استعدادا لشم النسيم ..رفع درجة الاستعداد بالمستشفيات الجامعية    سعر الدينار الكويتي اليوم الأحد 5-5-2024 مقابل الجنيه في البنك الأهلي بالتزامن مع إجازة عيد القيامة والعمال    وزير المالية: 3.5 مليار جنيه لدعم الكهرباء وشركات المياه و657 مليون ل«المزارعين»    وزيرة إسرائيلية تهاجم أمريكا: لا تستحق صفة صديق    تشكيل ليفربول المتوقع ضد توتنهام.. هل يشارك محمد صلاح أساسيًا؟    الاتحاد يواصل تدريباته استعدادًا لمواجهة الأهلي.. وأتوبيسات مجانية للجماهير    الأهلي يجدد عقد حارسه بعد نهائي أفريقيا    مصرع شخص وإصابة 10 آخرين في حادثي سير منفصلين بالشرقية    الإسكان: 98 قرارًا لاعتماد التصميم العمراني والتخطيط ل 4232 فدانًا بالمدن الجديدة    «الري»: انطلاق المرحلة الثانية من برنامج تعزيز التكيف مع التغيرات المناخية في الساحل الشمالي والدلتا    الإسكان تنظم ورش عمل حول تطبيق قانون التصالح في مخالفات البناء    استقرار ملحوظ في سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه المصري اليوم    العمل: توفير 14 ألف وظيفة لذوي الهمم.. و3400 فرصة جديدة ب55 شركة    ماكرون يطالب بفتح مجال التفاوض مع روسيا للوصول لحل آمن لجميع الأطراف    مسؤول أممي: تهديد قضاة «الجنائية الدولية» انتهاك صارخ لاستقلالية المحكمة    أوكرانيا تسقط 23 طائرة مسيرة روسية خلال الليل    رئيس الوزراء الياباني: ليس هناك خطط لحل البرلمان    قصف مدفعي إسرائيلي على الحدود اللبنانية    يصل إلى 50 شهاباً في السماء.. «الجمعية الفلكية» تعلن موعد ذروة «إيتا الدلويات 2024» (تفاصيل)    البابا تواضروس خلال قداس عيد القيامة: الوطن أغلى ما عند الإنسان (صور)    اتحاد القبائل العربية: نقف صفًا واحدًا خلف القيادة السياسية والقوات المسلحة «مدينة السيسي» هدية جديدة من الرئيس لأرض الفيروز    فيديو.. شعبة بيض المائدة: نترقب مزيدا من انخفاض الأسعار في شهر أكتوبر    مختار مختار يطالب بإراحة نجوم الأهلي قبل مواجهة الترجي    كرة طائرة - مريم متولي: غير صحيح طلبي العودة ل الأهلي بل إدارتهم من تواصلت معنا    «شوبير» يكشف حقيقة رفض الشناوي المشاركة مع الأهلي    شوبير يكشف مفاجأة حول أول الراحلين عن الأهلي بنهاية الموسم    ارتفاع أسعار الدواجن اليوم الأحد في الأسواق (موقع رسمي)    الزراعة: حديقة الأسماك تستعد لاستقبال المواطنين في عيد شم النسيم    المديريات تحدد حالات وضوابط الاعتذار عن المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية    ضبط دهون لحوم بلدية غير صالحة للاستهلاك الآدمي في البحيرة    حدائق القاهرة: زيادة منافذ بيع التذاكر لعدم تكدس المواطنيين أمام بوابات الحدائق وإلغاء إجازات العاملين    التصريح بدفن شخص لقي مصرعه متأثرا بإصابته في حادث بالشرقية    السيطرة على حريق التهم مخزن قطن داخل منزل في الشرقية    وفاة كهربائي صعقه التيار بسوهاج    نجل الطبلاوي: والدي كان يوصينا بحفظ القرآن واتباع سنة النبي محمد (فيديو)    يعود لعصر الفراعنة.. خبير آثار: «شم النسيم» أقدم عيد شعبي في مصر    تامر حسني يدعم شابا ويرتدي تي شيرت من صنعه