تعليم القاهرة ترفع درجة الاستعداد للعام الدراسي الجديد    شعبة المستوردين: مبادرة تخفيض الأسعار تخفف الأعباء عن كاهل المواطنين    الأونروا: يجب تغيير سياسة المنع الكامل لادخال المساعدات الإنسانية إلى غزة    الخارجية الفلسطينية: استباحة الاحتلال والمستوطنين للضفة الغربية انتهاك صارخ وتكريس لمخططات التهويد والضم    الشوط الأول| بايرن ميونخ يضرب لايبزج في افتتاح الدوري الألماني    تشكيل تشيلسي أمام وست هام في الدوري الإنجليزي    إبراهيم مدكور يكتب: الرئيس يصدق.. والرياضة تنطلق    ضبط وكر لتجارة المخدرات بكلابشة والقبض على عنصرين شديدي الخطورة بأسوان    الداخلية تكشف حقيقة تعرض سيدة للضرب وتحطيم شقتها بالدقهلية    توافد جمهور «ويجز» في العلمين.. قواعد وإرشادات الحفل    أهلها يحجروا عليها| جمهور السوشيال ميديا يرد على أنباء عودة «حسام وشيرين»    ترامب: الوضع الراهن في غزة يجب أن ينتهي    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل    ليس بطلًا.. بل «مجرم حرب»    كندا تتراجع عن الرسوم الجمركية العقابية على السلع الأمريكية    التعادل السلبي يحسم مباراة السكة الحديد مع الترسانة في دوري المحترفين    خسارة سيدات الطائرة أمام صاحب الأرض ببطولة العالم بتايلاند    كرة طائرة - منتخب مصر يخسر أمام تايلاند في افتتاح بطولة العالم سيدات    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    موعد إجازة المولد النبوي 2025 للقطاعين الحكومي والخاص (رسميًا)    رواية مختلقة.. وزارة الداخلية تكشف حقيقة تعدي شخص على جارته    موقف بطولي على قضبان السكة الحديد.. إنقاذ شاب من الموت تحت عجلات القطار بمزلقان الغمراوي ببني سويف    الإيجار القديم والبكالوريا والأحزاب.. وزير الشؤون النيابية يوضح مواقف الحكومة    إسلام عفيفى يكتب: الصفقات المرفوضة وتحالفات الضرورة    مدرب توتنهام: لا مكان لمن لا يريد ارتداء شعارنا    الوادي الجديد تطلق منصة إلكترونية للترويج السياحي والحرف اليدوية    صراع الخير والشر في عرض مدينة الأحلام بالمهرجان الختامي لشرائح ونوادي مسرح الطفل    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    الماتشا تخفض الكوليسترول الضار - حقيقة أم خرافة؟    لغة لا تساوى وزنها علفًا    بعد مداهمة وكر التسول.. حملات مكثفة لغلق فتحات الكباري بالجيزة| صور    «التنظيم والإدارة» يعلن توقف الامتحانات بمركز تقييم القدرات.. لهذا السبب    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    محمود فوزي: الحكومة جادة في تطبيق قانون الإيجار القديم وحماية الفئات الضعيفة    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    المجاعة تهدد نصف مليون في غزة.. كيف يضغط المجتمع الدولي على إسرائيل؟    نجاح عملية دقيقة لاستئصال ورم بالمخ وقاع الجمجمة بمستشفى العامرية العام بالإسكندرية    عميد طب القصر العيني يتابع جاهزية البنية التحتية استعدادًا لانطلاق العام الدراسي    لمرضى السكري - اعتاد على تناول زبدة الفول السوداني في هذا التوقيت    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    "درويش" يحقق قفزة كبيرة ويتخطى 20 مليون جنيه في 9 أيام    الكشف الطبى على 276 مريضا من أهالى قرى البنجر فى قافلة مجانية بالإسكندرية    المقاومة العراقية تطالب بالانسحاب الحقيقي للقوات الأمريكية من العراق    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    بنسبة تخفيض تصل 30%.. افتتاح سوق اليوم الواحد فى مدينة دهب    ضبط ورشة بها 196 قطعة سلاح في الشرابية    المرور يضبط 120 ألف مخالفة و162 متعاطيًا للمخدرات خلال 24 ساعة    الاقتصاد المصرى يتعافى    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    وزارة التخطيط ووكالة جايكا تطلقان تقريرا مشتركا حول 70 عاما من الصداقة والثقة المصرية اليابانية    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    وزير الثقافة يستقبل وفد الموهوبين ببرنامج «اكتشاف الأبطال» من قرى «حياة كريمة»    محافظ أسيوط يسلم جهاز عروسة لابنة إحدى المستفيدات من مشروعات تمكين المرأة    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    نجم الأهلي السابق: أفضل تواجد عبد الله السعيد على مقاعد البدلاء ومشاركته في آخر نصف ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سحر الاستهلال الروائي
نشر في صوت البلد يوم 20 - 06 - 2016

الرواية الجيدة، والممتعة حقاً، تبدأ بجملة أو فقرة مشوقة، قد تكون مثيرة، أو مدهشة، أو مرحة، أو حزينة، ولكنها قادرة على أن تجذب انتباه القاريء وتحفيزه على مواصلة القراءة.
