان يعجب بالأجساد فتغيب معاني التقويم الأخرى فيتأثر بعيداً من البرهان والمنطق، وهذا حصل بالفعل مع بني إسرائيل عندما غاب عنهم موسى للقاء ربه تعالى، ثم قام السامري بجمع الحلي وصناعة عجل من ذهب له خوار، كما في قوله تعالى: «فأخرج لهم عجلاً جسداً له خُوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي * أفلا يرون ألاّ يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضرّاً ولا نفعاً» (طه: 88، 89) ومع ذلك عكفوا عليه يعبدونه من دون الله على رغم وجود نبي مرسل يعيش معهم، فالسامري دغدغ مشاعرهم بعيداً من منطقهم، بسحر الصورة المتجسدة والمتحركة أيضاً فتاهت عقولهم شغفاً بهذا الشكل من التصوير، ولأجل ذلك ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «إن أشدّ الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصوّرون» (رواه البخاري: 5606، ومسلم: 2109)، والسبب كما قال الخطابي: «إنما عظمت عقوبة المصور لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض النفوس إليها تميل» (فتح الباري 10/397 طبعة المكتبة السلفية)، فالتاريخ يثبت حقيقةً أن الصورة الباهرة تتحول إلى فتنة آسرة، وأكثر الأصنام التي عبدها العرب في الجاهلية هي لأناس صالحين صوروهم على هيئة تماثيل، ومع تقادم الزمن وضعف التوحيد وتسلط الشيطان توافقت النفوس المشدودة إلى مادية الأرض إلى تقديسها من دون الله، حتى المسيحية كانت مترددة في إجازة رسم المسيح وصنع التماثيل له، فكانت البداية من القرن السابع تقريباً، ثم حاربتها البروتستانتية، ثم جاء عصر النهضة فازدهرت بشكل كبير صور المسيح وتماثيله في أغلب كنائس العالم، ولا يزال أغلب المعابد في الملل والنحل كافة في العالم تمارس تنميط الصور في ذهن المنتمي لديانة ما، كونها الأقرب إلى التأثير بسبب قوة الحاسة البصرية على بقية الحواس، ولأنها توصل رسالة واضحة يفهمها الجميع، حتى الأميّ، بخلاف الخطب والكلمات المقروءة التي تحتاج إلى إعمال العقل في التحليل والاستنتاج والربط بين المعاني والألفاظ.
وأمام هذه الحقائق الدينية التي تبين خطورة انحراف الصورة في تشكيل التصور، وانحباس العقل في أطرها الخادعة، يطرح العديد من التساؤلات حول الموقف الأمثل من طغيان الصورة اليوم؟! بكل تقنياتها الحديثة وجاذبيتها الفاتنة، والتي تلاحقنا في كل مكان، وأصبحت البديل المنافس للكلمات والأرقام، والناظر إلى حجم التعاطي اليومي مع الصورة المتحركة أو الثابتة يذهل من حجم الأرقام المتزايدة كل عام، فالمملكة العربية السعودية على سبيل المثال تعتبر الأولى عالمياً في مشاهدة وتنزيل المقاطع المرئية من الموقع الشهير «يوتيوب» بواقع 90 مليون مشاهدة يومياً (العربية.نت 10/12/2015)، وفي تقرير آخر أن السعوديين هم أكثر العرب استخداماً لبرنامج «سناب شات» كما احتلوا المركز الثاني عالمياً في عدد المستخدمين الفعليين (جريدة الرياض 20/7/2015)، هذه الصورة الباهرة التي تتربع بشكل مستعر ومستقر على عقول غالب أجيالنا اليوم إلى أين ستقودهم تلك الصورة. أمام هذه النازلة المابعد حداثية، أضع بين أيديكم بعض الملاحظات:
أولا: فقه الصورة اليوم، اعتبره من أدق وأهم مجالات التصور الذي تبنى عليه الأحكام، «لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره» (شرح الكوكب المنير 1/17)، والصورة اليوم قد تحيل الكذب صدقاً، وقد تخدع الحاذق المتمرس وتظهر له واقعاً مزيفاً لا يشك في حقيقته، فعندما يبني الفقيه حكمه على تلك الصور التي تعرضها مواقع التواصل والإعلام الجديد، فإن عليه الحذر مضاعفاً، فليست كل صورة تظهر في الأعلام أو يتداولها الملايين، أو تبكي لها العين ويدمي لها القلب، هي الواقع الحقيقي للأمر، فالمغالطات في التصور تقود للغلط في الأحكام، وكم من الصور والمقاطع التي أجبرت بعض المفتين أن يحكم على فعل أو حالة أو شخص أو جماعة بما هو قطعي في الوجوب أو الحرمة، بينما الواقع مزيف بالكامل. يقول ابن القيم: «كم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق؟ وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل؟ ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك، بل هذا أغلب أحوال الناس، ولكثرته وشهرته يستغنى عن الأمثلة» (أعلام الموقعين 5/99).
