7 أسباب تجعلك تشتهي المخللات فجأة.. خطر على صحتك    بعد تراجعه.. هل تستطيع مصر استعادة مستويات انتاج الغاز بحلول 2027؟    الأمن يقترب أكثر من المواطنين.. تدشين قسم شرطة زهراء أكتوبر 2| صور    أمن الفيوم يُعيد شخصًا من ذوي الاحتياجات الخاصة لأسرته بعد تقديم الرعاية اللازمة    قرار جديد من التموين بشأن عدادات المياه: حظر التركيب إلا بشروط    وصلة هزار بين أحمد وعمرو سعد على هامش حفله بالساحل الشمالي (فيديو)    وزارة العمل تعلن عن 11 فرصة عمل للمصريين في الأردن برواتب تصل إلى 350 دينارًا    مقاومة المضادات الحيوية: خطر جديد يهدد البشرية    أمر ملكي بإعفاء رئيس مؤسسة الصناعات العسكرية ومساعد وزير الدفاع السعودي    موعد انضمام محمد صلاح لمعسكر منتخب مصر استعدادا لإثيوبيا وبوركينا فاسو .. تعرف عليه    مانشستر يونايتد يدرس التحرك لضم آدم وارتون    جوان ألفينا يبدأ مشواره مع الزمالك بأداء واعد أمام المقاولون العرب    رد فعل شتوتغارت على أداء فولتماد أمام بايرن    أس: تشابي ألونسو ينوي الدفع بماستانتونو ضد أوساسونا    جبران يفتتح ندوة توعوية حول قانون العمل الجديد    الأعلى للجامعات يعلن موعد اختبار المواد التكميلية لشهر سبتمبر 2025    الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء: عدد سكان مصر يبلغ 108 ملايين نسمة    تحريات لكشف ملابسات اتهام مسن بمحاولة التهجم على سيدة وأطفالها بمدينة 6 أكتوبر    محافظ الجيزة يطمئن على الحالة الصحية لشهاب عبد العزيز بطل واقعة فتاة المنيب    إصابة 6 أشخاص فى انقلاب ميكروباص بطريق "الإسماعيلية- الزقازيق" الزراعى    وزير السياحة: حملة "إحنا مصر" تستهدف تحسين تجربة السائح والخدمة المقدمة    تصرف مفاجئ من أحمد حلمي خلال حفلة عمرو دياب بالساحل الشمالي    فنون شعبية وطرب أصيل في ليالي صيف بلدنا برأس البر ودمياط الجديدة    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    فيديو.. خالد الجندي: عدم الالتزام بقواعد المرور حرام شرعا    رد ساخر من البيت الأبيض بعد تقارير عن العثور على وثائق حساسة تخص قمة ألاسكا    رئيس الأركان الإسرائيلي: نُقرّ اليوم خطة المرحلة التالية من الحرب    وكيل صحه الأقصر يتفقد وحدة الكرنك القديم الصحية لمتابعة سير العمل    صحة الوادى الجديد: انتظام العمل فى المرحلة الثالثة من مبادرة "100 يوم صحة"    إلزام المؤسسات التعليمية بقبول 5% من ذوى الإعاقة في المنظومة.. اعرف التفاصيل    رئيس شئون القران بالأوقاف: مسابقة دولة التلاوة رحلة لاكتشاف جيل جديد من القراء    الداخلية تكشف ملابسات تداول منشور تضمن مشاجرة بين شخصين خلافا على انتظار سيارتيهما بمطروح    الأنبا ثيئودوسيوس يترأس القداس الإلهي بكنيسة العذراء مريم بفيصل    حقيقة انتقال هاكان للدوري السعودي    رئيس هيئة قناة السويس يوجه بصرف مليون جنيه دعما عاجلا لنادى الإسماعيلى    الخارجية الروسية تتوقع فوز خالد العناني مرشح مصر في سباق اليونيسكو    ربان مصري يدخل موسوعة جينيس بأطول غطسة تحت المياه لمريض بالشلل الرباعي    مصر تحصد ذهبية التتابع المختلط بختام بطولة العالم للخماسي الحديث تحت 15 عامًا    وظائف شاغرة بالمطابع الأميرية.. تعرف على الشروط والتفاصيل    اللواء محمد إبراهيم الدويري: أوهام «إسرائيل الكبرى» لن تتحقق وتصريحات نتنياهو تدق ناقوس الخطر عربياً    136 مجلسا فقهيا لمناقشة خطورة سرقة الكهرباء بمطروح    