الدراسات النقدية العربية، التي عنيت بالاستهلال الروائي قليلة جداً، وان وجدت فهي شكلية في معظمها، لا تعبر عن خصوصيات الاستهلال ودلالته ووظيفته كأهم عنصر من عناصر البناء الروائي.
بعض النقاد العراقيين، الذين عالجوا موضوع الاستهلال الروائي، أخذوا يبحثون عما قيل في الاستهلال في الكتب اللغوية والبلاغية العربية القديمة، ولكن تلك الكتب تتحدث عن أهمية الاستهلال في المؤلفات والمصنفات عموما، وليس عن الاستهلال الروائي. فالرواية الحديثة بمفهومها الحقيقي فن سردي غربي خالص.
ويقول النقاد الغربيون إن الرواية - كجنس ادبي مستقل - خرجت من رحم رواية سيرفانتس "دون كيشوت"، التي نشر جزؤها الأول في العام 1605. ثم انتقل فن الرواية الى الثقافة العربية مع ما انتقل اليها من فكر الغرب وفنونه وآدابه في بواكير عصر النهضة العربية .
الاستهلال في الرواية شيء، وفي غيرها من كتابات شيء آخر تماماً، وان كان التشويق مطلوباً في مفتتح أي رواية، أو كتاب أو دراسة أو مقال .
مفتتح الرواية أمر حيوي، وبالغ الأهمية، ويجب ألا يضجر القاريء بالعبارات المأثورة المبتذلة (الكليشيهات) وأن لا يقحم الكاتب فيه المقدمة التي يبرر بها عمله أو الوصف الممل أو الأستطراد غير الضروري، بل أن يتضمن معلومات مهمة عن بطل الرواية أو إحدى الشخصيات الرئيسية فيها، وأن يكون مركزاً، وقصيرا وواضحا، وضرورياً في سياق الرواية، ومن ثم تطويره في عدة جمل لاحقة على نحو يثير الأهتمام والفضول، لأن القراء لديهم الكثير من الكتب للاختيار من بينها. الاستهلال هو الذي يشكل عند المتلقي الانطباع الفوري عن الرواية وهل تستحق أن تقرأ.
من الخطأ استهلال الرواية بمفتتح درامي من أجل جذب انتباه القاريء، لأن القاري لم يطلع بعد على القصة ولم يتعرف على شخصيات الرواية، لذا لا يتفاعل مع الحوادث الدرامية ولا يتجاوب معها اذا كان لا يعرف شيئا عن المواقف والشخصيات .
ليس المهم في الرواية المعاصرة، أن يكون الاستهلال وصفاً أو مشهداً أو حواراً، أو فكرة جديدة أو حقيقة ما، بل أن يكون قوياً ومثيرأ. ومن العبث تصنيف الاستهلالات أو تبويبها في أنماط وقوالب محددة، فلكل رواية استهلال خاص بها لا علاقة له بأي استهلال في أي رواية أخرى .
الاستهلال أصعب وأهم فقرة في أي رواية، وقد عانى كبار الروائيين في العالم من معضلة العثور على الاستهلال المناسب عند شروعهم بكتابة رواية جديدة.
