الأنبا تيموثاوس يدشن معمودية كنيسة الصليب بأرض الفرح    محافظ الشرقية يفتتح النصب التذكاري للشهداء    تخرج الدورة الأولى للمعينين بالهيئات القضائية من الأكاديمية العسكرية المصرية    وزير البترول يتابع تطور تنفيذ المنصة الرقمية للخامات التعدينية    وزير التجارة يبحث مع اتحاد المصنعين الأتراك مقومات الاستثمار بمصر    سلاح التجويع    الكويت: حبس مواطن ومقيمين احتياطا لاتهامهم بالقتل الخطأ فى حريق المنقف    يورو 2024.. نزلة برد تجتاح معسكر منتخب فرنسا    "أول مرة أشوف ظلم وهبطل كورة".. يوسف حسن يهاجم إدارة الزمالك لتجاهله    عضو إدارة الأهلي السابق: خبيت حسني عبد ربه لضمه.. وخطفت لاعبا من داخل الزمالك    ذروة الموجة الحارة.. الأرصاد تعلن حالة الطقس والظواهر الجوية غدًا    تطورات جديدة في بلاغ سمية الخشاب ضد رامز جلال    اليوم.. نتفليكس تعرض فيلم الصف الأخير ل شريف محسن    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الجمعة 14-6-2024، السرطان والأسد والعذراء    قرار جمهوري بتعيين الدكتور فهيم فتحي عميدًا لكلية الآثار بجامعة سوهاج    رضا عبد العال: أرفض عودة بن شرقي للزمالك    وكيل الصحة بمطروح يتابع سير العمل بمستشفى مارينا وغرفة إدارة الأزمات والطوارئ    أسواق عسير تشهد إقبالًا كثيفًا لشراء الأضاحي    عاجل- الرئيس السيسي يتوجه اليوم إلى السعودية لأداء فريضة الحج    تعرف على شروط الخروج على المعاش المبكر 2024.. للقطاعين (الخاص والعام)    محاولة اختطاف خطيبة مطرب المهرجانات مسلم.. والفنان يعلق " عملت إلى فيه المصيب ومشيته عشان راجل كبير "    رئيس صندوق التنمية الحضرية يتابع الموقف التنفيذي لمشروع "حدائق تلال الفسطاط"    «يوم الحج الأعظم».. 8 أدعية مستجابة كان يرددها النبي في يوم التروية لمحو الذنوب والفوز بالجنة    فطار يوم عرفات.. محشي مشكل وبط وملوخية    حملة للتبرع بالدم بمديرية أمن الأقصر    مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية يحذر من مصدر جديد للأمراض في غزة    رسميًا.. موعد صلاة عيد الأضحى 2024 في جميع مدن ومحافظات مصر (بالتوقيت المحلي)    انفجار مولد الكهرباء.. السيطرة على حريق نشب بمركز ترجمة بمدينة نصر    النيابة أمام محكمة «الطفلة ريتاج»: «الأم انتُزّعت من قلبها الرحمة»    نقيب الأشراف مهنئًا بالعيد: مناسبة لاستلهام معاني الوحدة والمحبة والسلام    قطع الكهرباء عن عدة مناطق بطوخ الجمعة (موعد ومدة الانقطاع)    صور | احتفالا باليوم العالمي للدراجات.. ماراثون بمشاركة 300 شاب بالوادي الجديد    بيان عاجل بشأن نقص أدوية الأمراض المزمنة وألبان الأطفال الرضع    آداب عين شمس تعلن نتائج الفصل الدراسي الثاني    قبول دفعة جديدة من المجندين بالقوات المسلحة مرحلة أكتوبر 2024    أمل سلامة: تنسيقية شباب الأحزاب نموذج للعمل الجماعي    مصرع مواطن صدمته سيارة أثناء عبوره لطريق الواحات    ضبط نجار مسلح أطلق النار على زوجته بسبب الخلافات فى الدقهلية    عاجل| رخص أسعار أسهم الشركات المصرية يفتح شهية المستثمرين للاستحواذ عليها    بالأسماء.. غيابات