محافظ كفر الشيخ يدشن مبادرة لزراعة الأشجار المثمرة ضمن مبادرة 100 مليون شجرة    مدير عام الطب البيطري سوهاج يناشد المواطنين سرعة تحصين حيواناتهم ضد العترة الجديدة    شئون البيئة بالشرقية: التفتيش على 63 منشآة غذائية وصناعية وتحرير محاضر للمخالفين    رئيسة القومي للمرأة تهنئ المستشار محمد الشناوي بتوليه رئاسة هيئة النيابة الإدارية    في 3 خطوات بس.. للاستمتاع بحلوى تشيز كيك الفراولة على البارد بطريقة بسيطة    المفتي يوضح حكم النية عند الاغتسال من الجنابة    حزب الجبهة الوطنية: تلقينا أكثر من 170 طلب ترشح لانتخابات مجلس النواب    مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي يعلن تفاصيل مسابقة "أبو الحسن سلام" للبحث العلمي    مصرع شخص وإصابة 24 آخرين إثر انحراف قطار عن مساره في شرق باكستان    دعوى قضائية أمريكية تتهم منصة روبلوكس ب"تسهيل استغلال الأطفال"    فتنة إسرائيلية    حظك اليوم وتوقعات الأبراج    رويترز: سماع دوي انفجارات قرب محطة للكهرباء في العاصمة اليمنية صنعاء    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الأحد 17 أغسطس 2025    الأونروا: معظم أطفال غزة معرضون للموت إذا لم يتلقوا العلاج فورًا    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الجديد.. سعر الذهب اليوم الأحد 17 أغسطس محليًا وعالميًا (تفاصيل)    ملخص وأهداف مباراة ريال مايوركا ضد برشلونة 3-0 فى الدورى الإسبانى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سحر الاستهلال الروائي
نشر في صوت البلد يوم 20 - 06 - 2016

الرواية الجيدة، والممتعة حقاً، تبدأ بجملة أو فقرة مشوقة، قد تكون مثيرة، أو مدهشة، أو مرحة، أو حزينة، ولكنها قادرة على أن تجذب انتباه القاريء وتحفيزه على مواصلة القراءة.
الدراسات النقدية العربية، التي عنيت بالاستهلال الروائي قليلة جداً، وان وجدت فهي شكلية في معظمها، لا تعبر عن خصوصيات الاستهلال ودلالته ووظيفته كأهم عنصر من عناصر البناء الروائي.
بعض النقاد العراقيين، الذين عالجوا موضوع الاستهلال الروائي، أخذوا يبحثون عما قيل في الاستهلال في الكتب اللغوية والبلاغية العربية القديمة، ولكن تلك الكتب تتحدث عن أهمية الاستهلال في المؤلفات والمصنفات عموما، وليس عن الاستهلال الروائي. فالرواية الحديثة بمفهومها الحقيقي فن سردي غربي خالص.
ويقول النقاد الغربيون إن الرواية - كجنس ادبي مستقل - خرجت من رحم رواية سيرفانتس "دون كيشوت"، التي نشر جزؤها الأول في العام 1605. ثم انتقل فن الرواية الى الثقافة العربية مع ما انتقل اليها من فكر الغرب وفنونه وآدابه في بواكير عصر النهضة العربية .
الاستهلال في الرواية شيء، وفي غيرها من كتابات شيء آخر تماماً، وان كان التشويق مطلوباً في مفتتح أي رواية، أو كتاب أو دراسة أو مقال .
مفتتح الرواية أمر حيوي، وبالغ الأهمية، ويجب ألا يضجر القاريء بالعبارات المأثورة المبتذلة (الكليشيهات) وأن لا يقحم الكاتب فيه المقدمة التي يبرر بها عمله أو الوصف الممل أو الأستطراد غير الضروري، بل أن يتضمن معلومات مهمة عن بطل الرواية أو إحدى الشخصيات الرئيسية فيها، وأن يكون مركزاً، وقصيرا وواضحا، وضرورياً في سياق الرواية، ومن ثم تطويره في عدة جمل لاحقة على نحو يثير الأهتمام والفضول، لأن القراء لديهم الكثير من الكتب للاختيار من بينها. الاستهلال هو الذي يشكل عند المتلقي الانطباع الفوري عن الرواية وهل تستحق أن تقرأ.