يقول غابريل غارسيا ماركيز: "المشكلة الرئيسية تكمن في البداية. الجملة الأولى في الرواية أو القصة تحدد امتداد النص، ونطاقه، ونبرته، وإيقاعه، وأسلوبه. أصعب ما في الرواية – الفقرة الأولى. ما أن تتقن ذلك حتى تسير الأمور بانسيابية وسهولة. في الفقرة الأولى أنت تحل معظم المشاكل التي تواجهك في كتابة الرواية – تحدد الموضوع والإيقاع. لقد بحثت عن الجملة الأولى المناسبة لرواية (خريف البطريق) طوال ثلاثة أشهر. ولكن عندما وجدتها، أدركت كيف تكون الرواية بأسرها".
وكتب ايفان بونين، يقول: "الرواية الجيدة تبدأ بجملة حقيقية. حقاً ان الجملة الأولى لها الدور الحسم، فهي التي تحدد في المقام الأول حجم العمل وصوته ككل. واذا لم تنجح في العثور على الصوت الصحيح، فإنه لا مفر من تأجيل الكتابة أو التخلص مما كتبت ورميه في سلة المهملات" .
اما ليف تولستوي، فقد بدأ روايته الشهيرة "آنّا كارينينا" بالجملة التالية الشهيرة، التي دخلت الى المناهج الدراسية للفروع الأدبية في جامعات العالم: "كل الأسر السعيدة تتشابه، ولكن كل أسرة شقية فريدة في شقائها". ثم أضاف "كل شيء اختلط في بيت آل اوبلونسكي".
وبعد كتابة هاتين الجملتين أسرع ليقول لأهل بيته: "لقد أنجزت الرواية". حقاً لقد اتضحت حبكة الرواية أمام عينيه كاملة فهو يعرف على وجه التحقيق، ما الذي سيحدث لاحقاً، وكيف سيكتب الرواية؟
الجملة الأولى المثالية، ليست مجرد استهلال، أو بوابة للولوج الى عالم الرواية، بل يرسم العمل إجمالاً، كأنها الرواية كلها مضغوطة في جملة واحدة. وكما قال وليم بليك: "أن نرى العالم في حبة رمل".
السطر الأول في رواية فرانز كافكا "التحول" التي ترجمت الى العربية تحت عنوان "المسخ" يحتوي على مجمل مضمونها: ما أن استيقظ غريغور سامسا صباح أحد الأيام من أحلام مضطربة، حتى وجد نفسه في فراشه وقد تحول الى حشرة عملاقة". يمكننا أن نرى في هذا الاستهلال رحلة سامسا الداخلية ومحنته المؤلمة وموته في نهاية المطاف .
لا حاجة لكتابة وصف ممل للطبيعة أو وصف الأشخاص الذين لن يلتقي بهم القاريء في سياق الرواية، على سبيل المثال، "رأيت جارتي من الطابق الثالث منحنية على رجل جريح تهمس له بشيء"، هذه هي الإشارة الوحيدة الى الجارة، في رواية روسية حديثة ولا يرد ذكرها في الفقرات والفصول اللاحقة. في هذه الحالة تظل الجارة في ذهن القاريء، ويحس بخيبة أمل كبيرة عندما يكمل قراءة الرواية حتى النهاية دون أن يلتقي بها في النص، ولو مرة واحدة. وكما قال أنطون تشيخوف: "لا يمكنك تعليق بندقية محشوة بالرصاص على الحائط، إذا لم تكن في نيتك أن تطلق النار لاحقاً ".
لا ينبغي أن تبدأ الرواية بالمواعظ الأخلاقية أو التأملات الفلسفية لعدة أسباب منها ان القاريء لا يحب المواعظ وان الجرعة الفلسفية لا تعطى بشكل مركز بل ينبغي توزيعها بالتساوي على امتداد الرواية. ولا مجال في المفتتح للتفكير في معنى الحياة أو أن تسأل: ما العمل إذن!
أحيانا يكون الاستهلال صورة حية يسهل تحويله الى لقطة سنمائية. صورة تركز على التفاصيل الصغيرة التي تدعونا للتعرف على حياة شخصية مهمة في الرواية، لذا فإن الاستهلال يبدو وكأنه بداية لفيلم سينمائي تقودنا الى المشاهد الأخرى. صورة تستخدم فيها الأضاءة والنبرة، لنقل المزاج السائد في الرواية الى القاريء .