مؤثرة تضرب الأهلي قبل موقعة فاركو بدوري نايل    المفتى يجيب.. ما يجب على المضحي إذا ضاعت أو ماتت أضحيته قبل يوم العيد    لبيك اللهم لبيك.. الصور الأولى لمخيمات عرفات استعدادا لاستقبال الجاج    كندا تعلن عن تزويد أوكرانيا بصواريخ ومساعدات عسكرية أخرى    إيران: ما يحدث بغزة جريمة حرب ويجب وقف الإبادة الجماعية هناك    باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي.. ضبط تشكيل عصابى تخصص فى النصب على المواطنين    وزارة الصحة تستقبل سفير السودان لبحث تعزيز سبل التعاون بالقطاع الصحى بين البلدين    بسبب مبابي.. موقف فينيسيوس النهائي من الرحيل عن ريال مدريد    محافظ القليوبيه يتابع أعمال إنشاء مستشفى طوخ المركزي    حملة مرورية إستهدفت ضبط التوك توك المخالفة بمنطقة العجمى    يوم عرفة.. إليك أهم العبادات وأفضل الأدعية    «معلومات الوزراء»: 73% من مستخدمي الخدمات الحكومية الإلكترونية راضون عنها    وزيرة التخطيط تلتقي وزير العمل لبحث آليات تطبيق الحد الأدنى للأجور    بالتعاون مع المتحدة.. «قصور الثقافة»: تذكرة أفلام عيد الأضحى ب40 جنيهاً    حريق هائل في مصفاة نفط ببلدة الكوير جنوب غرب أربيل بالعراق | فيديو    البرازيل تنهي استعداداتها لكوبا 2024 بالتعادل مع أمريكا    هاني سعيد: المنافسة قوية في الدوري.. وبيراميدز لم يحسم اللقب بعد    القائمة الكاملة لأفلام مهرجان عمان السينمائي الدولي في نسخته الخامسة    هشام عاشور: "درست الفن في منهاتن.. والمخرج طارق العريان أشاد بتمثيلي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبناء «قيد الدرس» في انتقام أوديبي
نشر في صوت البلد يوم 19 - 05 - 2016

ليست الهوية قضية جديدة في الأدب العربي الحديث، ولعلّها من الموضوعات الأكثر طرحاً في الروايات التي أنتجتها مرحلة الهجرة والانفتاح العربي على الغرب، فغدا سؤال الانتماء أشد تعقيداً في حياة شخصيات تائهة غالباً بين هويتها العربية الأصلية والغربية المكتسبة.
في رواية لنا عبدالرحمن الجديدة «قيد الدرس» (دار الآداب)، تُعيد الكاتبة طرح القضية القديمة/ الجديدة، إنما بأسلوب مغاير. تتحرّك الرواية بين تيمتين متداخلتين: الهوية والعائلة، وترصد كاتبتها بحث أبطالها عن هوياتهم عبر زوايا نفسية جديدة، أولاها- وربما أهمها- أنّ الشخصيات لا تبدو ضائعة بين بلدين، أو لغتين أو هويتين متضادتين، كما جرت العادة. بل إنهم ينتمون، بالفعل والعاطفة، إلى مكان واحد إنما بلا مسوّغ ملموس يُثبت حقيقة هذا الانتماء. أبطالها لا يعرفون سوى بيروت وطناً لهم، في حين أنّ المدينة لم تعترف بهم أبناءً شرعيين لها، فيظلّ انتماؤهم معلّقاً تحت عبارة «قيد الدرس».
تنتمي الشخصيات الرئيسة في الرواية إلى عائلة تمتدّ على ثلاثة أجيال، تعاني الأزمة ذاتها. هوية «قيد الدرس» التي استحدثت لهم، والأجدر قولاً اللاهوية، هي أصل الأزمة. تُرافقهم البطاقة الجديدة كدمغة أو ندبة أينما ذهبوا، وكلّما قابلوا وجوههم في المرآة، أو في عيون الآخرين، لتُذكّرهم بإثم انتمائهم إلى قرية لبنانية دخلت ضمن الأراضي الفلسطينية، فخسرت لبنانيتها من دون أن تصبح فلسطينية.