من الخطأ استهلال الرواية بمفتتح درامي من أجل جذب انتباه القاريء، لأن القاري لم يطلع بعد على القصة ولم يتعرف على شخصيات الرواية، لذا لا يتفاعل مع الحوادث الدرامية ولا يتجاوب معها اذا كان لا يعرف شيئا عن المواقف والشخصيات .
ليس المهم في الرواية المعاصرة، أن يكون الاستهلال وصفاً أو مشهداً أو حواراً، أو فكرة جديدة أو حقيقة ما، بل أن يكون قوياً ومثيرأ. ومن العبث تصنيف الاستهلالات أو تبويبها في أنماط وقوالب محددة، فلكل رواية استهلال خاص بها لا علاقة له بأي استهلال في أي رواية أخرى .
الاستهلال أصعب وأهم فقرة في أي رواية، وقد عانى كبار الروائيين في العالم من معضلة العثور على الاستهلال المناسب عند شروعهم بكتابة رواية جديدة.
يقول غابريل غارسيا ماركيز: "المشكلة الرئيسية تكمن في البداية. الجملة الأولى في الرواية أو القصة تحدد امتداد النص، ونطاقه، ونبرته، وإيقاعه، وأسلوبه. أصعب ما في الرواية – الفقرة الأولى. ما أن تتقن ذلك حتى تسير الأمور بانسيابية وسهولة. في الفقرة الأولى أنت تحل معظم المشاكل التي تواجهك في كتابة الرواية – تحدد الموضوع والإيقاع. لقد بحثت عن الجملة الأولى المناسبة لرواية (خريف البطريق) طوال ثلاثة أشهر. ولكن عندما وجدتها، أدركت كيف تكون الرواية بأسرها".
وكتب ايفان بونين، يقول: "الرواية الجيدة تبدأ بجملة حقيقية. حقاً ان الجملة الأولى لها الدور الحسم، فهي التي تحدد في المقام الأول حجم العمل وصوته ككل. واذا لم تنجح في العثور على الصوت الصحيح، فإنه لا مفر من تأجيل الكتابة أو التخلص مما كتبت ورميه في سلة المهملات" .
اما ليف تولستوي، فقد بدأ روايته الشهيرة "آنّا كارينينا" بالجملة التالية الشهيرة، التي دخلت الى المناهج الدراسية للفروع الأدبية في جامعات العالم: "كل الأسر السعيدة تتشابه، ولكن كل أسرة شقية فريدة في شقائها". ثم أضاف "كل شيء اختلط في بيت آل اوبلونسكي".
وبعد كتابة هاتين الجملتين أسرع ليقول لأهل بيته: "لقد أنجزت الرواية". حقاً لقد اتضحت حبكة الرواية أمام عينيه كاملة فهو يعرف على وجه التحقيق، ما الذي سيحدث لاحقاً، وكيف سيكتب الرواية؟
الجملة الأولى المثالية، ليست مجرد استهلال، أو بوابة للولوج الى عالم الرواية، بل يرسم العمل إجمالاً، كأنها الرواية كلها مضغوطة في جملة واحدة. وكما قال وليم بليك: "أن نرى العالم في حبة رمل".
السطر الأول في رواية فرانز كافكا "التحول" التي ترجمت الى العربية تحت عنوان "المسخ" يحتوي على مجمل مضمونها: ما أن استيقظ غريغور سامسا صباح أحد الأيام من أحلام مضطربة، حتى وجد نفسه في فراشه وقد تحول الى حشرة عملاقة". يمكننا أن نرى في هذا الاستهلال رحلة سامسا الداخلية ومحنته المؤلمة وموته في نهاية المطاف .
لا حاجة لكتابة وصف ممل للطبيعة أو وصف الأشخاص الذين لن يلتقي بهم القاريء في سياق الرواية، على سبيل المثال، "رأيت جارتي من الطابق الثالث منحنية على رجل جريح تهمس له بشيء"، هذه هي الإشارة الوحيدة الى الجارة، في رواية روسية حديثة ولا يرد ذكرها في الفقرات والفصول اللاحقة. في هذه الحالة تظل الجارة في ذهن القاريء، ويحس بخيبة أمل كبيرة عندما يكمل قراءة الرواية حتى النهاية دون أن يلتقي بها في النص، ولو مرة واحدة. وكما قال أنطون تشيخوف: "لا يمكنك تعليق بندقية محشوة بالرصاص على الحائط، إذا لم تكن في نيتك أن تطلق النار لاحقاً ".