خلال حفله بالعين السخنة    سرب الوطنية والكرامة    الكاتبة فاطمة المعدول تتعرض لأزمة صحية وتعلن خضوعها لعملية جراحية    حكيم ومحمد عدوية اليوم في حفل ليالي مصر أحتفالا بأعياد الربيع    رئيس «الرعاية الصحية» يبحث تعزيز التعاون مع ممثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة    صحة الإسماعيلية تنظم مسابقات وتقدم الهدايا للأطفال خلال الاحتفال بعيد القيامة (صور)    أخبار الأهلي: تحرك جديد من اتحاد الكرة في أزمة الشيبي والشحات    وزير شئون المجالس النيابية يحضر قداس عيد القيامة المجيد ..صور    إنقاذ العالقين فوق أسطح المباني في البرازيل بسبب الفيضانات|فيديو    كريم فهمي: مكنتش متخيل أن أمي ممكن تتزوج مرة تانية    مخاوف في أمريكا.. ظهور أعراض وباء مميت على مزارع بولاية تكساس    مصر للبيع.. بلومبرج تحقق في تقريرها عن الاقتصاد المصري    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. الأحد 5 مايو    حزب العدل يشارك في قداس عيد القيامة بالكاتدرائية المرقسية    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    صناعة الدواء: النواقص بالسوق المحلي 7% فقط    أبو العينين وحسام موافي| فيديو الحقيقة الكاملة.. علاقة محبة وامتنان وتقدير.. وكيل النواب يسهب في مدح طبيب "جبر الخواطر".. والعالم يرد الحسنى بالحسنى    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



" فايسبوك " فسحة للتواصل والتلصص ومواجهة الرقابة
نشر في صوت البلد يوم 08 - 03 - 2016

بات لكل شخص جداره الفايسبوكي في العالم العربي، وهو مستقرّه الجديد. حتى الذي يتعنّت رافضاً فتح حساب فايسبوكي لا بد من أنه يتتبع أخباره بطريقة ما، يتقصّاها من أصدقائه الفايسبوكيين، مثلاً. هذا ما بات من طبيعة سير تواصل الأشخاص والجماعات. ففي هذا الزمن إما أن تكون كائناً فايسبوكياً أو لا تكون موجوداً إلا في عالمك الواقعي الضيق. فال»هنا» الفايسبوكي فسيح للتعبير بلا قيود، بينما ال»هناك» الواقعي مادي ملموس ومحدّد. في كل الأحوال لم تعد هذه المقارنة مجدية، ما دام الجميع باتوا من سكان الفايسبوك أو مواطنيه، أي حجزوا مكانهم في العالم الافتراضي الذي يتقاسم حياتهم مع العالم الواقعي، تقاسماً غير عادل لصالح العالم الافتراضي، الذي حوّل الواقع الحياتي إلى مكان للعمل الجسدي ولشحن الجسد بالغذاء.
سكان الفايسبوك يقبعون فيه. أي أنهم لا يبرحونه أبداً إلى أي مكان آخر، لأنه فسحة (في المنجد: السّعة. الفُرجة بين البيوت وغيرها. السعة بين عملين للراحة والتنزّه)، والفسحات في بلادنا العربية «قليلة». فقد أغلقت الفسحات أو سيّجت أو دُمرت بطريقة ما أو وضعت داخل سجن، أو تقسّمت بين اللاجئين إليها بحسب أعراقهم وطوائفهم وانتماءاتهم وأيديولوجياتهم. «هناك فسحات، ولو قليلة»، يرد المتفائلون. فعلاً هناك فسحات، لكنها متسخة كملعب خلّفه تلامذة أشقياء بعد عودتهم إلى صفوفهم من الاستراحة القصيرة في منتصف النهار التعليمي الطويل المملّ والمضجر. والفسحة العربية هي في الغالب ساحة ممهدة بجثث القتلى، ويحتل زواياها مهزومون مذلون مهانون أميون فقراء مصابون بلعنة الحياة غير العادلة.