تنطلق الأحداث مع حسّان عبدالله، وهو في الطائرة عائداً إلى بيروت (2012). وليس عبثاً أن تفتتح الكاتبة روايتها بفصل أوّل يتصدّره مشهد يكون فيه حسّان معلقاً بين الأرض والسماء، هو الذي ظلّ معلقاً سنوات بين الهوية واللاهوية، بين الوجود واللاوجود، تحت ذريعة العبارة الملتبسة «قيد الدرس». يليه مشهد آخر بطلته- وراويته- ليلى عبدالله التي تنتظر عودة أخيها من سفره، فتُبيّن كيف أنّ كلّ ما في البيت ما زال موجوداً في مكانه (العود، المرآة، الصورة...) ولكن بعطبٍ ما، تماماً كحالتها الراهنة. هي لم تمت في الحرب ولم تقتلها أزماتها الاجتماعية وانكساراتها النفسية والعاطفية، إنما تركت فيها جروحاً داخلية وعلامات ظاهرية لا تُخطئها عين.
على الهامش
وفي الفصل الثاني (دير السرو- 1982)، تعود الرواية إلى الوراء، عبر استرجاع زمني يتولاه راوٍ عليم يحكي سيرة انتقال سعاد وابنتها نجوى الحامل بطفلها الرابع (حسن) وأولادها حسّان (10 سنوات) وليلى (8 سنوات) وياسمين (سنتين)، من بيروت الرازحة تحت نار الحرب الأهلية إلى المنطقة البقاعية «دير السرو»، بجوار البدو والفلاحين. فيصوّر «حروبهم» الصغيرة (في ظلّ غياب الأب والمال والهوية)، على هامش المجتمع اللبناني الغارق في حربه الكبيرة.
الجدّة سعاد من العائلات البيروتية المعروفة، أحبّت الرجّل الجوّال (عوّاد الكردي) فهربت معه قبل أن تعرف أنه متزوج من امرأتين غيرها. أنجبت منه نجوى، وعاشت معه حياة متقشفة قبل أن تتصالح مع والدها التاجر الميسور لترث عنه بيتها في «وادي أبو جميل» (قلب بيروت) الذي يغدو في ما بعد منزل العائلة الكبير. هوية نجوى الكردية تحول بينها وبين حب حياتها (ابن خالها)، فتتزوج من باسم عبدالله، المولود لأم فلسطينية وأب من قرية «قَدَس» الجنوبية، التي أُلحقت بالأراضي الفلسطينية، فمُنع ابنه من الهوية اللبنانية إلى أجل غير مسمى، وظلّ حبيس عبارة قيد الدرس. وباسم بدوره ورّث أبناءه المولودين في بيروت هويةً مفقودة، ورحل عنهم ليُدافع عن الجنوب اللبناني بعدما وقف مع الفلسطينيين في معاركهم البيروتية ضدّ حزب الكتائب.
تكتسب تيمة «الهوية» في رواية عبدالرحمن جدّتها وأهميتها من حيث إنّ الحدث المحوري فيها (أزمة الهوية) لا يتأتى من علاقة الشخصية بمحيطها أو بذاتها، إنما من حركة تاريخية عامة، لا يد له فيها. فالحرب تتجاوز موقعها المحايد داخل الرواية لتصير هي المحرّك الخفيّ لأقدار شخوص يسيرون بلا وعي منهم نحو أقدارهم «المكتوبة» سلفاً. كأنّما الكاتبة تقصدت أن تمزج تاريخ شخوصها الحميم مع تاريخ أنسابهم والتاريخ العام لبلدانهم، على طريقة باربريس، «التاريخ بأبعاده الثلاثة»، في كتابه الأيديولوجي النقدي الشهير «الأمير والتاجر».