لا ينبغي أن تبدأ الرواية بالمواعظ الأخلاقية أو التأملات الفلسفية لعدة أسباب منها ان القاريء لا يحب المواعظ وان الجرعة الفلسفية لا تعطى بشكل مركز بل ينبغي توزيعها بالتساوي على امتداد الرواية. ولا مجال في المفتتح للتفكير في معنى الحياة أو أن تسأل: ما العمل إذن!
أحيانا يكون الاستهلال صورة حية يسهل تحويله الى لقطة سنمائية. صورة تركز على التفاصيل الصغيرة التي تدعونا للتعرف على حياة شخصية مهمة في الرواية، لذا فإن الاستهلال يبدو وكأنه بداية لفيلم سينمائي تقودنا الى المشاهد الأخرى. صورة تستخدم فيها الأضاءة والنبرة، لنقل المزاج السائد في الرواية الى القاريء .
لكل استهلال صوته المنفرد. نحن نحب أن نسمع القصص من رواة أو ساردين يتميزون بالصوت الحسن، والاستهلال ينبغي أن يكون بصوت شخصية مهمة في القصة، وهذا الصوت خاص برواية معينة ولا يتكرر أبداً في رواية أخرى.
المفتتح الجيد يثير أسئلة. القاريء يسأل من هم هؤلاء الناس ولماذا تصرفوا على هذا النحو. اذا بدأت مباشرة بالصراع لن يكون بوسعك ان تحقق هدفك، لأن المشهد لن يجذب من دون سياق؟
لتقرأ هذا الاستهلال الحاذق والمؤثر الذي يفتتح به ماركيز رائعته "مائة عام من العزلة" التي تتصدّر أفضل روايات القرن العشرين: "بعد سنوات طويلة، وأمام فصيل الإعدام، تذكر الكولونيل اوريليانو بوينديا، عصر ذلك اليوم البعيد، الذي اصطحبه فيه أبوه، لكي يتعرف على الجليد".
الاستهلال هنا ليس صاخباً ولكنه يجذب من حيث الحبكة والشخصية وخط الانفتاح. لماذا يواجه الكولونيل حكما بالإعدام رميا بالرصاص؟ وأين كان يعيش، ومتى أخذ ابنه ليكتشف الجليد؟
ماركيز يمسك بتلابيب القاريء من الجملة الأولي. لنقرأ معاً هذا الاستهلال الذي بدأ به قصته الرائعة: "رحلة موفقة، سيدي الرئيس: "جلس على مصطبة خشبية تحت الأوراق الصفراء في المنتزه المهجور، متأملاً الوز ذي اللون المغبر، وكلتا يديه على المقبض الفضي لعصاه، وراح يفكر بالموت".
القاريء يسأل: من هو هذا الرجل، ولماذا يفكر بالموت؟ الأوراق الصفراء المتساقطة في أواخر الخريف تلميح ذكي الى ما ينتظر الرجل في أيامه التي أوشكت على النهاية .
قد يكون الاستهلال محاكاةً ساخرة، كما في رواية "كبرياء وهوى" لجين أوستن: "حقيقة معترف بها عالمياً أن الرجل الأعزب صاحب الثروة الجيدة بحاجة إلى زوجة".
أما سكوت فيتزجيرالد فقد افتتح رواية "غاتسبي العظيم" بالفقرة التالية الموحية بما سيأتي: "في سنوات صغري وطيشي، أخبرني والدي بنصيحة ظلّت تدور في رأسي منذ ذلك الحين: عندما تشعر بالرغبة في انتقاد أحد، تذكر فقط أن ما أتيح لك في هذا العالم من مزايا لم يتح لغيرك من الناس".
قد يكون الاستهلال شاعرياً ينطبع في ذهن القاريء بنبرته وايقاعه. كما في رواية "لوليتا" لنابوكوف، التي تبدأ بالجملة التالية: "لوليتا ضوء حياتي، والنار المتوقدة في عروقي. لوليتا خطيئتي، وروحي . لو – لي - تا، رأس اللسان حين يمضي في رحلة من ثلاث خطوات عبر الحلق، ليدق ثلاثاً فوق اللسان ، لو – لي – تا". هذا المفتتح العاطفي يكشف عن الفاجعة التي ستأتي .
