الحصر العددي لدائرة دمنهور الملغاة بانتخابات النواب بالبحيرة    متحدث الوزراء: الحكومة تحاول تقديم أفضل الخدمات لمحدودي ومتوسطي الدخل وفق الموارد المتاحة    مستشار وزير التموين السابق: الذهب مرشح لتجاوز 7000 جنيه للجرام في 2026    بعد لقاء ترامب وزيلينسكي، ارتفاع أسعار النفط في ظل تصاعد التوتر بالشرق الأوسط    البيت الأبيض: ترامب يلتقي نتنياهو اليوم في مارالاغو بفلوريدا    وزير الإعلام الصومالي: اعتراف إسرائيل بأرض الصومال انتهاك لسيادتنا.. وسنلجأ للأمم المتحدة    الصين تعلن بدء تدريبات بالذخيرة الحية حول جزيرة تايوان    أوصاني بحذف أغانيه.. شحتة كاريكا يكشف اللحظات الأخيرة في حياة الراحل أحمد دقدق    مقتل 16 شخصا في حريق دار مسنين بإندونيسيا    أحمد عبد الله محمود يكشف ملامح شخصيته في «علي كلاي»    وداع موجع في كواليس التصوير... حمزة العيلي يفقد جده والحزن يرافقه في «حكاية نرجس»    هل تتزوج لطيفة في 2026؟.. توقعات «بسنت يوسف» تثير الجدل    عمرو يوسف يكشف تفاصيل صداقته القوية ب عمرو دياب    كوريا الشمالية تجري تجربة إطلاق صاروخ كروز بعيد المدى    بالرقص والهتاف.. احتفالات واسعة في طهطا عقب إعلان فرز اللجان الانتخابية    نتيجة الحصر العددى للأصوات بالدائرة الثامنة دار السلام سوهاج    مباحث العبور تستمع لأقوال شهود العيان لكشف ملابسات حريق مخزن كراتين البيض    كشف ملابسات منشور بشأن إدعاء خطف سيدة بكفر الشيخ    كشف ملابسات تعليق بشأن سرقة دراجة نارية لطفل بدمياط    الدفاع الروسية تعلن إسقاط 21 مسيرة أوكرانية خلال ثلاث ساعات    حسام حسن يستقر على رباعي دفاع منتخب مصر أمام أنجولا    بالأرقام.. نتيجة الحصر العددي للدائرة الأولى بالفيوم في انتخابات مجلس النواب    اليوم، الاجتماع الأخير للجنة الرئيسية لتطوير الإعلام بعد انتهاء مهامها    يحيى حسن: التحولات البسيطة تفكك ألغاز التاريخ بين الواقع والافتراض    فوضى السوشيال ميديا    البوصلة والربان!    سفارة تركيا بالقاهرة تُحيي ذكرى الشاعر الوطني محمد عاكف أرصوي ال89    الفرق بين الحزم والقسوة في التعامل مع الأبناء    النيابة الإدارية تنعى مستشارة لقيت مصرعها أثناء عودتها من الإشراف على الانتخابات    المنيا تبدأ تنفيذ 57 مدرسة جديدة وتخصيص الأراضي ل20 أخرى    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 29 ديسمبر 2025 في القاهرة والمحافظات    طفرة غير مسبوقة بالمنيا.. استرداد 24 ألف فدان وإيرادات التقنين تقفز ل2 مليار جنيه    ما هو فضل الدعاء وقت الفجر؟    ترامب: اقتربنا من اتفاق بين روسيا وأوكرانيا بشأن منطقة دونباس    مشروبات تهدئ المعدة بعد الإفراط بالأكل    الداخلية السورية: احتجاجات الساحل نتيجة دعوات انفصالية    وزير الإسكان: تم وجارٍ تنفيذ نحو مليون و960 ألف وحدة سكنية متنوعة    اشتعال المنافسة، كوت ديفوار والكاميرون يكتفيان بالتعادل الإيجابي في أمم أفريقيا 2025    على رأسهم مصر.. 3 منتخبات حسمت تأهلها رسميا بعد الجولة الثانية لمجموعات أمم أفريقيا 2025    أمم إفريقيا – تعرف على جميع مواعيد مباريات الجولة الثالثة    حسم التأهل مبكرًا.. مصر ونيجيريا والجزائر إلى دور ال16 من أمم أفريقيا 2025    طاهر أبو