بعد انتهاء الحرب وعودة العائلة إلى بيتها المرمّم بمال الخالة العائدة من البرازيل، ملكة (شقيقة نجوى)، يصدر عن الدولة اللبنانية قرار يقضي بمنح الجنسية إلى عدد من الأقليات ومكتومي القيد، فيشمل القرار أبناء نجوى، الذين طالما حلموا بأن تكون لهم هوية تمنحهم ثقةً بوجودهم وتُرسّخ انتماءهم الى مدينة لم يعرفوا- ولم يحبوا- غيرها، بيروت. لكنّ القرار المنتظر لن يُغيّر شيئاً في حياةٍ بُنيت أساساً على هامش الحياة. يبقى أبناء نجوى وباسم، غريبين، قلقين، مقتلعين. ربما لأنّ أزمة الهوية هي الفشل في تحديد هوية الأنا في سنّ المراهقة، بحسب إريك إريكسون، فكأنّ الحلّ لم يأتِ إلا بعد تجذّر المأساة في نفوس الشخصيات التي عاشت طفولتها ومراهقتها بغربة عن ذاتها، وأناها. «في عام 1994، حصل التحوّل الأكبر في حياتنا، فقد أعطى مرسوم جمهوري الجنسية اللبنانية لمن يستحقونها، وكنا من ضمن من شملهم المرسوم. عدنا لبنانيين، بعدما أثبتنا أننا من أبناء القرى السبع، وظلّ أبي قيد الدرس لأنه خارج الأراضي اللبنانية».
وبما أنّ استعادة الهوية المفقودة لا تنزع من دواخلهم صراعاً خلّفته أزمتهم القديمة، فإنهم يتفرقون في بحثهم عن هوياتهم الإنسانية، يُفتشون عن أنفسهم في المطلق كما في حالة حسن الذي يلتحق بجماعة متطرفة، أو في الفن، مثل ياسمين، العاشقة للرقص والغناء، أو في السفر، كما فعل حسان الذي ارتبط بصولا، امرأة فرنسية من أصل مغربي تعاني أزمة هوية بين بلدين يتعاملان معها على أنّها «غريبة».
قضية الرواية واحدة، لكنّ شخصياتها كثيرة وأحداثها مختلفة وخيوطها متشابكة، فتغدو الحكاية الواحدة قطعة صغيرة في لوحة موزاييك كبيرة، فيما تبدو الشخصية في فضاء الرواية الواسع كذرّة في الكون الكبير. لكنّ اللافت جداً في رواية صاحبة «حدائق السراب» هو الحضور الأنثوي القويّ، في ظلّ غياب متواصل للأب. وليس المقصود هنا الأب كشخص فحسب، بل كمفهوم أيضاً.
الجدّة سعاد هي المرأة الأقوى في الرواية. لها مواصفات القائد، وتجمع بين خصال الأم والأب معاً. موتها ولّد في أحفادها شعوراً باليتم: «كنت أواجه العالم الغريب بخوف بنت يتيمة. كأني تُركتُ وحدي بعد موت جدتي. شعرتُ بطعم اليتم الحقيقي. لم أتأثّر بغياب أبي، كما حدث بعد وفاتها» (ص 137).
غياب الأب
ابنتها نجوى لا تشبهها، فهي اتكالية ولامبالية، غير أنها احتضنت عائلتها تحت جناحيها، على عكس زوجها باسم الذي ظلّ بعيداً ومنعزلاً في عالمه العسكري، فلا يعود إلا ليغيب مجدداً. وهكذا كان زوج سعاد أيضاً، العوّاد المزواج، يتنقّل من بيت زوجة إلى أخرى، ليغيب من ثمّ في نزوات ورحلات بوهيمية جديدة. وأبو سعاد أيضاً كان بعيداً عن ابنته التي كانت تقضي أيامها وحيدة، فيما والدها يسافر مع أخيها أو يغيب في عمله. جمانة ابنة نجمة، صديقة نجوى في «دير السرو»، تعيش أيضاً بلا أب. والطفل أنس، ابن حسن الصغير، يفقد والده حين يختار أن يلتحق بالحرب السورية المشتعلة، بمشهد يُذكّر بالتحاق والده باسم بالحرب اللبنانية حين كانت أمه على وشك ولادته. وفي هذا النفي الجلي لصورة الأب، تنكشف رغبة لدى الكاتبة في قتل الأب، على الطريقة الفرويدية، كي يصير غيابه معادلاً لغياب الهوية، والثبات والاستقرار. وقد توحي أيضاً يميل الأبناء إلى قتل آبائهم أوديبياً، على اعتبار أنهم السبب في توريثهم «قدرهم» التراجيدي، المنوط حُكماً بفقدان الهوية.