أما الروائي العراقي أحمد سعداوي، فقد افتتح روايته "البلد الجميل" بالجملة التالية: "نود أغنيتي التي رحلت. نصف تفاحتي، سمكة أيامي اللائبة في بحيرة صمتي، كلمتي التي اكررها مرارا". وليس من الصعب للقاريء ان يلاحظ التطابق في الإيقاع بين "لوليتا" و"البلد الجميل" رغم اختلاف الكلمات .
وقد شبه الكاتب الروسي يوري بولياكوف الاستهلال الشاعري بالقبلة الأولى في الحب فهي تعد بما لا يمكن التنبؤء به .
استهل الكاتب المصري المبدع بهاء طاهر رواية "الحب في المنفى" بمقطع شاعري جميل ومركز، وكأنه دعوة للقاريء للدخول الى عالم الرواية، التي تعد من أروع الروايات العربية في القرن العشرين وقد وصفها أحد كبار النقاد المصريين بأنها كاملة الأوصاف، الكاتب يستهل الرواية بهذا المفتتح المثير: "اشتهيتها اشتهاءً عاجزاً، كخوف الدنس بالمحارم. كانت صغيرة وجميلة، وكنت عجوزاً وأباً ومطلقاً. لم يطرأ على بالي الحب، ولم أفعل شيئاً لأعبر عن اشتهائي. لكنها قالت لي فيما بعد: كان يطل من عينيك".
وكما نرى فإن الخيال الممتع يسري خفيفا لطيفا في ثنايا الرواية منذ البداية، بطريقة تثير حب الاستطلاع إثارة متصلة، والعبارات قصيرة ومحددة وواضحة يستريح لها القاريء وتغريه بمواصلة القراءة .
يتبين لنا من كل هذه الأمثلة أن، الاستهلال يتنوع ويتخذ أشكالاً مختلفة، وليس ثمة أي قواعد لكتابته. والواقع أن لكل رواية جيدة استهلالا خاصا بها، ينطبع في الذاكرة اذا كان قوياً ومؤثراً، وعلى الروائي ان يتحلى بالصبر لأن البحث المضني عن الاستهلال الأفضل لروايته قد يستغرق وقتا أطول مما يتصور .
الروائي العراقي عموماً لا يتعب نفسه ولا يصرف الوقت الكافي ولا الجهد اللازم للعثور على الاستهلال البارع، باستثناء البعض منهم، وفي مقدمتهم الروائي المبدع أحمد سعداوي، حيث لم أجد في معظم تلك الروايات أي استهلال قوي ومؤثر يثير الرغبة في مواصلة القراءة، فالرواية العراقية الحديثة، غالبا ما تبدأ بموعظة أخلاقية أو حكمة، أو حقيقة معروفة، أو وصف عادي، أو حوار ممل، فيفقد القاريء كل شهية لقراءة الرواية فيطويها في ضيق ويلقيها جانباً وربما كان هذا أحد أسباب عزوف المتلقي العراقي عن اقتناء الروايات العراقية وقراءتها، في حين أن الرواية العربية غير العراقية لها سوق رائجة نسبيا في العراق .
الرواية الجيدة، والممتعة حقاً، تبدأ بجملة أو فقرة مشوقة، قد تكون مثيرة، أو مدهشة، أو مرحة، أو حزينة، ولكنها قادرة على أن تجذب انتباه القاريء وتحفيزه على مواصلة القراءة.
الدراسات النقدية العربية، التي عنيت بالاستهلال الروائي قليلة جداً، وان وجدت فهي شكلية في معظمها، لا تعبر عن خصوصيات الاستهلال ودلالته ووظيفته كأهم عنصر من عناصر البناء الروائي.
بعض النقاد العراقيين، الذين عالجوا موضوع الاستهلال الروائي، أخذوا يبحثون عما قيل في الاستهلال في الكتب اللغوية والبلاغية العربية القديمة، ولكن تلك الكتب تتحدث عن أهمية الاستهلال في المؤلفات والمصنفات عموما، وليس عن الاستهلال الروائي. فالرواية الحديثة بمفهومها الحقيقي فن سردي غربي خالص.