الهروب إلى عالم الفايسبوك يخفّف من وطأة هزائم النفوس والأجساد التي تجري في العالم الواقعي العربي.
الفايسبوك يعوّضنا جميعاً حريتنا المفقودة، لذا لا نبرحه إلا قليلاً، لدواعي العودة إلى الواقع الملموس، ذاك الذي ما أن تغادر حائط فايسبوكك نحوه وتفتح بابه، يصفعك برائحة العفونة التي تنساب منه. قد تبدو عبارة عفونة قاسية، ولكن ألا يشي واقع مجتمعات البلدان العربية بالتعفن، وبالاستنقاع؟
الفايسبوك ليس كذلك، إنه نهر هادر للآراء والحيوات الخاصة وفنون التعبير على أنواعها واختلافها. أما سكان الفايسبوك فلا يبرحونه، هناك يضع المرء «لينك» المقالة التي يكتبها في الصحيفة الواقعية، تلك التي تباع في الأكشاك والمكتبات ويمرّ بقربها الناس الحقيقيون الذين من لحم ودم، لكن المقالة أو القصيدة ستقرأ في مجتمع الفايسبوك أكثر بكثير مما ستقرأ في الواقع الحقيقي.
جدار الفايسبوك باب بينما باب الواقع جدار. فلماذا إذاً على سكان الفايسبوك أن يغادروه؟ لا ضرورة لذلك أصلاً. لكنهم في عالمهم الافتراضي هذا مواطنون بلا جسد، يتخلّون عن أجسادهم الواقعية لصالح حياة مقطّعة ومركبة أي ممنتجة (من مونتاج) بحسب أهوائهم أو وفقاً لصورة ما يحبون أن تكون عليه حياتهم. يمنتجون فيلم حياتهم الواقعية، فيخلقون حياة جديدة، يصدقونها ربما، أو لا يصدقونها لكنهم يتقصدون توهّمها. ففي هذا العالم مسموح التوهّم، ومسموح أيضاً جعل الحياة الحقيقية في الكواليس. وهكذا تنمحي الأجساد، وينمحي جسد الحياة الواقعية التي تصير وكأنها تجري في الخارج. ندخل إليها ثم نخرج منها نحو الفايسبوك. كما الكائنات البرمائية التي لا تعرف إذا ما كانت تخرج من اليابسة وتدخل في الماء، أو تخرج من الماء وتدخل في اليابسة. فالحدّ بين الداخل والخارج ما زال متوهماً، وهذه الحيرة نفسها لسكان الفايسبوك المدمنين، المخلصين لموطنهم الجديد.
على سبيل المثل: اللافايسبوكيون وأميو الإنترنت يبدون كوحيدين في العراء. يعيشون حياة واحدة، هي تلك التي يقيسونها بالوقت الذي يمرّ بلا انقطاع، والمسطحة وكأنها ذات بعد واحد (one dimension). بينما سكان الفايسبوك، يحيون حياة ثلاثية الأبعاد (3D)، حيوات متداخلة ومتقاطعة وموهومة وحقيقية. والحيوات لا تخضع لرقيب إلا ما يفرضه صاحبها على نفسه، كي يقدم الصورة التي يبتغيها عن نفسه لسكان الفايسبوك الآخرين.
الفايسبوك يمكن أن يكون رديفاً للحياة، بل وفائضاً عنها. إذ عبر الفايسبوك يمكنك أن تتلصّص على حياتك الماضية، أن تدخل إلى عالمك الذي كنت فيه قبل أعوام. ترى حياتك الماضية وكأنها تحدث هنا أمامك والآن، وعليك أن تتخذ موقفاً منها، من كيف جرت. ويمكنك العودة إلى الحيوات الماضية التي عاشها سكان الفايسبوك، سواء كنت تعرفهم في الحياة الواقعية أم لا. وكأن الفايسبوك مرآة وأنت في حياتين، واحدة التي أمام المرآة وأخرى التي تبعد المسافة نفسها عن المرآة في داخلها. شخص حقيقي وشخص هيولوي، حياة ماضية وحياة تجري الآن. حياتك وحدك، وحياتك بالاشتراك مع الآخرين، وحياة الآخرين التي يتشاركونها مع آخرين غيرهم وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.