زيد: مكاسب حسام حسن مع المنتخب إنجاز رغم الظروف.. والمرحلة المقبلة أصعب    كأس عاصمة مصر - أحمد عبد الله يدير لقاء الأهلي ضد المقاولون العرب تحكيميا    الجزائر يتصدر المجموعة الخامسة ب6 نقاط ليحسم تأهله رسميا لدور 16 بأمم أفريقيا    منير فخري عبد النور: ضعف المشاركة أبرز سلبيات المشهد الانتخابي الأخير لمجلس النواب    محافظ البحيرة: تطوير مدينة رشيد لتحويلها إلى وجهة سياحية عالمية    BeOn تحصل على استثمار استراتيجي بالدولار لدعم التوسع الإقليمي وتطوير حلول CRM الذكية    مصرع طفلين في تصادم بالفرافرة    الصحة تكشف أبرز خدمات مركز طب الأسنان التخصصي بزهراء مدينة نصر    تفاصيل وفاة مُسن بتوقف عضلة القلب بعد تعرضه لهجوم كلاب ضالة بأحد شوارع بورسعيد    عاجل- رئيس الوزراء يستقبل المدير العام للمركز الأفريقي لمكافحة الأمراض ويؤكد دعم مصر لاستضافة الآلية الأفريقية للشراء الموحد    الأزهر للفتوي: ادعاء معرفة الغيب والتنبؤ بالمستقبل ممارسات تخالف صحيح الدين    سقوط عنصرين جنائيين لغسل 100 مليون جنيه من تجارة المخدرات    وزارة الداخلية تضبط 4 أشخاص جمعوا بطاقات الناخبين    صاحب الفضيلة الشيخ / سعد الفقي يكتب عن : شخصية العام!    دار الإفتاء توضح حكم إخراج الزكاة في صورة بطاطين    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم فى سوهاج    هيئة الرعاية الصحية تستعرض إنجازات التأمين الصحي الشامل بمحافظات إقليم القناة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سؤال الهُوية وقتل الأب في رواية «قيد الدرس»
نشر في صوت البلد يوم 21 - 04 - 2016

"هل إذا تمنّى المرء موت أبيه ثم قُتل أبوه يكون مشاركًا في الجريمة؟» هكذا تساءل إيفان كارامازوف الابن الثاني والمعروف عنه بالإلحاد والجدال في قضايا الدين في رواية «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكى، التساؤل جاء كنوعٍ من تأنيب الضمير، وإن كان عكس إحساسًا داخليًّا برغبة قتل الأب، نفس الإحساس الذي شعر به إيفان هو ما راود جميع شخصيات رواية لنا عبد الرحمن «قيد الدرس» الصّادرة عن دار الآداب بيروت 2015، على اختلاف تركيبتهم وعلاقتهم بالأب، وإن كان حسّان وياسمين أكثر شخصيتْن إجهازًا على صورة الأب الرومانطيقية، بتعريتها من مفهوم الأبوة الكلاسيكي؛ فياسيمن في حومة الهجوم عليها ومحاكمتها على هروبها وعملها في المطعم كراقصة ثارت على الجميع وأدانت الأب فهي لم تُمارس العهر كما يتهمونها، فترى أنّ «العهر الأكبر حين غادرنا أب لم يُبالِ بترك عائلة وحيدة وسط الفقر والحاجة» (ص 184)
اختلفت أسباب القتل في الروايات التي جعلت من قتل الأب تيمة لها، مثل «الإخوة كارامازوف» ورائعة نجيب محفوظ «السّراب»، فبعضها مُتعلِّقٌ بِالميراث، وكثير منها مُتعلق بجوانب نفسية حيث تفضيل الأب لأحد أبنائه على الآخرين، أو أزمات سببها غياب الأب كما هو الحال في رواية لنا عبد الرحمن، فالقتل هنا مبعثه افتقاد الهُوية، وليس الهوية الورقية التي تحقّقت لشخصيات الرواية بقرار سياسي عام 1994، وإنما هوية الانتماء التي بحث الجميع عنها في صورة الأب، ومع الأسف تركهم «للأشباح الواقعيين والمتخيلين» كما تقول ليلى وهي تتحسر في نوبات الألم والندم على تركها الدراسة.