وما استخدام ضمير المخاطب (بدلاً من المتكلم) في النصوص التي يرويها حسان عبد الله إلا دليل على تشظي ذاته وضياع «أناه»، فيما تلجأ شقيقته ليلى إلى المتكلّم (أنا) لحظة توليها السرد، باعتبارها الأقلّ تأثراً بغياب الأب. تختتم الكاتبة حكايتها من حيث بدأت، مع حسّان في بيروت 2012، لتتحقق دائرية الرواية، ومن خلفها دائرية الحياة. وهي كما وصفتها ليلى في الفصل الأول: «الحياة ليست عادلة. ليست عادلة على الإطلاق».
ليست الهوية قضية جديدة في الأدب العربي الحديث، ولعلّها من الموضوعات الأكثر طرحاً في الروايات التي أنتجتها مرحلة الهجرة والانفتاح العربي على الغرب، فغدا سؤال الانتماء أشد تعقيداً في حياة شخصيات تائهة غالباً بين هويتها العربية الأصلية والغربية المكتسبة.
في رواية لنا عبدالرحمن الجديدة «قيد الدرس» (دار الآداب)، تُعيد الكاتبة طرح القضية القديمة/ الجديدة، إنما بأسلوب مغاير. تتحرّك الرواية بين تيمتين متداخلتين: الهوية والعائلة، وترصد كاتبتها بحث أبطالها عن هوياتهم عبر زوايا نفسية جديدة، أولاها- وربما أهمها- أنّ الشخصيات لا تبدو ضائعة بين بلدين، أو لغتين أو هويتين متضادتين، كما جرت العادة. بل إنهم ينتمون، بالفعل والعاطفة، إلى مكان واحد إنما بلا مسوّغ ملموس يُثبت حقيقة هذا الانتماء. أبطالها لا يعرفون سوى بيروت وطناً لهم، في حين أنّ المدينة لم تعترف بهم أبناءً شرعيين لها، فيظلّ انتماؤهم معلّقاً تحت عبارة «قيد الدرس».
تنتمي الشخصيات الرئيسة في الرواية إلى عائلة تمتدّ على ثلاثة أجيال، تعاني الأزمة ذاتها. هوية «قيد الدرس» التي استحدثت لهم، والأجدر قولاً اللاهوية، هي أصل الأزمة. تُرافقهم البطاقة الجديدة كدمغة أو ندبة أينما ذهبوا، وكلّما قابلوا وجوههم في المرآة، أو في عيون الآخرين، لتُذكّرهم بإثم انتمائهم إلى قرية لبنانية دخلت ضمن الأراضي الفلسطينية، فخسرت لبنانيتها من دون أن تصبح فلسطينية.
تنطلق الأحداث مع حسّان عبدالله، وهو في الطائرة عائداً إلى بيروت (2012). وليس عبثاً أن تفتتح الكاتبة روايتها بفصل أوّل يتصدّره مشهد يكون فيه حسّان معلقاً بين الأرض والسماء، هو الذي ظلّ معلقاً سنوات بين الهوية واللاهوية، بين الوجود واللاوجود، تحت ذريعة العبارة الملتبسة «قيد الدرس». يليه مشهد آخر بطلته- وراويته- ليلى عبدالله التي تنتظر عودة أخيها من سفره، فتُبيّن كيف أنّ كلّ ما في البيت ما زال موجوداً في مكانه (العود، المرآة، الصورة...) ولكن بعطبٍ ما، تماماً كحالتها الراهنة. هي لم تمت في الحرب ولم تقتلها أزماتها الاجتماعية وانكساراتها النفسية والعاطفية، إنما تركت فيها جروحاً داخلية وعلامات ظاهرية لا تُخطئها عين.
