كتاب " عادات الزواج في بلاد النوبة " لمؤلفه مصطفى محمد عبد القادر يطلعنا على صفحة من صفحات الملامح الثقافية الخاصة بالنوبيين، عندما تأمل المؤلف احتفال أهله بالزواج، اختار وهو يبحث في هذا الموضوع أن يكشف عن ملامح التشابه والتمايز بين الفاديجا والكنوز فيما يتعلق باحتفالهم بالعرس، ويؤكد على أن ظروف المكان المشترك، والاقتراب والتداخل والتلاقي اليومي المباشر، تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر في انحياز الفاديجا والكنوز إلى ملامح ثقافية مشتركة تغلب على طبيعة الاحتفال في كثير من مفرداته، ليس معنى هذا أن ذلك التشابه يذهب فيما بين المجتمعين إلى حد تطابق الفعل السلوكي الجمعي لكليهما، إذ إن الجذور التاريخية والاحتياجات الخاصة لكل جماعة تؤثر في قدر من تمايز لا يستطيع الكشف عنه إلا باحث مدقق. يقول د. سميح شعلان في مقدمته للكتاب : يسعى البشر في كل الأزمنة والأمكنة إلى التعايش مع منطق الحياة التي يجبونها، من خلال التصالح مع طبيعة الظروف التي تدعو إلى ذلك المنطق وتتأسس صيغة التصالح على عادات شعبية يتفق عليها ويرضى عنها أفراد كل جماعة، يأتي هذا الاتفاق والرضا عن تنفيذ تلك العادات من خلال حرص أفراد الجماعة على إثبات قناعتهم بانتسابهم إلى جماعتهم كما تتأسس كذلك على معتقدات وإبداعات شعبية جميعهم يلبون احتياجات أفراد الجماعة إلى ذلك المنطق في التعايش والإقبال والقبول والرضا بتلك الظروف. استطاع النوبيون – وعبر تاريخهم الطويل – كغيرهم من المجتمعات الإنسانية أن يتأملوا مفردات حياتهم، ويستوعبوا معناها، وفحوى العلاقة التي تربطهم بأرضهم وبأنفسهم وبغيرهم ومن خلال هذا الفهم ابتدعوا أساليباً خاصة تعبّر عن حرصهم الدائم والمستمر على سواء العلاقة فيما بينهم وواقعهم. ويضيف د.شعلان :حرصت المجتمعات الإنسانية على وضع قواعد منظمة للاقتران الشرعي بين الفتى والفتاة، إذ إن حدوث الزواج يعني استمرار الجماعة في صيغتها البشرية، التي تؤكد أن الفرد كائن اجتماعي لا يستطيع مداومة علاقته بالحياة دونما ارتباطه بآخر ولأن الزواج يمثل رابطاً أسرياً نووياً تتشكّل على أساسه وانطلاقاً منه الصورة العامة للمجتمع، تأتي حاجة المجتمع الملحة لترتيب قواعد السلوك المنظمة لكيفية حدوثه، بصورة تشبع حاجة الأفراد الملحة إلى وقفات احتجاجية ضد رتابة تكرار السلوك اليومي، من خلال المشاركة في أشكال الغناء والرقص اللذين يمثلان أهم أركان الاحتفال، كذلك فإن انتشاء الأجساد بالملابس الجديدة والإكسسوارات والحلي المبهرة تؤكد الفرحة وتشكّل بعض معانيها التي يحرص الفرد أن يستعرض من خلال رموزها وضعه ومكانته وأيضاً إمكاناته ومواهبه وقدراته الخاصة حيث يعد الاحتفال بالزواج في هذه الحالة مناخاً مناسباً ومحفزاً للاختيار، حيث يعد الاحتفال بالزواج في هذه الحالة مناخاً مناسباً ومحفزاً للاختيار، إذ أنه المكان والزمان والمناسبة التي يسمح المجتمع فيها بتلصص النظرات وتبادل العبارات ومتابعة الحركات والتصرفات من خلال الأمهات، وأيضاً الشباب والشابات. والزواج في ذات الوقت يعبر عن نجاح المجتمع في توجيه أفراده إلى الاتجاه الصحيح من العلاقات، وعدم الخروج عن النص الأخلاقي المتفق عليه، وهو الأمر الذي يدعو الجماعة إلى صيغة احتفالية يسعد المحتفلون من خلالها بنجاحهم في التوجيه نحو الشرعية. كل تلك الأهداف التي تدعو إلى حكمة الاحتفال بالعروسين تنطلق كذلك من الرغبة في الإعلان عن علاقتهما الجديدة، وإدماجهما في الحياة الأسرية التي يسيران نحوها، بما يجعلهما يقبلان عليها في حالة من الاستمتاع والبهجة والقبول. والكتاب بالتوجه العلمي الرصين يؤكد على احتياج المكتبة الفولكلورية لهذا النوع من الدراسات التي تبحث عن الأدوار المختلفة التي تلعبها الظروف المحيطة بالبشر، وهو الأمر الذي يدعو لفهم الكيفية التي تصاغ بها العناصر الثقافية عند المجتمعات الإنسانية، ولعل الفولكلوريين جميعاً يتفقون فيما بينهم على أن هذا التوجه العلمي هو أحد المقاصد الهامة عندما يتناولون موضوعاتهم البحثية ليكشفوا من خلالها عن المكون العقلي والوجداني لأية جماعة إذ إن المقصد الأول البشر الذين يلجأون إلى تيسير أمور حياتهم وتسييرها، من خلال عناصر ثقافية يختارونها بإرادتهم الواعية للدور الذي سوف يلعبه هذا الاختيار في مجريات حياتهم، وأنه يتم بناء على الاحتياج من واقع اتفاق ضمني بين أفراد الجماعة على الجدوى والنفع الذي يعود على الجماعة بأثرها من خلال الاختبار الموفق، الذي يخضع للتجريب عبر السنين، فتتكوّن بذلك خبرة التمسك والحذف والإحلال والتغيير، وفقاً لطبيعة الوظيفة التي يؤديها الفعل الثقافي في حياة الناس. والكتاب يؤكد التداخل القائم بين الموضوعات الفولكلورية، فعلى الرغم من القضية البحثية له تتجه إلى العادات الشعبية في احتفال النوبيين بعرسهم، إلا أن ذلك لا يمكن أن يتحقق دون تناول الإبداعات المصاحبة لهذا الاحتفال سواء القولية منها أو الحركية، أو العناصر التشكيلية المتعلقة بالأزياء والحلي والإكسسوارات، إنها طبيعة الموضوعات الشعبية التي تتداخل مع بعضها البعض بحيث يصعب الفصل فيما بينها، لأنها تكشف في مجملها عن فهم فحوى الاحتفال ومنطقه ووظيفته وغايته والمبررات التي تدعو إلى الاستمساك ببعض عناصره عبر الأجبال المتعاقبة. لاشك أن هذا الكتاب قراءة صحيحة، وتأمل موضوعي، ورؤية مدققة لبعض عادات النوبيين الشعبية من خلال استعراض ملامح الاحتفال بالزواج ومراحله. الجدير بالذكر أن كتاب " عادات الزواج في بلاد النوبة " لمؤلفه مصطفى محمد عبد القادر صدر ضمن سلسلة الدراسات الشعبية التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة ويقع في نحو 195 صفحة من القطع المتوسط .