ويقول النقاد الغربيون إن الرواية - كجنس ادبي مستقل - خرجت من رحم رواية سيرفانتس "دون كيشوت"، التي نشر جزؤها الأول في العام 1605. ثم انتقل فن الرواية الى الثقافة العربية مع ما انتقل اليها من فكر الغرب وفنونه وآدابه في بواكير عصر النهضة العربية .
الاستهلال في الرواية شيء، وفي غيرها من كتابات شيء آخر تماماً، وان كان التشويق مطلوباً في مفتتح أي رواية، أو كتاب أو دراسة أو مقال .
مفتتح الرواية أمر حيوي، وبالغ الأهمية، ويجب ألا يضجر القاريء بالعبارات المأثورة المبتذلة (الكليشيهات) وأن لا يقحم الكاتب فيه المقدمة التي يبرر بها عمله أو الوصف الممل أو الأستطراد غير الضروري، بل أن يتضمن معلومات مهمة عن بطل الرواية أو إحدى الشخصيات الرئيسية فيها، وأن يكون مركزاً، وقصيرا وواضحا، وضرورياً في سياق الرواية، ومن ثم تطويره في عدة جمل لاحقة على نحو يثير الأهتمام والفضول، لأن القراء لديهم الكثير من الكتب للاختيار من بينها. الاستهلال هو الذي يشكل عند المتلقي الانطباع الفوري عن الرواية وهل تستحق أن تقرأ.
من الخطأ استهلال الرواية بمفتتح درامي من أجل جذب انتباه القاريء، لأن القاري لم يطلع بعد على القصة ولم يتعرف على شخصيات الرواية، لذا لا يتفاعل مع الحوادث الدرامية ولا يتجاوب معها اذا كان لا يعرف شيئا عن المواقف والشخصيات .
ليس المهم في الرواية المعاصرة، أن يكون الاستهلال وصفاً أو مشهداً أو حواراً، أو فكرة جديدة أو حقيقة ما، بل أن يكون قوياً ومثيرأ. ومن العبث تصنيف الاستهلالات أو تبويبها في أنماط وقوالب محددة، فلكل رواية استهلال خاص بها لا علاقة له بأي استهلال في أي رواية أخرى .
الاستهلال أصعب وأهم فقرة في أي رواية، وقد عانى كبار الروائيين في العالم من معضلة العثور على الاستهلال المناسب عند شروعهم بكتابة رواية جديدة.
يقول غابريل غارسيا ماركيز: "المشكلة الرئيسية تكمن في البداية. الجملة الأولى في الرواية أو القصة تحدد امتداد النص، ونطاقه، ونبرته، وإيقاعه، وأسلوبه. أصعب ما في الرواية – الفقرة الأولى. ما أن تتقن ذلك حتى تسير الأمور بانسيابية وسهولة. في الفقرة الأولى أنت تحل معظم المشاكل التي تواجهك في كتابة الرواية – تحدد الموضوع والإيقاع. لقد بحثت عن الجملة الأولى المناسبة لرواية (خريف البطريق) طوال ثلاثة أشهر. ولكن عندما وجدتها، أدركت كيف تكون الرواية بأسرها".
وكتب ايفان بونين، يقول: "الرواية الجيدة تبدأ بجملة حقيقية. حقاً ان الجملة الأولى لها الدور الحسم، فهي التي تحدد في المقام الأول حجم العمل وصوته ككل. واذا لم تنجح في العثور على الصوت الصحيح، فإنه لا مفر من تأجيل الكتابة أو التخلص مما كتبت ورميه في سلة المهملات" .
اما ليف تولستوي، فقد بدأ روايته الشهيرة "آنّا كارينينا" بالجملة التالية الشهيرة، التي دخلت الى المناهج الدراسية للفروع الأدبية في جامعات العالم: "كل الأسر السعيدة تتشابه، ولكن كل أسرة شقية فريدة في شقائها". ثم أضاف "كل شيء اختلط في بيت آل اوبلونسكي".
وبعد كتابة هاتين الجملتين أسرع ليقول لأهل بيته: "لقد أنجزت الرواية". حقاً لقد اتضحت حبكة الرواية أمام عينيه كاملة فهو يعرف على وجه التحقيق، ما الذي سيحدث لاحقاً، وكيف سيكتب الرواية؟
الجملة الأولى المثالية، ليست مجرد استهلال، أو بوابة للولوج الى عالم الرواية، بل يرسم العمل إجمالاً، كأنها الرواية كلها مضغوطة في جملة واحدة. وكما قال وليم بليك: "أن نرى العالم في حبة رمل".