على الهامش
وفي الفصل الثاني (دير السرو- 1982)، تعود الرواية إلى الوراء، عبر استرجاع زمني يتولاه راوٍ عليم يحكي سيرة انتقال سعاد وابنتها نجوى الحامل بطفلها الرابع (حسن) وأولادها حسّان (10 سنوات) وليلى (8 سنوات) وياسمين (سنتين)، من بيروت الرازحة تحت نار الحرب الأهلية إلى المنطقة البقاعية «دير السرو»، بجوار البدو والفلاحين. فيصوّر «حروبهم» الصغيرة (في ظلّ غياب الأب والمال والهوية)، على هامش المجتمع اللبناني الغارق في حربه الكبيرة.
الجدّة سعاد من العائلات البيروتية المعروفة، أحبّت الرجّل الجوّال (عوّاد الكردي) فهربت معه قبل أن تعرف أنه متزوج من امرأتين غيرها. أنجبت منه نجوى، وعاشت معه حياة متقشفة قبل أن تتصالح مع والدها التاجر الميسور لترث عنه بيتها في «وادي أبو جميل» (قلب بيروت) الذي يغدو في ما بعد منزل العائلة الكبير. هوية نجوى الكردية تحول بينها وبين حب حياتها (ابن خالها)، فتتزوج من باسم عبدالله، المولود لأم فلسطينية وأب من قرية «قَدَس» الجنوبية، التي أُلحقت بالأراضي الفلسطينية، فمُنع ابنه من الهوية اللبنانية إلى أجل غير مسمى، وظلّ حبيس عبارة قيد الدرس. وباسم بدوره ورّث أبناءه المولودين في بيروت هويةً مفقودة، ورحل عنهم ليُدافع عن الجنوب اللبناني بعدما وقف مع الفلسطينيين في معاركهم البيروتية ضدّ حزب الكتائب.
تكتسب تيمة «الهوية» في رواية عبدالرحمن جدّتها وأهميتها من حيث إنّ الحدث المحوري فيها (أزمة الهوية) لا يتأتى من علاقة الشخصية بمحيطها أو بذاتها، إنما من حركة تاريخية عامة، لا يد له فيها. فالحرب تتجاوز موقعها المحايد داخل الرواية لتصير هي المحرّك الخفيّ لأقدار شخوص يسيرون بلا وعي منهم نحو أقدارهم «المكتوبة» سلفاً. كأنّما الكاتبة تقصدت أن تمزج تاريخ شخوصها الحميم مع تاريخ أنسابهم والتاريخ العام لبلدانهم، على طريقة باربريس، «التاريخ بأبعاده الثلاثة»، في كتابه الأيديولوجي النقدي الشهير «الأمير والتاجر».
بعد انتهاء الحرب وعودة العائلة إلى بيتها المرمّم بمال الخالة العائدة من البرازيل، ملكة (شقيقة نجوى)، يصدر عن الدولة اللبنانية قرار يقضي بمنح الجنسية إلى عدد من الأقليات ومكتومي القيد، فيشمل القرار أبناء نجوى، الذين طالما حلموا بأن تكون لهم هوية تمنحهم ثقةً بوجودهم وتُرسّخ انتماءهم الى مدينة لم يعرفوا- ولم يحبوا- غيرها، بيروت. لكنّ القرار المنتظر لن يُغيّر شيئاً في حياةٍ بُنيت أساساً على هامش الحياة. يبقى أبناء نجوى وباسم، غريبين، قلقين، مقتلعين. ربما لأنّ أزمة الهوية هي الفشل في تحديد هوية الأنا في سنّ المراهقة، بحسب إريك إريكسون، فكأنّ الحلّ لم يأتِ إلا بعد تجذّر المأساة في نفوس الشخصيات التي عاشت طفولتها ومراهقتها بغربة عن ذاتها، وأناها. «في عام 1994، حصل التحوّل الأكبر في حياتنا، فقد أعطى مرسوم جمهوري الجنسية اللبنانية لمن يستحقونها، وكنا من ضمن من شملهم المرسوم. عدنا لبنانيين، بعدما أثبتنا أننا من أبناء القرى السبع، وظلّ أبي قيد الدرس لأنه خارج الأراضي اللبنانية».
