من قلب الموت والدمار والفقد، تأتي تجربة "حدائق الأمل".. هذه التجربة التي تضم بين دفتي كُتيب صغير، نصوصاً لأطفال، ويافعين من غزة.. أما الرسوم، فهي لأطفال من الإمارات العربية المتحدة. ومع اختلاف الحياة، والمكان، والثقافة، تظل لغة الطفولة هي اللغة المشتركة بين كل أطفال العالم. في اللمحة القصيرة التي وضعتها جهان حلو، رئيسة المجلس العالمي لكتب اليافعين (فرع فلسطين)، تحدثت عن تجربتها مع كتابات الأطفال بالقول: "جاءتنا كتابات أطفال وفتيان غزة. فاجأتنا الكتابات العفوية بمزجها مشاعر المعاناة والألم، مع روح المقاومة المتحدية للموت والناشدة للحياة في إبداع ورهافة.. تداولنا هذه الكتابات مع الأصدقاء والمعارف عبر البريد الإلكتروني، كان بعض هذه الكتابات مليئاً بالفكاهة الممزوجة بالمرارة، والألم، والخيال الجريء، كما هي الحال مع قصة "حوار في المشرحة". تبدو قصة "حوار في المشرحة"، التي استوقفتني كثيراً، قصة تحمل خصوصية بين نصوص "حدائق الأمل" لتضمنها نوعا من الفانتازيا العبثية الواعية.. يبدأ الحوار في المشرحة بين (لما وهيا) وهما شقيقتان فلسطينيتان صغيرتان، استشهدتا تحت القصف الإسرائيلي علي غزة، ويستعرض الحوار في أسلوب عذب وساخر واقع حياة البنتين، وأمنياتهما، ومواقفهما السياسية، لنقرأ جزءًا من القصة: لما: الجو بارد هنا، لماذا القبر بارد ويلمع كالمعدن؟ هيا: هذا ليس قبراً، هذه مشرحة، كما كنا نشاهد في التلفاز. لما: هل تظنين أن رفاق الصف يروننا؟ هيا: طبعاً، نحن شهيدتان الآن. لما: هل من الممكن أن أكون شهيدة الآن؟.. أنا صغيرة السن، أريد أن أصبح طبيبة عندما أكبر، لا أريد أن أموت الآن. هيا: اخلدي إلي النوم الآن، غداً نحن ذاهبتان إلي الله، علينا أن نستيقظ باكرا. لما: في أي وقت سنذهب غداً إلي فوق؟ هيا: لست أدري، هناك الكثير من الشهداء اليوم، سيكون هناك ازدحام غداً. لما: غدا سأبحث عن قائد حماس الشيخ ياسين، وألقي عليه التحية. هيا: وأنا سأجد الشهيد ياسر عرفات. يستمر الحوار بين (لما وهيا) علي هذه الطريقة المتصاعدة من الأسئلة المحيرة المليئة بالسخرية الموجعة، التي تنمو في ذهن الطفلتين بتلقائية شديدة، نتيجة حياة الحروب المتتالية التي عرفتاها خلال حياتهما القصيرة، إذ تكاد ذاكرتهما تكون مملؤة بأفكار الحرب، والاستشهاد، وصور القادة الفلسطينين الراحلين.. هذه القصة لم يتم معرفة اسم الكاتب أو الكاتبة، وكم عمره أو عمرها، ظلت قصة مدهشة لا تحمل توقيعاً، بقدر ما تحمل واقعا طفولياً صادماً. من القصص اللافتة أيضا قصة أنس أبو حمزة، والتي تحمل عنوان "الجندي يحارب طفلاً".. إنها قصة صغيرة لا تتجاوز عشرة أسطر، لكنها محملة بصور وخيالات عن الجندي الذي معه صواريخ وقنابل وطائرات تسي تسي، ونووي أيضاً، وعن الطفل الذي معه كرة وقمر.. وعبر حوار صغير بين الطفل وأمه التي تحذره من عدم الخروج من البيت، لأن الجندي سيؤذيه نري الطفل يلوح للقمر، ويغني له: لا تخف يا صديقي، إنني أتنفس وألعب الكرة في البيت. أما الرسوم التي رافقت القصص، فقد جاءت منسجمة جدا مع النصوص؛ إذ غلب عليها اللون الأزرق، والأخضر، مع خطوط بيضاء صفراء، وسماوية للسماء والعصافير والأزهار، للقطط والدجاج والأسماك في النهر. لكن تظل لوحة ماريا رباني (14 سنة)، من أكثر اللوحات تميزاً علي الرغم من بساطتها، فاللوحة عبارة عن شجرة تتمدد علي مساحة الصفحة بشكل مائل، بغصون سوداء وأزهار من اللون الأحمر الناري.. هناك أيضاً لوحة الطفلة (دنا البابطين، 10 أعوام)، تتضمن اللوحة وجه إمرأة كبير يشغل وسط الصفحة، المرأة تغمض عينيها، ومن حولها تتحرك كائنات أخري عصافير صفراء، غنمة تمتطيها فتاة صغيرة، قلب أحمر يسبح في الفضاء، وعشب أخضر كما لو أنه يغفو بسكون في أحلام سيدة اللوحة. إن الحديث عن مثل هذه التجربة مهم جدا ليس بالنسبة للصغار فقط، بل إنه بوابة رئيسية بالنسبة لاكتشاف العالم الذي يخزنه في داخلهم هؤلاء الأطفال الذين وعوا علي الحرب، والدمار.. من المهم جدا معرفة أمنياتهم وأحلامهم، التي تبدو مشتركة في جميع القصص.. إنهم يحلمون بالأمان، بيوم لا يستيقظون فيه علي الخوف من الحرب والخراب.