مذ تكتب «بوست» على الفايسبوك يدخل في الحياة الماضية وتدخل أنت معه إليها عبر ملاحقة «اللايكات» و»الكومنتات». فأنت في الفايسبوك منجرف في نهره الدائري، فيعيدك إلى الوراء في الوقت الذي تندفع إلى الأمام، ثم يدفعك إلى الأمام بينما تنشد الوراء، نهر دائري يدور حول نفسه، وفي الوقت عينه حول العوالم الكثيرة التي يقترحها. كما الكرة الأرضية حول الشمس، والشمس في المجرة، وكلهم في العدم. دوران لا نهائي إلى «لا مستقر». في الفايسبوك الدوران نفس، أي دورانك حول جدارك وجدرانهم، ودورانهم حول جدارك وحول جدرانهم، ودورانكم جميعاً حول جدران الجميع، ثم دوران الجميع حول الفايسبوك الواسع والكبير، الذي بدوره يدور بالجميع في اللامكان. كل هذا الدوران العدمي لا ينتهي إلا حين تلغي حسابك الفايسبوكي نهائياً. هذا إن استطعت إلى ذلك سبيلاً. أي أن تهدم، في لحظة، حياتك التي بنيتها على مدى سنوات في عالم الفايسبوك.
نكتب على جدار الفايسبوك الجملة الأولى التي تخطر في بالنا، فنحن لا نفكر بأننا سنخلدها في كتاب ورقي مطبوع. إنها جملة آنية ولحظوية، خطرت فلمعت فأعجبتنا فكتبناها. إنها مجرد طُعم في نهر الفايسبوك. وحدهم أولئك الذين يقيسون ويزينون جملهم جيداً قبل كتابتها، وربما يكتبونها على الورق قبل أن ينقلوها إلى جدار الفايسبوك، هؤلاء وحدهم يمكنهم صناعة كتاب مما نشروه على جدرانهم، أي كتاب ورقي لكتاباتهم الافتراضية المفكّر بها، وهؤلاء كثر. نحن هنا لا نتناول كتب هؤلاء الفايسبوكية، بل نناقش منحهم سكان عالم الفايسبوك، باستسخاف، أو لنقل باستسهال، اسم: «الفسابكة». هذا جمع تكسير بلا أي معنى.
هؤلاء «الفسابكة» المختصرون بعبارة واحدة لا معنى لها في اللغة العربية، هم أشخاص من لحم ودم، ويتحملون مسؤولية ما يكتبونه في العالم الافتراضي، ويدفعون ثمنه في العالم الواقعي، وقد يعتقلهم رجال الشرطة بتهم مختلفة، أسخفها النيل من الأمن القومي في أي بلد عربي. وقد يخسرون أصدقاء أو يربحونهم بسبب رأي كتبوه، وقد يصابون بالندم، أو بجنون التصديق بأنهم أحرار في قول ما يشاؤون. هؤلاء لا يمكن اختصارهم بعبارة «الفسابكة»، لأنهم مواطنو عالم الفايسبوك وسكانه، وهم يملكون هويات شخصية واضحة في عالم الفايسبوك، حتى لو لم تكن حقيقية، لكنها الهويات التي اختاروها لأنفسهم، بعدما صعب عليهم اختيار هوياتهم في العالم الواقعي، حين منذ الولادة مُنحوا أسماء وأرقاماً وانتماءات دينية ومناطقية من دون الأخذ برأيهم.