 الأب الضائع
جميع شخصيات الرواية على اختلاف انتماءاتها، وأيضًا اختلاف مراحلها العمرية، حيث تنتتمي الرواية في أحد جوانبها إلى روايات الأجيال التي تصل إلى أربعة أجيال بدءًا من جيل الجدة سعاد وصولا بالحفدة؛ سامي وأنس ابن حسن، ونايا ابنة ياسمين. كان الجميع يبحث عن الأب الذي ضاع لأسباب مختلفة، منها لسعيه وراء المال كما في حالة الجدة سعاد؛ فالأب الحاج رضا كان مُنْشَغِلاً بتجارة الأقمشة في «سوق إياس»، وكان يتركها بمفردها في البيت وحيدة ويذهب مع أخيها الأكبر أحمد لتجارته، فوقعت أسيرة لحكايات البنات اللاتي عرَّفنها على عوّاد الكردي الذي كان يبيع الأثواب والعطور والحُليّ، بسبب نزواته كما في حالة الأم نجوى وقعت ضحيّة لأب كان يهجرهم لأشهر متنقلاً بين بيوت زوجاته، ويخلط بين أسماء أطفاله لكثرتهم، وبعد زواجها وقعت ضحية لزوج مناضل شيوعي باسم عبد الله، يهجرها من أجل قضايا وطنية، ولكن مع الأسف «لم يجد الانتماء لا في الأوطان ولا في السلاح، ولا في المرأة التي أحبها» لذا «ظلت صورة الرجل في ذهنها مهتزة بين أب دنجوان فقد شرعيته في نظرها منذ أن منحها اسم راقصة أحبها وبين زوج غير عاطفي غادرها بعد ثلاثة أيام من الزواج» (ص،29)، أو لأسباب متلعلقة باللعنة التي سرت في العائلة ووصلت إلى حسن وياسمين أبناء ليلى وباسم عبد الله.
تكرَّرت مأساة افتقاد الأب على مستوى الأبناء، كما أنها خَلَقَتْ أزمة لجميع الأبناء، فليلى كانت «تتحسَّر على عدم وجود أسرة تحميها .... أو أب يدافع عنها»، وحسّان مِن شدَّة الكراهية لهذا الأب قتله معنويًا عبر أسئلته، لكن الفاجعئة أن مِن وَطَأْة ما فعله الأب بهم، بعضهم كرّر مأساته خاصّة ياسمين وحسن والأخير صار نسخة منه، فَهَجَرَ البيت بعد سرقة خالته كانتقام على التحوّلات التي لحقت بأخته ياسمين من جرّاء تَعَلُّقها بخالتها ملكة التي عادت من البرازيل بعد وفاة زوجها بأموال كثيرة، ثم في مرحلة لاحقة التحق بالجماعات الدينيّة المتطرفة التي ازدهرت في التسعينيات، وكذلك على مستوى الأحفاد فسامي ابن الثلاثة عشر عامًا أسئلته عن الحياة تُحزن الأم لأنّه مثلها «بحث عن الأب ولم يجده، وسيظل طول حياته يتوق لمن يمنحه تلك العاطفة المنقوصة».
 الهوية المفقودة
تنشغل الرواية بالهوية المفقودة، وما سببته هذه الهوية من آلام لأسرة باسم عبد الله المُناضل الشيوعي الذي راح يُطارد «الهوية الورقيّة» ظانًا أنها خلاصه، حاملاً السّلاح تارة وتارة هاربًا مخلفًا خلفه هوية «افتقاد الأب» التي عانى منها الأبناء، وستنتقل في علاقة دائرية إلى الأحفاد، وقد تحوَّلت إلى لعنة لهم، طاردتهم في كلِّ مكانٍ حلُّوا فيه، وأيضًا إلى تساؤلات أشبه بمشانق غرضها قتل الأب.