السطر الأول في رواية فرانز كافكا "التحول" التي ترجمت الى العربية تحت عنوان "المسخ" يحتوي على مجمل مضمونها: ما أن استيقظ غريغور سامسا صباح أحد الأيام من أحلام مضطربة، حتى وجد نفسه في فراشه وقد تحول الى حشرة عملاقة". يمكننا أن نرى في هذا الاستهلال رحلة سامسا الداخلية ومحنته المؤلمة وموته في نهاية المطاف .
لا حاجة لكتابة وصف ممل للطبيعة أو وصف الأشخاص الذين لن يلتقي بهم القاريء في سياق الرواية، على سبيل المثال، "رأيت جارتي من الطابق الثالث منحنية على رجل جريح تهمس له بشيء"، هذه هي الإشارة الوحيدة الى الجارة، في رواية روسية حديثة ولا يرد ذكرها في الفقرات والفصول اللاحقة. في هذه الحالة تظل الجارة في ذهن القاريء، ويحس بخيبة أمل كبيرة عندما يكمل قراءة الرواية حتى النهاية دون أن يلتقي بها في النص، ولو مرة واحدة. وكما قال أنطون تشيخوف: "لا يمكنك تعليق بندقية محشوة بالرصاص على الحائط، إذا لم تكن في نيتك أن تطلق النار لاحقاً ".
لا ينبغي أن تبدأ الرواية بالمواعظ الأخلاقية أو التأملات الفلسفية لعدة أسباب منها ان القاريء لا يحب المواعظ وان الجرعة الفلسفية لا تعطى بشكل مركز بل ينبغي توزيعها بالتساوي على امتداد الرواية. ولا مجال في المفتتح للتفكير في معنى الحياة أو أن تسأل: ما العمل إذن!
أحيانا يكون الاستهلال صورة حية يسهل تحويله الى لقطة سنمائية. صورة تركز على التفاصيل الصغيرة التي تدعونا للتعرف على حياة شخصية مهمة في الرواية، لذا فإن الاستهلال يبدو وكأنه بداية لفيلم سينمائي تقودنا الى المشاهد الأخرى. صورة تستخدم فيها الأضاءة والنبرة، لنقل المزاج السائد في الرواية الى القاريء .
لكل استهلال صوته المنفرد. نحن نحب أن نسمع القصص من رواة أو ساردين يتميزون بالصوت الحسن، والاستهلال ينبغي أن يكون بصوت شخصية مهمة في القصة، وهذا الصوت خاص برواية معينة ولا يتكرر أبداً في رواية أخرى.
المفتتح الجيد يثير أسئلة. القاريء يسأل من هم هؤلاء الناس ولماذا تصرفوا على هذا النحو. اذا بدأت مباشرة بالصراع لن يكون بوسعك ان تحقق هدفك، لأن المشهد لن يجذب من دون سياق؟
لتقرأ هذا الاستهلال الحاذق والمؤثر الذي يفتتح به ماركيز رائعته "مائة عام من العزلة" التي تتصدّر أفضل روايات القرن العشرين: "بعد سنوات طويلة، وأمام فصيل الإعدام، تذكر الكولونيل اوريليانو بوينديا، عصر ذلك اليوم البعيد، الذي اصطحبه فيه أبوه، لكي يتعرف على الجليد".
الاستهلال هنا ليس صاخباً ولكنه يجذب من حيث الحبكة والشخصية وخط الانفتاح. لماذا يواجه الكولونيل حكما بالإعدام رميا بالرصاص؟ وأين كان يعيش، ومتى أخذ ابنه ليكتشف الجليد؟
ماركيز يمسك بتلابيب القاريء من الجملة الأولي. لنقرأ معاً هذا الاستهلال الذي بدأ به قصته الرائعة: "رحلة موفقة، سيدي الرئيس: "جلس على مصطبة خشبية تحت الأوراق الصفراء في المنتزه المهجور، متأملاً الوز ذي اللون المغبر، وكلتا يديه على المقبض الفضي لعصاه، وراح يفكر بالموت".
القاريء يسأل: من هو هذا الرجل، ولماذا يفكر بالموت؟ الأوراق الصفراء المتساقطة في أواخر الخريف تلميح ذكي الى ما ينتظر الرجل في أيامه التي أوشكت على النهاية .