يسألك الفايسبوك طوال الوقت «بماذا تفكر؟» what in your mind، لكي تملأ «البوست» الفارغ أمامك. وكل واحد من سكان الفايسبوك، لديه الرغبة في أن يملأ هذا الفراغ بكلام ما، أو برأي، أو بصورة، وربما بفيديو. يريد أن يقفز في نهر الفايسبوك مع القافزين، كي يكون بينهم ولو في الغرق، فهذا أفضل من الوحدة على الضفة. لذا ترى أن أكثر سكان الفايسبوك يلبون النداء ويعبّرون عن رأيهم على مدى النهار، وأحياناً تشعر ويشعرون أنهم باتوا مدمنين على إبداء آرائهم، لكنهم لا يرون ضيراً في ذلك طالما أن هذا ما يفعله الجميع، كالمدخن الذي يقرأ على علبة السجائر عبارة: «التدخين يؤدي إلى الموت المبكر»، لكنه لا يرعوي، بل يعتبر أن الجملة هذه من ديكور العلبة نفسها.
بالطبع لن ينال الموت من سكان الفايسبوك بسبب ما يكتبونه على جدرانهم، ولكن لا بد أن الإدمان سيكون بانتظارهم، والإدمان بذاته لا يقتل، لكنه في الفايسبوك يؤدي إلى إفلات الحياة الواقعية من بين يدي المواطن الفايسبوكي.
بمجرد أن يشعر مواطن الفايسبوك بأنه أفلت حياته الواقعية، أو أنها باتت تضجره، أو أن عودته إليها جسديا لا تكون إلا اضطراراً، ولقاء أصدقاء حقيقيين من لحم ودم أقل قيمة ومعنى من لقاء أصدقاء افتراضيين ممنتجة حياتهم، فهذا إنما يعني موت الكائن الفايسبوكي واقعياً على رغم بقائه على قيد الحياة افتراضياً.
مواطن الفايسبوك، يغرق في إدمانه إلى درجة، أنه يخاف مما سيقوله السكان الآخرون عنه في غيابه، في حال قرر الخروج من عالم الفايسبوك الافتراضي إلى العالم الملموس. لذا لا يتردد عن العودة إلى جداره القديم الذي تخلى عنه، والذي حافظ له الفايسبوك عليه كما تركه، من دون أي تغيير أو تبديل، وعند عودته يبحث أولاً عن رد فعل سكان الفايسبوك على غيبته، ثم عن رد فعلهم على عودته المجيدة والمظفرة. وهذه صورة من صور الإدمان الفايسبوكي، أي استقصاء وجهة نظر الفايسبوكيين بك كفايسبوكي. أي مدى تطابق ولائك مع ولائهم. لأن الخروج على الملة الفايسبوكية المدمنة يثير الغيرة والحسد، كما يثير الخارج من الإدمان على الكحول الغيرة والحسد والكره في أقرانه الكحوليين.
عدت إلى العالم الواقعي الملموس؟ يسأله أقرانه بسخرية: أين يقع هذا العالم؟ وهم ليسوا مخطئين في السؤال البتة، فأين هو العالم الواقعي في العالم العربي؟ من يعرف أين يقع، فليضع يده على الخريطة ويدلنا عليه.
بات لكل شخص جداره الفايسبوكي في العالم العربي، وهو مستقرّه الجديد. حتى الذي يتعنّت رافضاً فتح حساب فايسبوكي لا بد من أنه يتتبع أخباره بطريقة ما، يتقصّاها من أصدقائه الفايسبوكيين، مثلاً. هذا ما بات من طبيعة سير تواصل الأشخاص والجماعات. ففي هذا الزمن إما أن تكون كائناً فايسبوكياً أو لا تكون موجوداً إلا في عالمك الواقعي الضيق. فال»هنا» الفايسبوكي فسيح للتعبير بلا قيود، بينما ال»هناك» الواقعي مادي ملموس ومحدّد. في كل الأحوال لم تعد هذه المقارنة مجدية، ما دام الجميع باتوا من سكان الفايسبوك أو مواطنيه، أي حجزوا مكانهم في العالم الافتراضي الذي يتقاسم حياتهم مع العالم الواقعي، تقاسماً غير عادل لصالح العالم الافتراضي، الذي حوّل الواقع الحياتي إلى مكان للعمل الجسدي ولشحن الجسد بالغذاء.