لكل استهلال صوته المنفرد. نحن نحب أن نسمع القصص من رواة أو ساردين يتميزون بالصوت الحسن، والاستهلال ينبغي أن يكون بصوت شخصية مهمة في القصة، وهذا الصوت خاص برواية معينة ولا يتكرر أبداً في رواية أخرى.
المفتتح الجيد يثير أسئلة. القاريء يسأل من هم هؤلاء الناس ولماذا تصرفوا على هذا النحو. اذا بدأت مباشرة بالصراع لن يكون بوسعك ان تحقق هدفك، لأن المشهد لن يجذب من دون سياق؟
لتقرأ هذا الاستهلال الحاذق والمؤثر الذي يفتتح به ماركيز رائعته "مائة عام من العزلة" التي تتصدّر أفضل روايات القرن العشرين: "بعد سنوات طويلة، وأمام فصيل الإعدام، تذكر الكولونيل اوريليانو بوينديا، عصر ذلك اليوم البعيد، الذي اصطحبه فيه أبوه، لكي يتعرف على الجليد".
الاستهلال هنا ليس صاخباً ولكنه يجذب من حيث الحبكة والشخصية وخط الانفتاح. لماذا يواجه الكولونيل حكما بالإعدام رميا بالرصاص؟ وأين كان يعيش، ومتى أخذ ابنه ليكتشف الجليد؟
ماركيز يمسك بتلابيب القاريء من الجملة الأولي. لنقرأ معاً هذا الاستهلال الذي بدأ به قصته الرائعة: "رحلة موفقة، سيدي الرئيس: "جلس على مصطبة خشبية تحت الأوراق الصفراء في المنتزه المهجور، متأملاً الوز ذي اللون المغبر، وكلتا يديه على المقبض الفضي لعصاه، وراح يفكر بالموت".
القاريء يسأل: من هو هذا الرجل، ولماذا يفكر بالموت؟ الأوراق الصفراء المتساقطة في أواخر الخريف تلميح ذكي الى ما ينتظر الرجل في أيامه التي أوشكت على النهاية .
قد يكون الاستهلال محاكاةً ساخرة، كما في رواية "كبرياء وهوى" لجين أوستن: "حقيقة معترف بها عالمياً أن الرجل الأعزب صاحب الثروة الجيدة بحاجة إلى زوجة".
أما سكوت فيتزجيرالد فقد افتتح رواية "غاتسبي العظيم" بالفقرة التالية الموحية بما سيأتي: "في سنوات صغري وطيشي، أخبرني والدي بنصيحة ظلّت تدور في رأسي منذ ذلك الحين: عندما تشعر بالرغبة في انتقاد أحد، تذكر فقط أن ما أتيح لك في هذا العالم من مزايا لم يتح لغيرك من الناس".
قد يكون الاستهلال شاعرياً ينطبع في ذهن القاريء بنبرته وايقاعه. كما في رواية "لوليتا" لنابوكوف، التي تبدأ بالجملة التالية: "لوليتا ضوء حياتي، والنار المتوقدة في عروقي. لوليتا خطيئتي، وروحي . لو – لي - تا، رأس اللسان حين يمضي في رحلة من ثلاث خطوات عبر الحلق، ليدق ثلاثاً فوق اللسان ، لو – لي – تا". هذا المفتتح العاطفي يكشف عن الفاجعة التي ستأتي .
أما الروائي العراقي أحمد سعداوي، فقد افتتح روايته "البلد الجميل" بالجملة التالية: "نود أغنيتي التي رحلت. نصف تفاحتي، سمكة أيامي اللائبة في بحيرة صمتي، كلمتي التي اكررها مرارا". وليس من الصعب للقاريء ان يلاحظ التطابق في الإيقاع بين "لوليتا" و"البلد الجميل" رغم اختلاف الكلمات .
وقد شبه الكاتب الروسي يوري بولياكوف الاستهلال الشاعري بالقبلة الأولى في الحب فهي تعد بما لا يمكن التنبؤء به .