وبما أنّ استعادة الهوية المفقودة لا تنزع من دواخلهم صراعاً خلّفته أزمتهم القديمة، فإنهم يتفرقون في بحثهم عن هوياتهم الإنسانية، يُفتشون عن أنفسهم في المطلق كما في حالة حسن الذي يلتحق بجماعة متطرفة، أو في الفن، مثل ياسمين، العاشقة للرقص والغناء، أو في السفر، كما فعل حسان الذي ارتبط بصولا، امرأة فرنسية من أصل مغربي تعاني أزمة هوية بين بلدين يتعاملان معها على أنّها «غريبة».
قضية الرواية واحدة، لكنّ شخصياتها كثيرة وأحداثها مختلفة وخيوطها متشابكة، فتغدو الحكاية الواحدة قطعة صغيرة في لوحة موزاييك كبيرة، فيما تبدو الشخصية في فضاء الرواية الواسع كذرّة في الكون الكبير. لكنّ اللافت جداً في رواية صاحبة «حدائق السراب» هو الحضور الأنثوي القويّ، في ظلّ غياب متواصل للأب. وليس المقصود هنا الأب كشخص فحسب، بل كمفهوم أيضاً.
الجدّة سعاد هي المرأة الأقوى في الرواية. لها مواصفات القائد، وتجمع بين خصال الأم والأب معاً. موتها ولّد في أحفادها شعوراً باليتم: «كنت أواجه العالم الغريب بخوف بنت يتيمة. كأني تُركتُ وحدي بعد موت جدتي. شعرتُ بطعم اليتم الحقيقي. لم أتأثّر بغياب أبي، كما حدث بعد وفاتها» (ص 137).
غياب الأب
ابنتها نجوى لا تشبهها، فهي اتكالية ولامبالية، غير أنها احتضنت عائلتها تحت جناحيها، على عكس زوجها باسم الذي ظلّ بعيداً ومنعزلاً في عالمه العسكري، فلا يعود إلا ليغيب مجدداً. وهكذا كان زوج سعاد أيضاً، العوّاد المزواج، يتنقّل من بيت زوجة إلى أخرى، ليغيب من ثمّ في نزوات ورحلات بوهيمية جديدة. وأبو سعاد أيضاً كان بعيداً عن ابنته التي كانت تقضي أيامها وحيدة، فيما والدها يسافر مع أخيها أو يغيب في عمله. جمانة ابنة نجمة، صديقة نجوى في «دير السرو»، تعيش أيضاً بلا أب. والطفل أنس، ابن حسن الصغير، يفقد والده حين يختار أن يلتحق بالحرب السورية المشتعلة، بمشهد يُذكّر بالتحاق والده باسم بالحرب اللبنانية حين كانت أمه على وشك ولادته. وفي هذا النفي الجلي لصورة الأب، تنكشف رغبة لدى الكاتبة في قتل الأب، على الطريقة الفرويدية، كي يصير غيابه معادلاً لغياب الهوية، والثبات والاستقرار. وقد توحي أيضاً يميل الأبناء إلى قتل آبائهم أوديبياً، على اعتبار أنهم السبب في توريثهم «قدرهم» التراجيدي، المنوط حُكماً بفقدان الهوية.
وما استخدام ضمير المخاطب (بدلاً من المتكلم) في النصوص التي يرويها حسان عبد الله إلا دليل على تشظي ذاته وضياع «أناه»، فيما تلجأ شقيقته ليلى إلى المتكلّم (أنا) لحظة توليها السرد، باعتبارها الأقلّ تأثراً بغياب الأب. تختتم الكاتبة حكايتها من حيث بدأت، مع حسّان في بيروت 2012، لتتحقق دائرية الرواية، ومن خلفها دائرية الحياة. وهي كما وصفتها ليلى في الفصل الأول: «الحياة ليست عادلة. ليست عادلة على الإطلاق».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.