ثانياً: يعاني المسلمون في كثير من المناطق من انتشار الفكر المتطرف، خصوصا فكر «داعش»، ويستغرب الكثير من المراقبين كيف يتم تجنيد شباب أغرار بسرعة كبيرة وفي مناطق تمثل أماناً علمياً وحصناً من الشبهات، ومع ذلك يعتنق هؤلاء الشباب أخطر أنواع الأفكار صداماً وعنفاً وحرباً على الجميع، وينفذون أوامر قياداتهم الضالة بكل خضوع وطاعة ولو أن يقتل أمه أو أباه، ولهذا يثور الكثير من الأسئلة في تحليل هذه الحالة من الخطورة، وفي تقديري أن للصورة تأثيراً كبيراً على هؤلاء الشباب الذين لم يعتادوا على حلق العلم ومجالس الفقهاء، بل غالبيتهم من مدمني الألعاب القتالية الإلكترونية ومقاطع «يوتيوب» وأفلام الإثارة، ولهذا أدمنوا هذا النمط من التلقي، وفطنت «داعش» أو من يقف خلفها إلى ضرورة استغلال هذا الشكل من التجنيد، من خلال سحر الصورة وجاذبية المقطع التصويري من دون الحاجة لقناعات خطابية وبراهين عقلية. وكشفت دراسة قام بها معهد «بروكنغز»، أن غالبية الحسابات تنشط من السعودية من خلال وجود أكثر من 866 حساباً، وكشفت الدراسة أيضاً عن وجود أكثر من 3 ملايين تغريدة تروّج ل «داعش» على «تويتر» وأكثر من 1.7 مليون مقطع فيديو إرهابي متاح للمشاهدة!(جريدة العرب 11/8/2015م).
ثالثاً: يحرص العالم الغربي على فرض سيطرته على العالم واستحواذه على مقدراته بالأساليب الناعمة، فلم يعد للقوة المادية مسوغ إلا في البيئات المستنزفة أو المستهلكة، والاستحواذ اليوم يكاد ينحصر في من يملك المعلومة والصورة (شبكات عنكبوتية، أقمار اصطناعية، مواقع تواصل، وكالات إعلامية، صناعة أفلام وهكذا)، ولا أظن أحداً يختلف على الهيمنة الأميركية اليوم على سوق التأثير المرئي والمعلوماتي، وهذا يمنح قوة في الانتشار وسرعة في الوصول وقدرة على خلق الأعداء والأصدقاء وتبديل الأدوار بين الملائكة والشياطين وفق متطلبات السياسة ومقتضياتها، وهناك عدد من الدراسات الحديثة التي تثبت ذلك بلا مواربة.
السؤال: ما هو المطلوب بعد هذا العرض لغواية الصورة وتأثيراتها المستقبلية على الفرد والمجتمع؟ أعتقد أن حماية العقل وتحصينه ستكون ذات صعوبة بالغة، ولكن منافسة الموجود ببدائل صالحة ومؤثرة ليست بالأمر المتعسر، خصوصاً أن أدوات صناعة الصورة ونشرها لم تعد حكراً على أحد، بل متاحة ومتيسرة للجميع، شرط وجود هدف وغاية وتخطيط استراتيجي يقاوم سحر الأعين ويجعل الوعي يقظاً من خطر اغتياله أثناء ارتخائه في لحظات متعته الآسرة، فإذا كانت التوراة قالت قديماً: «في البدء كانت الكلمة»، فإن الإعلام اليوم يقول: «في العمق كانت الصورة»!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.