استهل الكاتب المصري المبدع بهاء طاهر رواية "الحب في المنفى" بمقطع شاعري جميل ومركز، وكأنه دعوة للقاريء للدخول الى عالم الرواية، التي تعد من أروع الروايات العربية في القرن العشرين وقد وصفها أحد كبار النقاد المصريين بأنها كاملة الأوصاف، الكاتب يستهل الرواية بهذا المفتتح المثير: "اشتهيتها اشتهاءً عاجزاً، كخوف الدنس بالمحارم. كانت صغيرة وجميلة، وكنت عجوزاً وأباً ومطلقاً. لم يطرأ على بالي الحب، ولم أفعل شيئاً لأعبر عن اشتهائي. لكنها قالت لي فيما بعد: كان يطل من عينيك".
وكما نرى فإن الخيال الممتع يسري خفيفا لطيفا في ثنايا الرواية منذ البداية، بطريقة تثير حب الاستطلاع إثارة متصلة، والعبارات قصيرة ومحددة وواضحة يستريح لها القاريء وتغريه بمواصلة القراءة .
يتبين لنا من كل هذه الأمثلة أن، الاستهلال يتنوع ويتخذ أشكالاً مختلفة، وليس ثمة أي قواعد لكتابته. والواقع أن لكل رواية جيدة استهلالا خاصا بها، ينطبع في الذاكرة اذا كان قوياً ومؤثراً، وعلى الروائي ان يتحلى بالصبر لأن البحث المضني عن الاستهلال الأفضل لروايته قد يستغرق وقتا أطول مما يتصور .
الروائي العراقي عموماً لا يتعب نفسه ولا يصرف الوقت الكافي ولا الجهد اللازم للعثور على الاستهلال البارع، باستثناء البعض منهم، وفي مقدمتهم الروائي المبدع أحمد سعداوي، حيث لم أجد في معظم تلك الروايات أي استهلال قوي ومؤثر يثير الرغبة في مواصلة القراءة، فالرواية العراقية الحديثة، غالبا ما تبدأ بموعظة أخلاقية أو حكمة، أو حقيقة معروفة، أو وصف عادي، أو حوار ممل، فيفقد القاريء كل شهية لقراءة الرواية فيطويها في ضيق ويلقيها جانباً وربما كان هذا أحد أسباب عزوف المتلقي العراقي عن اقتناء الروايات العراقية وقراءتها، في حين أن الرواية العربية غير العراقية لها سوق رائجة نسبيا في العراق .
الرواية الجيدة، والممتعة حقاً، تبدأ بجملة أو فقرة مشوقة، قد تكون مثيرة، أو مدهشة، أو مرحة، أو حزينة، ولكنها قادرة على أن تجذب انتباه القاريء وتحفيزه على مواصلة القراءة.
الدراسات النقدية العربية، التي عنيت بالاستهلال الروائي قليلة جداً، وان وجدت فهي شكلية في معظمها، لا تعبر عن خصوصيات الاستهلال ودلالته ووظيفته كأهم عنصر من عناصر البناء الروائي.
بعض النقاد العراقيين، الذين عالجوا موضوع الاستهلال الروائي، أخذوا يبحثون عما قيل في الاستهلال في الكتب اللغوية والبلاغية العربية القديمة، ولكن تلك الكتب تتحدث عن أهمية الاستهلال في المؤلفات والمصنفات عموما، وليس عن الاستهلال الروائي. فالرواية الحديثة بمفهومها الحقيقي فن سردي غربي خالص.
ويقول النقاد الغربيون إن الرواية - كجنس ادبي مستقل - خرجت من رحم رواية سيرفانتس "دون كيشوت"، التي نشر جزؤها الأول في العام 1605. ثم انتقل فن الرواية الى الثقافة العربية مع ما انتقل اليها من فكر الغرب وفنونه وآدابه في بواكير عصر النهضة العربية .
الاستهلال في الرواية شيء، وفي غيرها من كتابات شيء آخر تماماً، وان كان التشويق مطلوباً في مفتتح أي رواية، أو كتاب أو دراسة أو مقال .