سكان الفايسبوك يقبعون فيه. أي أنهم لا يبرحونه أبداً إلى أي مكان آخر، لأنه فسحة (في المنجد: السّعة. الفُرجة بين البيوت وغيرها. السعة بين عملين للراحة والتنزّه)، والفسحات في بلادنا العربية «قليلة». فقد أغلقت الفسحات أو سيّجت أو دُمرت بطريقة ما أو وضعت داخل سجن، أو تقسّمت بين اللاجئين إليها بحسب أعراقهم وطوائفهم وانتماءاتهم وأيديولوجياتهم. «هناك فسحات، ولو قليلة»، يرد المتفائلون. فعلاً هناك فسحات، لكنها متسخة كملعب خلّفه تلامذة أشقياء بعد عودتهم إلى صفوفهم من الاستراحة القصيرة في منتصف النهار التعليمي الطويل المملّ والمضجر. والفسحة العربية هي في الغالب ساحة ممهدة بجثث القتلى، ويحتل زواياها مهزومون مذلون مهانون أميون فقراء مصابون بلعنة الحياة غير العادلة.
الهروب إلى عالم الفايسبوك يخفّف من وطأة هزائم النفوس والأجساد التي تجري في العالم الواقعي العربي.
الفايسبوك يعوّضنا جميعاً حريتنا المفقودة، لذا لا نبرحه إلا قليلاً، لدواعي العودة إلى الواقع الملموس، ذاك الذي ما أن تغادر حائط فايسبوكك نحوه وتفتح بابه، يصفعك برائحة العفونة التي تنساب منه. قد تبدو عبارة عفونة قاسية، ولكن ألا يشي واقع مجتمعات البلدان العربية بالتعفن، وبالاستنقاع؟
الفايسبوك ليس كذلك، إنه نهر هادر للآراء والحيوات الخاصة وفنون التعبير على أنواعها واختلافها. أما سكان الفايسبوك فلا يبرحونه، هناك يضع المرء «لينك» المقالة التي يكتبها في الصحيفة الواقعية، تلك التي تباع في الأكشاك والمكتبات ويمرّ بقربها الناس الحقيقيون الذين من لحم ودم، لكن المقالة أو القصيدة ستقرأ في مجتمع الفايسبوك أكثر بكثير مما ستقرأ في الواقع الحقيقي.
جدار الفايسبوك باب بينما باب الواقع جدار. فلماذا إذاً على سكان الفايسبوك أن يغادروه؟ لا ضرورة لذلك أصلاً. لكنهم في عالمهم الافتراضي هذا مواطنون بلا جسد، يتخلّون عن أجسادهم الواقعية لصالح حياة مقطّعة ومركبة أي ممنتجة (من مونتاج) بحسب أهوائهم أو وفقاً لصورة ما يحبون أن تكون عليه حياتهم. يمنتجون فيلم حياتهم الواقعية، فيخلقون حياة جديدة، يصدقونها ربما، أو لا يصدقونها لكنهم يتقصدون توهّمها. ففي هذا العالم مسموح التوهّم، ومسموح أيضاً جعل الحياة الحقيقية في الكواليس. وهكذا تنمحي الأجساد، وينمحي جسد الحياة الواقعية التي تصير وكأنها تجري في الخارج. ندخل إليها ثم نخرج منها نحو الفايسبوك. كما الكائنات البرمائية التي لا تعرف إذا ما كانت تخرج من اليابسة وتدخل في الماء، أو تخرج من الماء وتدخل في اليابسة. فالحدّ بين الداخل والخارج ما زال متوهماً، وهذه الحيرة نفسها لسكان الفايسبوك المدمنين، المخلصين لموطنهم الجديد.