تعمد الكاتبة إلى حيلة تقنية على مستوى البناء، فتبدأ الرواية من النهاية حيث عودة حسّان أخو ليلى من فرنسا في زيارة قصيرة ليأخذ ابنها سامي ويعود به من حيث أتى بعد أن تركته أمانة معه، لأنها ستجري عملية، لا تعرف عاقبتها، فكرة البداية من النهاية ثم تبدأ التدرج وفق البناء الهرمي المقلوب الذي بنيت عليه أحداث الرواية، لكن الجميل أنها تستغل هذه الدائرية التي هي سمة مميزة للعمل ككل، لتظهر اللعنة التي حلَّت بالجميع؛ فعلى مستوى الشخصيات ياسمين تُكرّر سعاد، وحسن يُكرِّر الأب رغم رغبته في قتله بالمعني الفرويدي، وليلى تجتر مأساة نجوى وتَوْرث منها لعنة الفشل، وعملية التكرار على مستوى الشخصيات، ودائرية النّص تسير على الزمن مع إنه يتراوح بين زمانين ماضٍ وحاضر، وإن كان الماضي ينقسم هو الآخر إلى ماضٍ بعيد حيث حكاية الجدة، وزوجات عوّاد الأربعة، والحياة في دير السرو، وآخر أبعد حيث ماضي التهجير القسري الذي فُرض على الفلسطينين منذ عام 1922، وما حاق بالقرى السبعة، إلى ماضٍ قريب ماثل في حرب بيروت عام 1982، وصولا إلى الزمن الحاضر حيث الثورة السورية وما تلاها من صراع جبهات مُتعدِّدة. إلى جانب هذه المراوحة في الأزمنة والأمكنة؛ دير السّرو شتورة وادي أبو جميل، بيروت الفكهاني، وفرنسا، ثمة مراوحة في الرواة، فالسّرد الذي يسطير عليه الرّاوي الغائب يرصد عن جميع الشخصيات باستنثاء حسّان وليلى اللذين يرويان بالأنا، كما أن ثمّة تردّد للراوي الأنت، كما في حالة حسّان وهو يخاطب ذاته رغم أنه يسرد عن ذاته في الفصل السّابق وعلاقته بصولا وموقفه من أبيه. الشيء الملاحظ أن الراوي الغائب الذي يسرد عن نجوى، في أحيان معينة يبدو شخصًا لصيقًا بها ويقدم آراء واعتراضات في صيغة نصائح، فما أن تتغيّر نجوى بسبب علاقة الحب بينها وبين جانو النجار الذي كان يحبها قبل زواجها، يقول الراوي «لكن الحب في وقت متأخر لن يحظى برضا العائلة، وَسُيعتبر خيانة» (ص،175)
 تعثُّر الأحلام
لم تنجح شخصية واحدة في تحقيق ما تصبوا إليه من آمال أو طموحات، حتى ولو كانت ضئيلة، باستنثاء شخصية وهيب أخو نجوى الذي على الأقل نجى من الصراعات، ففضّل أن يبقى مع دجاجاته، كان مسالمًا بعكس الشَّخصيات الأخرى التي عركتها الحياة فتخلّت عن أحلامها البسطية مثل ليلى التي انقطعت عن التعليم لعدم استقرار الأسرة وعدم وجود مال، فاضّطرت إلى أن تعمل، ثم فقدانها حبهال ربيع، وهو ما جعلها تسقط في زواجات فاشلة بدءًا من حميد وصولاً إلى ماهر الطبّاخ القادم من إسبانيا، ثمّ الصّدمة الكبرى عندما راودها الشك بأنّ ثمّة علاقة بينه وبين بأختها ياسمين، فيتلاشى كلّ شيء و«لم يبق لها سوى نظرة عين ساهمة، ووجنتان غائرتان، وهالات زرقاء حول عينها». باسم الشخصية الإشكالية الذي ظلّ رفيقًا للبندقية حتى تجلت الخيانة بقتل صديقه أمام عينيه فعاد إلى أولاده، هو أكثر الشخصيات انهزامية بعد ليلى ففي ظلِّ بحثه الدائم عن هويته الضَّائِعَة لم يجنِ سوى الهُروب والغياب، واكتفى بجلد الذّات بحكايات عن الوطن المفقود، وإن كان قاوم قليلاً بالبندقية، إلا أنه فضل الهرب في النهاية، أما حسن الصغير الذي كان يحبه الأب، فما أن صُدِم بأبيه وأخته حتى ترك دراسته وأطلق لحيته، ولزم الصمت فترة، ثم هاجر هو الآخر ليقاتل في سبيل الله.