قد يكون الاستهلال محاكاةً ساخرة، كما في رواية "كبرياء وهوى" لجين أوستن: "حقيقة معترف بها عالمياً أن الرجل الأعزب صاحب الثروة الجيدة بحاجة إلى زوجة".
أما سكوت فيتزجيرالد فقد افتتح رواية "غاتسبي العظيم" بالفقرة التالية الموحية بما سيأتي: "في سنوات صغري وطيشي، أخبرني والدي بنصيحة ظلّت تدور في رأسي منذ ذلك الحين: عندما تشعر بالرغبة في انتقاد أحد، تذكر فقط أن ما أتيح لك في هذا العالم من مزايا لم يتح لغيرك من الناس".
قد يكون الاستهلال شاعرياً ينطبع في ذهن القاريء بنبرته وايقاعه. كما في رواية "لوليتا" لنابوكوف، التي تبدأ بالجملة التالية: "لوليتا ضوء حياتي، والنار المتوقدة في عروقي. لوليتا خطيئتي، وروحي . لو – لي - تا، رأس اللسان حين يمضي في رحلة من ثلاث خطوات عبر الحلق، ليدق ثلاثاً فوق اللسان ، لو – لي – تا". هذا المفتتح العاطفي يكشف عن الفاجعة التي ستأتي .
أما الروائي العراقي أحمد سعداوي، فقد افتتح روايته "البلد الجميل" بالجملة التالية: "نود أغنيتي التي رحلت. نصف تفاحتي، سمكة أيامي اللائبة في بحيرة صمتي، كلمتي التي اكررها مرارا". وليس من الصعب للقاريء ان يلاحظ التطابق في الإيقاع بين "لوليتا" و"البلد الجميل" رغم اختلاف الكلمات .
وقد شبه الكاتب الروسي يوري بولياكوف الاستهلال الشاعري بالقبلة الأولى في الحب فهي تعد بما لا يمكن التنبؤء به .
استهل الكاتب المصري المبدع بهاء طاهر رواية "الحب في المنفى" بمقطع شاعري جميل ومركز، وكأنه دعوة للقاريء للدخول الى عالم الرواية، التي تعد من أروع الروايات العربية في القرن العشرين وقد وصفها أحد كبار النقاد المصريين بأنها كاملة الأوصاف، الكاتب يستهل الرواية بهذا المفتتح المثير: "اشتهيتها اشتهاءً عاجزاً، كخوف الدنس بالمحارم. كانت صغيرة وجميلة، وكنت عجوزاً وأباً ومطلقاً. لم يطرأ على بالي الحب، ولم أفعل شيئاً لأعبر عن اشتهائي. لكنها قالت لي فيما بعد: كان يطل من عينيك".
وكما نرى فإن الخيال الممتع يسري خفيفا لطيفا في ثنايا الرواية منذ البداية، بطريقة تثير حب الاستطلاع إثارة متصلة، والعبارات قصيرة ومحددة وواضحة يستريح لها القاريء وتغريه بمواصلة القراءة .
يتبين لنا من كل هذه الأمثلة أن، الاستهلال يتنوع ويتخذ أشكالاً مختلفة، وليس ثمة أي قواعد لكتابته. والواقع أن لكل رواية جيدة استهلالا خاصا بها، ينطبع في الذاكرة اذا كان قوياً ومؤثراً، وعلى الروائي ان يتحلى بالصبر لأن البحث المضني عن الاستهلال الأفضل لروايته قد يستغرق وقتا أطول مما يتصور .
الروائي العراقي عموماً لا يتعب نفسه ولا يصرف الوقت الكافي ولا الجهد اللازم للعثور على الاستهلال البارع، باستثناء البعض منهم، وفي مقدمتهم الروائي المبدع أحمد سعداوي، حيث لم أجد في معظم تلك الروايات أي استهلال قوي ومؤثر يثير الرغبة في مواصلة القراءة، فالرواية العراقية الحديثة، غالبا ما تبدأ بموعظة أخلاقية أو حكمة، أو حقيقة معروفة، أو وصف عادي، أو حوار ممل، فيفقد القاريء كل شهية لقراءة الرواية فيطويها في ضيق ويلقيها جانباً وربما كان هذا أحد أسباب عزوف المتلقي العراقي عن اقتناء الروايات العراقية وقراءتها، في حين أن الرواية العربية غير العراقية لها سوق رائجة نسبيا في العراق .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.