على سبيل المثل: اللافايسبوكيون وأميو الإنترنت يبدون كوحيدين في العراء. يعيشون حياة واحدة، هي تلك التي يقيسونها بالوقت الذي يمرّ بلا انقطاع، والمسطحة وكأنها ذات بعد واحد (one dimension). بينما سكان الفايسبوك، يحيون حياة ثلاثية الأبعاد (3D)، حيوات متداخلة ومتقاطعة وموهومة وحقيقية. والحيوات لا تخضع لرقيب إلا ما يفرضه صاحبها على نفسه، كي يقدم الصورة التي يبتغيها عن نفسه لسكان الفايسبوك الآخرين.
الفايسبوك يمكن أن يكون رديفاً للحياة، بل وفائضاً عنها. إذ عبر الفايسبوك يمكنك أن تتلصّص على حياتك الماضية، أن تدخل إلى عالمك الذي كنت فيه قبل أعوام. ترى حياتك الماضية وكأنها تحدث هنا أمامك والآن، وعليك أن تتخذ موقفاً منها، من كيف جرت. ويمكنك العودة إلى الحيوات الماضية التي عاشها سكان الفايسبوك، سواء كنت تعرفهم في الحياة الواقعية أم لا. وكأن الفايسبوك مرآة وأنت في حياتين، واحدة التي أمام المرآة وأخرى التي تبعد المسافة نفسها عن المرآة في داخلها. شخص حقيقي وشخص هيولوي، حياة ماضية وحياة تجري الآن. حياتك وحدك، وحياتك بالاشتراك مع الآخرين، وحياة الآخرين التي يتشاركونها مع آخرين غيرهم وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.
مذ تكتب «بوست» على الفايسبوك يدخل في الحياة الماضية وتدخل أنت معه إليها عبر ملاحقة «اللايكات» و»الكومنتات». فأنت في الفايسبوك منجرف في نهره الدائري، فيعيدك إلى الوراء في الوقت الذي تندفع إلى الأمام، ثم يدفعك إلى الأمام بينما تنشد الوراء، نهر دائري يدور حول نفسه، وفي الوقت عينه حول العوالم الكثيرة التي يقترحها. كما الكرة الأرضية حول الشمس، والشمس في المجرة، وكلهم في العدم. دوران لا نهائي إلى «لا مستقر». في الفايسبوك الدوران نفس، أي دورانك حول جدارك وجدرانهم، ودورانهم حول جدارك وحول جدرانهم، ودورانكم جميعاً حول جدران الجميع، ثم دوران الجميع حول الفايسبوك الواسع والكبير، الذي بدوره يدور بالجميع في اللامكان. كل هذا الدوران العدمي لا ينتهي إلا حين تلغي حسابك الفايسبوكي نهائياً. هذا إن استطعت إلى ذلك سبيلاً. أي أن تهدم، في لحظة، حياتك التي بنيتها على مدى سنوات في عالم الفايسبوك.
نكتب على جدار الفايسبوك الجملة الأولى التي تخطر في بالنا، فنحن لا نفكر بأننا سنخلدها في كتاب ورقي مطبوع. إنها جملة آنية ولحظوية، خطرت فلمعت فأعجبتنا فكتبناها. إنها مجرد طُعم في نهر الفايسبوك. وحدهم أولئك الذين يقيسون ويزينون جملهم جيداً قبل كتابتها، وربما يكتبونها على الورق قبل أن ينقلوها إلى جدار الفايسبوك، هؤلاء وحدهم يمكنهم صناعة كتاب مما نشروه على جدرانهم، أي كتاب ورقي لكتاباتهم الافتراضية المفكّر بها، وهؤلاء كثر. نحن هنا لا نتناول كتب هؤلاء الفايسبوكية، بل نناقش منحهم سكان عالم الفايسبوك، باستسخاف، أو لنقل باستسهال، اسم: «الفسابكة». هذا جمع تكسير بلا أي معنى.