مفتتح الرواية أمر حيوي، وبالغ الأهمية، ويجب ألا يضجر القاريء بالعبارات المأثورة المبتذلة (الكليشيهات) وأن لا يقحم الكاتب فيه المقدمة التي يبرر بها عمله أو الوصف الممل أو الأستطراد غير الضروري، بل أن يتضمن معلومات مهمة عن بطل الرواية أو إحدى الشخصيات الرئيسية فيها، وأن يكون مركزاً، وقصيرا وواضحا، وضرورياً في سياق الرواية، ومن ثم تطويره في عدة جمل لاحقة على نحو يثير الأهتمام والفضول، لأن القراء لديهم الكثير من الكتب للاختيار من بينها. الاستهلال هو الذي يشكل عند المتلقي الانطباع الفوري عن الرواية وهل تستحق أن تقرأ.
من الخطأ استهلال الرواية بمفتتح درامي من أجل جذب انتباه القاريء، لأن القاري لم يطلع بعد على القصة ولم يتعرف على شخصيات الرواية، لذا لا يتفاعل مع الحوادث الدرامية ولا يتجاوب معها اذا كان لا يعرف شيئا عن المواقف والشخصيات .
ليس المهم في الرواية المعاصرة، أن يكون الاستهلال وصفاً أو مشهداً أو حواراً، أو فكرة جديدة أو حقيقة ما، بل أن يكون قوياً ومثيرأ. ومن العبث تصنيف الاستهلالات أو تبويبها في أنماط وقوالب محددة، فلكل رواية استهلال خاص بها لا علاقة له بأي استهلال في أي رواية أخرى .
الاستهلال أصعب وأهم فقرة في أي رواية، وقد عانى كبار الروائيين في العالم من معضلة العثور على الاستهلال المناسب عند شروعهم بكتابة رواية جديدة.
يقول غابريل غارسيا ماركيز: "المشكلة الرئيسية تكمن في البداية. الجملة الأولى في الرواية أو القصة تحدد امتداد النص، ونطاقه، ونبرته، وإيقاعه، وأسلوبه. أصعب ما في الرواية – الفقرة الأولى. ما أن تتقن ذلك حتى تسير الأمور بانسيابية وسهولة. في الفقرة الأولى أنت تحل معظم المشاكل التي تواجهك في كتابة الرواية – تحدد الموضوع والإيقاع. لقد بحثت عن الجملة الأولى المناسبة لرواية (خريف البطريق) طوال ثلاثة أشهر. ولكن عندما وجدتها، أدركت كيف تكون الرواية بأسرها".
وكتب ايفان بونين، يقول: "الرواية الجيدة تبدأ بجملة حقيقية. حقاً ان الجملة الأولى لها الدور الحسم، فهي التي تحدد في المقام الأول حجم العمل وصوته ككل. واذا لم تنجح في العثور على الصوت الصحيح، فإنه لا مفر من تأجيل الكتابة أو التخلص مما كتبت ورميه في سلة المهملات" .
اما ليف تولستوي، فقد بدأ روايته الشهيرة "آنّا كارينينا" بالجملة التالية الشهيرة، التي دخلت الى المناهج الدراسية للفروع الأدبية في جامعات العالم: "كل الأسر السعيدة تتشابه، ولكن كل أسرة شقية فريدة في شقائها". ثم أضاف "كل شيء اختلط في بيت آل اوبلونسكي".
وبعد كتابة هاتين الجملتين أسرع ليقول لأهل بيته: "لقد أنجزت الرواية". حقاً لقد اتضحت حبكة الرواية أمام عينيه كاملة فهو يعرف على وجه التحقيق، ما الذي سيحدث لاحقاً، وكيف سيكتب الرواية؟
الجملة الأولى المثالية، ليست مجرد استهلال، أو بوابة للولوج الى عالم الرواية، بل يرسم العمل إجمالاً، كأنها الرواية كلها مضغوطة في جملة واحدة. وكما قال وليم بليك: "أن نرى العالم في حبة رمل".
السطر الأول في رواية فرانز كافكا "التحول" التي ترجمت الى العربية تحت عنوان "المسخ" يحتوي على مجمل مضمونها: ما أن استيقظ غريغور سامسا صباح أحد الأيام من أحلام مضطربة، حتى وجد نفسه في فراشه وقد تحول الى حشرة عملاقة". يمكننا أن نرى في هذا الاستهلال رحلة سامسا الداخلية ومحنته المؤلمة وموته في نهاية المطاف .