 قتل الأب بالسؤال.
صورة الأب الغائب وحالة الضياع التي حلّت على الجميع بسبب هذا الغياب سيطرت على الشخصيات وطاردتها عقدة عدم الانتماء، فحسّان أكثر الشخصيات نقمة على الأب وفي تساؤلاته أشبه بأوديب وهو يقتل أبوه، وهو ما تشكّل عبر الأحلام التي كانت تطارده ثمّ في تذكّره الماضي والحوارات المتخيّلة التي كان يجريها بينه وبين الأب «كنت أنوي كشف قناعه أمام نفسه، ومواجهته بضعفه وتخاذله بنكران أبوّته! ما فائدة أبوّة منقوصة؟!» (ص، 211).
حالة الصّراع بين البحث عن الأب وقتله، تنعكس على السَّرد الذي يراوح بين الغنائيّة التي تعكس حجم المأساة التي عاشها الأبناء كلّ على حدّة أو مجتمعين بسبب غياب الأب أو بالأحرى هروبه، وفقدان الانتماء حتى عندما جاءت الهوية اتضح أن الانتماء هو الذي يفتقدونه، وبين التساؤلات التي تعكس حالة الضياع التي عاشها الجميع، لا فرق بين أسئلة حسّان عن الأب الغائب والهارب والأب الميت، أو عن أسئلة الهوية والانتماء، أو الحب والضياع، أو أسئلة الأم المعلنة أو المضمرة عن المصير الذي آلت إليه وكأنها تعاقب على لعنة الأم سعاد التي هربت من قبل فكتب على أبنائها الشتات والضياع لا فرق بين الأم نجوى ومأساتها الكبرى مع الزوج ثم مع الأبناء وخاصّة مأساة حسن الذي انسرب في دروب لا عودة منها، أو ياسيمن التي جنحت لتمردها وكأنها تُكرِّر مأساة الأم، أو حتى أسئلتها الخاصّة ورغباتها في الزواج بمن يُحبّها (جانو)، إلى أسئلة ليلى الوجودية: عن مَنْ هى؟ هل هي «البنت الفقيرة أمّ الأم المعذبة أمّ زوجة صاحب مطعم أندلسيا الشهير في بيروت؟ أم هي أمّ ابن لأب غائب أيضًا؟ وتساؤلاتها عن علاقتها بزياد؟ وعن علاقتها بخالتها ملكة هل هي التي تشبهها أم ياسمين؟ وعن أحلامها الكبرى وهل هي فعلًا القديسة التي أرادت تفدي أخوتها؟ إلى أسئلة حسن عن انتمائه لأبيه أم لأمه، أم للأسرة، وهي الحيرة التي دفعته إلى البحث عن الله في نهاية الرواية.