هؤلاء «الفسابكة» المختصرون بعبارة واحدة لا معنى لها في اللغة العربية، هم أشخاص من لحم ودم، ويتحملون مسؤولية ما يكتبونه في العالم الافتراضي، ويدفعون ثمنه في العالم الواقعي، وقد يعتقلهم رجال الشرطة بتهم مختلفة، أسخفها النيل من الأمن القومي في أي بلد عربي. وقد يخسرون أصدقاء أو يربحونهم بسبب رأي كتبوه، وقد يصابون بالندم، أو بجنون التصديق بأنهم أحرار في قول ما يشاؤون. هؤلاء لا يمكن اختصارهم بعبارة «الفسابكة»، لأنهم مواطنو عالم الفايسبوك وسكانه، وهم يملكون هويات شخصية واضحة في عالم الفايسبوك، حتى لو لم تكن حقيقية، لكنها الهويات التي اختاروها لأنفسهم، بعدما صعب عليهم اختيار هوياتهم في العالم الواقعي، حين منذ الولادة مُنحوا أسماء وأرقاماً وانتماءات دينية ومناطقية من دون الأخذ برأيهم.
يسألك الفايسبوك طوال الوقت «بماذا تفكر؟» what in your mind، لكي تملأ «البوست» الفارغ أمامك. وكل واحد من سكان الفايسبوك، لديه الرغبة في أن يملأ هذا الفراغ بكلام ما، أو برأي، أو بصورة، وربما بفيديو. يريد أن يقفز في نهر الفايسبوك مع القافزين، كي يكون بينهم ولو في الغرق، فهذا أفضل من الوحدة على الضفة. لذا ترى أن أكثر سكان الفايسبوك يلبون النداء ويعبّرون عن رأيهم على مدى النهار، وأحياناً تشعر ويشعرون أنهم باتوا مدمنين على إبداء آرائهم، لكنهم لا يرون ضيراً في ذلك طالما أن هذا ما يفعله الجميع، كالمدخن الذي يقرأ على علبة السجائر عبارة: «التدخين يؤدي إلى الموت المبكر»، لكنه لا يرعوي، بل يعتبر أن الجملة هذه من ديكور العلبة نفسها.
بالطبع لن ينال الموت من سكان الفايسبوك بسبب ما يكتبونه على جدرانهم، ولكن لا بد أن الإدمان سيكون بانتظارهم، والإدمان بذاته لا يقتل، لكنه في الفايسبوك يؤدي إلى إفلات الحياة الواقعية من بين يدي المواطن الفايسبوكي.
بمجرد أن يشعر مواطن الفايسبوك بأنه أفلت حياته الواقعية، أو أنها باتت تضجره، أو أن عودته إليها جسديا لا تكون إلا اضطراراً، ولقاء أصدقاء حقيقيين من لحم ودم أقل قيمة ومعنى من لقاء أصدقاء افتراضيين ممنتجة حياتهم، فهذا إنما يعني موت الكائن الفايسبوكي واقعياً على رغم بقائه على قيد الحياة افتراضياً.
مواطن الفايسبوك، يغرق في إدمانه إلى درجة، أنه يخاف مما سيقوله السكان الآخرون عنه في غيابه، في حال قرر الخروج من عالم الفايسبوك الافتراضي إلى العالم الملموس. لذا لا يتردد عن العودة إلى جداره القديم الذي تخلى عنه، والذي حافظ له الفايسبوك عليه كما تركه، من دون أي تغيير أو تبديل، وعند عودته يبحث أولاً عن رد فعل سكان الفايسبوك على غيبته، ثم عن رد فعلهم على عودته المجيدة والمظفرة. وهذه صورة من صور الإدمان الفايسبوكي، أي استقصاء وجهة نظر الفايسبوكيين بك كفايسبوكي. أي مدى تطابق ولائك مع ولائهم. لأن الخروج على الملة الفايسبوكية المدمنة يثير الغيرة والحسد، كما يثير الخارج من الإدمان على الكحول الغيرة والحسد والكره في أقرانه الكحوليين.
عدت إلى العالم الواقعي الملموس؟ يسأله أقرانه بسخرية: أين يقع هذا العالم؟ وهم ليسوا مخطئين في السؤال البتة، فأين هو العالم الواقعي في العالم العربي؟ من يعرف أين يقع، فليضع يده على الخريطة ويدلنا عليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.