لا حاجة لكتابة وصف ممل للطبيعة أو وصف الأشخاص الذين لن يلتقي بهم القاريء في سياق الرواية، على سبيل المثال، "رأيت جارتي من الطابق الثالث منحنية على رجل جريح تهمس له بشيء"، هذه هي الإشارة الوحيدة الى الجارة، في رواية روسية حديثة ولا يرد ذكرها في الفقرات والفصول اللاحقة. في هذه الحالة تظل الجارة في ذهن القاريء، ويحس بخيبة أمل كبيرة عندما يكمل قراءة الرواية حتى النهاية دون أن يلتقي بها في النص، ولو مرة واحدة. وكما قال أنطون تشيخوف: "لا يمكنك تعليق بندقية محشوة بالرصاص على الحائط، إذا لم تكن في نيتك أن تطلق النار لاحقاً ".
لا ينبغي أن تبدأ الرواية بالمواعظ الأخلاقية أو التأملات الفلسفية لعدة أسباب منها ان القاريء لا يحب المواعظ وان الجرعة الفلسفية لا تعطى بشكل مركز بل ينبغي توزيعها بالتساوي على امتداد الرواية. ولا مجال في المفتتح للتفكير في معنى الحياة أو أن تسأل: ما العمل إذن!
أحيانا يكون الاستهلال صورة حية يسهل تحويله الى لقطة سنمائية. صورة تركز على التفاصيل الصغيرة التي تدعونا للتعرف على حياة شخصية مهمة في الرواية، لذا فإن الاستهلال يبدو وكأنه بداية لفيلم سينمائي تقودنا الى المشاهد الأخرى. صورة تستخدم فيها الأضاءة والنبرة، لنقل المزاج السائد في الرواية الى القاريء .
لكل استهلال صوته المنفرد. نحن نحب أن نسمع القصص من رواة أو ساردين يتميزون بالصوت الحسن، والاستهلال ينبغي أن يكون بصوت شخصية مهمة في القصة، وهذا الصوت خاص برواية معينة ولا يتكرر أبداً في رواية أخرى.
المفتتح الجيد يثير أسئلة. القاريء يسأل من هم هؤلاء الناس ولماذا تصرفوا على هذا النحو. اذا بدأت مباشرة بالصراع لن يكون بوسعك ان تحقق هدفك، لأن المشهد لن يجذب من دون سياق؟
لتقرأ هذا الاستهلال الحاذق والمؤثر الذي يفتتح به ماركيز رائعته "مائة عام من العزلة" التي تتصدّر أفضل روايات القرن العشرين: "بعد سنوات طويلة، وأمام فصيل الإعدام، تذكر الكولونيل اوريليانو بوينديا، عصر ذلك اليوم البعيد، الذي اصطحبه فيه أبوه، لكي يتعرف على الجليد".
الاستهلال هنا ليس صاخباً ولكنه يجذب من حيث الحبكة والشخصية وخط الانفتاح. لماذا يواجه الكولونيل حكما بالإعدام رميا بالرصاص؟ وأين كان يعيش، ومتى أخذ ابنه ليكتشف الجليد؟
ماركيز يمسك بتلابيب القاريء من الجملة الأولي. لنقرأ معاً هذا الاستهلال الذي بدأ به قصته الرائعة: "رحلة موفقة، سيدي الرئيس: "جلس على مصطبة خشبية تحت الأوراق الصفراء في المنتزه المهجور، متأملاً الوز ذي اللون المغبر، وكلتا يديه على المقبض الفضي لعصاه، وراح يفكر بالموت".
القاريء يسأل: من هو هذا الرجل، ولماذا يفكر بالموت؟ الأوراق الصفراء المتساقطة في أواخر الخريف تلميح ذكي الى ما ينتظر الرجل في أيامه التي أوشكت على النهاية .
قد يكون الاستهلال محاكاةً ساخرة، كما في رواية "كبرياء وهوى" لجين أوستن: "حقيقة معترف بها عالمياً أن الرجل الأعزب صاحب الثروة الجيدة بحاجة إلى زوجة".