د. ممدوح فرّاج النّابي
"هل إذا تمنّى المرء موت أبيه ثم قُتل أبوه يكون مشاركًا في الجريمة؟» هكذا تساءل إيفان كارامازوف الابن الثاني والمعروف عنه بالإلحاد والجدال في قضايا الدين في رواية «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكى، التساؤل جاء كنوعٍ من تأنيب الضمير، وإن كان عكس إحساسًا داخليًّا برغبة قتل الأب، نفس الإحساس الذي شعر به إيفان هو ما راود جميع شخصيات رواية لنا عبد الرحمن «قيد الدرس» الصّادرة عن دار الآداب بيروت 2015، على اختلاف تركيبتهم وعلاقتهم بالأب، وإن كان حسّان وياسمين أكثر شخصيتْن إجهازًا على صورة الأب الرومانطيقية، بتعريتها من مفهوم الأبوة الكلاسيكي؛ فياسيمن في حومة الهجوم عليها ومحاكمتها على هروبها وعملها في المطعم كراقصة ثارت على الجميع وأدانت الأب فهي لم تُمارس العهر كما يتهمونها، فترى أنّ «العهر الأكبر حين غادرنا أب لم يُبالِ بترك عائلة وحيدة وسط الفقر والحاجة» (ص 184)
اختلفت أسباب القتل في الروايات التي جعلت من قتل الأب تيمة لها، مثل «الإخوة كارامازوف» ورائعة نجيب محفوظ «السّراب»، فبعضها مُتعلِّقٌ بِالميراث، وكثير منها مُتعلق بجوانب نفسية حيث تفضيل الأب لأحد أبنائه على الآخرين، أو أزمات سببها غياب الأب كما هو الحال في رواية لنا عبد الرحمن، فالقتل هنا مبعثه افتقاد الهُوية، وليس الهوية الورقية التي تحقّقت لشخصيات الرواية بقرار سياسي عام 1994، وإنما هوية الانتماء التي بحث الجميع عنها في صورة الأب، ومع الأسف تركهم «للأشباح الواقعيين والمتخيلين» كما تقول ليلى وهي تتحسر في نوبات الألم والندم على تركها الدراسة.
 الأب الضائع
جميع شخصيات الرواية على اختلاف انتماءاتها، وأيضًا اختلاف مراحلها العمرية، حيث تنتتمي الرواية في أحد جوانبها إلى روايات الأجيال التي تصل إلى أربعة أجيال بدءًا من جيل الجدة سعاد وصولا بالحفدة؛ سامي وأنس ابن حسن، ونايا ابنة ياسمين. كان الجميع يبحث عن الأب الذي ضاع لأسباب مختلفة، منها لسعيه وراء المال كما في حالة الجدة سعاد؛ فالأب الحاج رضا كان مُنْشَغِلاً بتجارة الأقمشة في «سوق إياس»، وكان يتركها بمفردها في البيت وحيدة ويذهب مع أخيها الأكبر أحمد لتجارته، فوقعت أسيرة لحكايات البنات اللاتي عرَّفنها على عوّاد الكردي الذي كان يبيع الأثواب والعطور والحُليّ، بسبب نزواته كما في حالة الأم نجوى وقعت ضحيّة لأب كان يهجرهم لأشهر متنقلاً بين بيوت زوجاته، ويخلط بين أسماء أطفاله لكثرتهم، وبعد زواجها وقعت ضحية لزوج مناضل شيوعي باسم عبد الله، يهجرها من أجل قضايا وطنية، ولكن مع الأسف «لم يجد الانتماء لا في الأوطان ولا في السلاح، ولا في المرأة التي أحبها» لذا «ظلت صورة الرجل في ذهنها مهتزة بين أب دنجوان فقد شرعيته في نظرها منذ أن منحها اسم راقصة أحبها وبين زوج غير عاطفي غادرها بعد ثلاثة أيام من الزواج» (ص،29)، أو لأسباب متلعلقة باللعنة التي سرت في العائلة ووصلت إلى حسن وياسمين أبناء ليلى وباسم عبد الله.
تكرَّرت مأساة افتقاد الأب على مستوى الأبناء، كما أنها خَلَقَتْ أزمة لجميع الأبناء، فليلى كانت «تتحسَّر على عدم وجود أسرة تحميها .... أو أب يدافع عنها»، وحسّان مِن شدَّة الكراهية لهذا الأب قتله معنويًا عبر أسئلته، لكن الفاجعئة أن مِن وَطَأْة ما فعله الأب بهم، بعضهم كرّر مأساته خاصّة ياسمين وحسن والأخير صار نسخة منه، فَهَجَرَ البيت بعد سرقة خالته كانتقام على التحوّلات التي لحقت بأخته ياسمين من جرّاء تَعَلُّقها بخالتها ملكة التي عادت من البرازيل بعد وفاة زوجها بأموال كثيرة، ثم في مرحلة لاحقة التحق بالجماعات الدينيّة المتطرفة التي ازدهرت في التسعينيات، وكذلك على مستوى الأحفاد فسامي ابن الثلاثة عشر عامًا أسئلته عن الحياة تُحزن الأم لأنّه مثلها «بحث عن الأب ولم يجده، وسيظل طول حياته يتوق لمن يمنحه تلك العاطفة المنقوصة».
 الهوية المفقودة
تنشغل الرواية بالهوية المفقودة، وما سببته هذه الهوية من آلام لأسرة باسم عبد الله المُناضل الشيوعي الذي راح يُطارد «الهوية الورقيّة» ظانًا أنها خلاصه، حاملاً السّلاح تارة وتارة هاربًا مخلفًا خلفه هوية «افتقاد الأب» التي عانى منها الأبناء، وستنتقل في علاقة دائرية إلى الأحفاد، وقد تحوَّلت إلى لعنة لهم، طاردتهم في كلِّ مكانٍ حلُّوا فيه، وأيضًا إلى تساؤلات أشبه بمشانق غرضها قتل الأب.
تعمد الكاتبة إلى حيلة تقنية على مستوى البناء، فتبدأ الرواية من النهاية حيث عودة حسّان أخو ليلى من فرنسا في زيارة قصيرة ليأخذ ابنها سامي ويعود به من حيث أتى بعد أن تركته أمانة معه، لأنها ستجري عملية، لا تعرف عاقبتها، فكرة البداية من النهاية ثم تبدأ التدرج وفق البناء الهرمي المقلوب الذي بنيت عليه أحداث الرواية، لكن الجميل أنها تستغل هذه الدائرية التي هي سمة مميزة للعمل ككل، لتظهر اللعنة التي حلَّت بالجميع؛ فعلى مستوى الشخصيات ياسمين تُكرّر سعاد، وحسن يُكرِّر الأب رغم رغبته في قتله بالمعني الفرويدي، وليلى تجتر مأساة نجوى وتَوْرث منها لعنة الفشل، وعملية التكرار على مستوى الشخصيات، ودائرية النّص تسير على الزمن مع إنه يتراوح بين زمانين ماضٍ وحاضر، وإن كان الماضي ينقسم هو الآخر إلى ماضٍ بعيد حيث حكاية الجدة، وزوجات عوّاد الأربعة، والحياة في دير السرو، وآخر أبعد حيث ماضي التهجير القسري الذي فُرض على الفلسطينين منذ عام 1922، وما حاق بالقرى السبعة، إلى ماضٍ قريب ماثل في حرب بيروت عام 1982، وصولا إلى الزمن الحاضر حيث الثورة السورية وما تلاها من صراع جبهات مُتعدِّدة. إلى جانب هذه المراوحة في الأزمنة والأمكنة؛ دير السّرو شتورة وادي أبو جميل، بيروت الفكهاني، وفرنسا، ثمة مراوحة في الرواة، فالسّرد الذي يسطير عليه الرّاوي الغائب يرصد عن جميع الشخصيات باستنثاء حسّان وليلى اللذين يرويان بالأنا، كما أن ثمّة تردّد للراوي الأنت، كما في حالة حسّان وهو يخاطب ذاته رغم أنه يسرد عن ذاته في الفصل السّابق وعلاقته بصولا وموقفه من أبيه. الشيء الملاحظ أن الراوي الغائب الذي يسرد عن نجوى، في أحيان معينة يبدو شخصًا لصيقًا بها ويقدم آراء واعتراضات في صيغة نصائح، فما أن تتغيّر نجوى بسبب علاقة الحب بينها وبين جانو النجار الذي كان يحبها قبل زواجها، يقول الراوي «لكن الحب في وقت متأخر لن يحظى برضا العائلة، وَسُيعتبر خيانة» (ص،175)
 تعثُّر الأحلام
لم تنجح شخصية واحدة في تحقيق ما تصبوا إليه من آمال أو طموحات، حتى ولو كانت ضئيلة، باستنثاء شخصية وهيب أخو نجوى الذي على الأقل نجى من الصراعات، ففضّل أن يبقى مع دجاجاته، كان مسالمًا بعكس الشَّخصيات الأخرى التي عركتها الحياة فتخلّت عن أحلامها البسطية مثل ليلى التي انقطعت عن التعليم لعدم استقرار الأسرة وعدم وجود مال، فاضّطرت إلى أن تعمل، ثم فقدانها حبهال ربيع، وهو ما