أما سكوت فيتزجيرالد فقد افتتح رواية "غاتسبي العظيم" بالفقرة التالية الموحية بما سيأتي: "في سنوات صغري وطيشي، أخبرني والدي بنصيحة ظلّت تدور في رأسي منذ ذلك الحين: عندما تشعر بالرغبة في انتقاد أحد، تذكر فقط أن ما أتيح لك في هذا العالم من مزايا لم يتح لغيرك من الناس".
قد يكون الاستهلال شاعرياً ينطبع في ذهن القاريء بنبرته وايقاعه. كما في رواية "لوليتا" لنابوكوف، التي تبدأ بالجملة التالية: "لوليتا ضوء حياتي، والنار المتوقدة في عروقي. لوليتا خطيئتي، وروحي . لو – لي - تا، رأس اللسان حين يمضي في رحلة من ثلاث خطوات عبر الحلق، ليدق ثلاثاً فوق اللسان ، لو – لي – تا". هذا المفتتح العاطفي يكشف عن الفاجعة التي ستأتي .
أما الروائي العراقي أحمد سعداوي، فقد افتتح روايته "البلد الجميل" بالجملة التالية: "نود أغنيتي التي رحلت. نصف تفاحتي، سمكة أيامي اللائبة في بحيرة صمتي، كلمتي التي اكررها مرارا". وليس من الصعب للقاريء ان يلاحظ التطابق في الإيقاع بين "لوليتا" و"البلد الجميل" رغم اختلاف الكلمات .
وقد شبه الكاتب الروسي يوري بولياكوف الاستهلال الشاعري بالقبلة الأولى في الحب فهي تعد بما لا يمكن التنبؤء به .
استهل الكاتب المصري المبدع بهاء طاهر رواية "الحب في المنفى" بمقطع شاعري جميل ومركز، وكأنه دعوة للقاريء للدخول الى عالم الرواية، التي تعد من أروع الروايات العربية في القرن العشرين وقد وصفها أحد كبار النقاد المصريين بأنها كاملة الأوصاف، الكاتب يستهل الرواية بهذا المفتتح المثير: "اشتهيتها اشتهاءً عاجزاً، كخوف الدنس بالمحارم. كانت صغيرة وجميلة، وكنت عجوزاً وأباً ومطلقاً. لم يطرأ على بالي الحب، ولم أفعل شيئاً لأعبر عن اشتهائي. لكنها قالت لي فيما بعد: كان يطل من عينيك".
وكما نرى فإن الخيال الممتع يسري خفيفا لطيفا في ثنايا الرواية منذ البداية، بطريقة تثير حب الاستطلاع إثارة متصلة، والعبارات قصيرة ومحددة وواضحة يستريح لها القاريء وتغريه بمواصلة القراءة .
يتبين لنا من كل هذه الأمثلة أن، الاستهلال يتنوع ويتخذ أشكالاً مختلفة، وليس ثمة أي قواعد لكتابته. والواقع أن لكل رواية جيدة استهلالا خاصا بها، ينطبع في الذاكرة اذا كان قوياً ومؤثراً، وعلى الروائي ان يتحلى بالصبر لأن البحث المضني عن الاستهلال الأفضل لروايته قد يستغرق وقتا أطول مما يتصور .
الروائي العراقي عموماً لا يتعب نفسه ولا يصرف الوقت الكافي ولا الجهد اللازم للعثور على الاستهلال البارع، باستثناء البعض منهم، وفي مقدمتهم الروائي المبدع أحمد سعداوي، حيث لم أجد في معظم تلك الروايات أي استهلال قوي ومؤثر يثير الرغبة في مواصلة القراءة، فالرواية العراقية الحديثة، غالبا ما تبدأ بموعظة أخلاقية أو حكمة، أو حقيقة معروفة، أو وصف عادي، أو حوار ممل، فيفقد القاريء كل شهية لقراءة الرواية فيطويها في ضيق ويلقيها جانباً وربما كان هذا أحد أسباب عزوف المتلقي العراقي عن اقتناء الروايات العراقية وقراءتها، في حين أن الرواية العربية غير العراقية لها سوق رائجة نسبيا في العراق .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.