جعلها تسقط في زواجات فاشلة بدءًا من حميد وصولاً إلى ماهر الطبّاخ القادم من إسبانيا، ثمّ الصّدمة الكبرى عندما راودها الشك بأنّ ثمّة علاقة بينه وبين بأختها ياسمين، فيتلاشى كلّ شيء و«لم يبق لها سوى نظرة عين ساهمة، ووجنتان غائرتان، وهالات زرقاء حول عينها». باسم الشخصية الإشكالية الذي ظلّ رفيقًا للبندقية حتى تجلت الخيانة بقتل صديقه أمام عينيه فعاد إلى أولاده، هو أكثر الشخصيات انهزامية بعد ليلى ففي ظلِّ بحثه الدائم عن هويته الضَّائِعَة لم يجنِ سوى الهُروب والغياب، واكتفى بجلد الذّات بحكايات عن الوطن المفقود، وإن كان قاوم قليلاً بالبندقية، إلا أنه فضل الهرب في النهاية، أما حسن الصغير الذي كان يحبه الأب، فما أن صُدِم بأبيه وأخته حتى ترك دراسته وأطلق لحيته، ولزم الصمت فترة، ثم هاجر هو الآخر ليقاتل في سبيل الله.
 قتل الأب بالسؤال.
صورة الأب الغائب وحالة الضياع التي حلّت على الجميع بسبب هذا الغياب سيطرت على الشخصيات وطاردتها عقدة عدم الانتماء، فحسّان أكثر الشخصيات نقمة على الأب وفي تساؤلاته أشبه بأوديب وهو يقتل أبوه، وهو ما تشكّل عبر الأحلام التي كانت تطارده ثمّ في تذكّره الماضي والحوارات المتخيّلة التي كان يجريها بينه وبين الأب «كنت أنوي كشف قناعه أمام نفسه، ومواجهته بضعفه وتخاذله بنكران أبوّته! ما فائدة أبوّة منقوصة؟!» (ص، 211).
حالة الصّراع بين البحث عن الأب وقتله، تنعكس على السَّرد الذي يراوح بين الغنائيّة التي تعكس حجم المأساة التي عاشها الأبناء كلّ على حدّة أو مجتمعين بسبب غياب الأب أو بالأحرى هروبه، وفقدان الانتماء حتى عندما جاءت الهوية اتضح أن الانتماء هو الذي يفتقدونه، وبين التساؤلات التي تعكس حالة الضياع التي عاشها الجميع، لا فرق بين أسئلة حسّان عن الأب الغائب والهارب والأب الميت، أو عن أسئلة الهوية والانتماء، أو الحب والضياع، أو أسئلة الأم المعلنة أو المضمرة عن المصير الذي آلت إليه وكأنها تعاقب على لعنة الأم سعاد التي هربت من قبل فكتب على أبنائها الشتات والضياع لا فرق بين الأم نجوى ومأساتها الكبرى مع الزوج ثم مع الأبناء وخاصّة مأساة حسن الذي انسرب في دروب لا عودة منها، أو ياسيمن التي جنحت لتمردها وكأنها تُكرِّر مأساة الأم، أو حتى أسئلتها الخاصّة ورغباتها في الزواج بمن يُحبّها (جانو)، إلى أسئلة ليلى الوجودية: عن مَنْ هى؟ هل هي «البنت الفقيرة أمّ الأم المعذبة أمّ زوجة صاحب مطعم أندلسيا الشهير في بيروت؟ أم هي أمّ ابن لأب غائب أيضًا؟ وتساؤلاتها عن علاقتها بزياد؟ وعن علاقتها بخالتها ملكة هل هي التي تشبهها أم ياسمين؟ وعن أحلامها الكبرى وهل هي فعلًا القديسة التي أرادت تفدي أخوتها؟ إلى أسئلة حسن عن انتمائه لأبيه أم لأمه، أم للأسرة، وهي الحيرة التي دفعته إلى البحث عن الله في نهاية الرواية.
د. ممدوح فرّاج النّابي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.