الغناء أكثر الأشكال الفنية قدرة على التأثير في أفكار الناس وعلى صياغة وجدانهم وأكثرها التصاقًا بهم. وتعبر الأغنية عن قيم المجتمع ومبادئه وأخلاقه، وعن حياة الإنسان منذ ميلاده حتى وفاته. وفي هذا الصدد يصدر عن مكتبة الأسرة بالقارة كتاب "الأغاني الحلوة والأغاني المرة.. أساليب التلحين العربي "للموسيقار محمد قابيل الذي أصدر عددًا من الأعمال التي توثق وتؤرخ للأغنية المصرية منها: مستقبل الأغنية المصرية، نغم خالد فرسان اللحن الجميل الموجي وبليغ والطويل". بالإضافة إلى موسوعيته الشهيرتين: "الغناء في مصر، والغناء المصري في القرن العشرين". يأتي هذا الكتاب في وقت تواجه فيه هويتنا الفنية خطرًا، حيث الكليبات المبهرة سابقة التجهيز، من هنا تجيء أهمية هذا السفر الفني الذي يؤرخ لأغانينا ويصنف لموسيقانا، حيث قسم المؤلف هذه الموسيقى إلى خمسة أساليب رئيسة هي: الكلاسيكي، والرومانسي، والتعبيري، والتأثيري، والزخرفي، مؤكدًا أن كل أسلوب هو ابن عصره وظروفه، ولكل مستمع ذوقه واللون الذي يسعده ويؤثر فيه. وفي البداية، يتناول المؤلف الأسلوب الكلاسيكي.. أغاني النفس الطويل، فيقول: الموال من كلاسيكي، ومن ناحية الكلمات فهو زجل يعتمد على ألوان البديع كالاستعارة والطباق والتورية، ومنه ما يعرف بالمربع الذي يتألف من أربع شطرات ومنه المخمس من خمس شطرات، ويسمى أحيانًا "الأعرج" أما الموال المرصع "فيتألف من ستة شطرات، ويتكون الموال النعماني" من سبعة شطرات أما من ناحية اللحن والاستعراض فهو استعراض لما يلم به الملحن من مقامات، وتظهر في الانتقالات اللحنية في الموال. ومن التقاليد في الغناء العربي أن يبدأ المطرب غناءه بموال، ويوجد في تراثنا الغنائي عدد كبير من المواويل تم تسجيلها مستقلة غير مرتبطة بقوالب غنائية أخرى.. منها سبعة عشر موالًا سجلها محمد عبد الوهاب على أسطوانات مثل: "أشكى لمين الهوى"، "اللي انكتب على الجبين" وغيرها، وأكثر الأنواع شيوعًا، وهو الأعرج وهذا نموذج له: أهل السماح الملاح دول فين أراضيهم أشكي لهم ناس لم يعرف أراضيهم وكم حفظت الود ونسيت مواضيهم إن غبت عنهم بنار البعد انكوى ويقف الموسيقار محمد قابيل أمام الأسلوب الرومانسي قائلًا: يبين التفسير الاجتماعي للغناء العربي، ارتباطه بالحالة الاقتصادية للمجتمع، فارتفع مع ارتفاعها وهبط مع هبوطها، كما ارتبطت أغنيات فترة الحرب العالمية الأولى بالعمد وأهل بورصة القطن، الذين نزلوا مصر ليبعثروا الأوراق الحمراء أي الجنيهات العشرة في الملاهي، وظهرت الطبقة المتوسطة والمثقفة التي حملت قدرًا كبيرًا من الرومانسية، وتغيرت الإشاراة إلى المرأة وأصبحت الأغاني تخاطبها في صيغة المذكر لا المؤنث، فيظهر مع هذا الفكر الغنائي الرومانسي ملحنون من نفس الطبقة المثقفة عبروا عن الكلمات برومانسية أيضًا، وتركوا لنا ثروة من الغناء الرصيد الراقي، من الأغنيات الرومانسية التي لحنها زكريا أحمد "1896 – 1961" من تأليف بيرم التونسي "1893 – 1961"، وغنتها أم كلثوم "أنا وأنت"، "كل الأحبة اثنين اثنين"، أما الأغاني الرومانسية التي غناها محمد عبد الوهاب فهي كثيرة منها ما كتبه حسين السيد "1916 – 1983"، وهي "أجري أجري"، "أحبك وأنت فاكرني"، ومن تأليف أحمد رامي غنى محمد عبد الوهاب من ألحانه" أحب عيشة الحرية"، أما الأغاني الرومانسية التي لحناها وغناها فريد الأطرش "1910 – 1974" فهي كثيرة ما كتبه يوسف بدروس "1908 – 1987" مثل " أبكى يا عين"، وبعد ما سبق ذكره، خلص المؤلف إلى أن الرومانسية تتميز بالثورة على كافة الأصول والقيود خاصة الكلاسيكية، كما تعتبر حالة نفسية خاصة وتعبيراً عن تلك الحالة، ولذلك لا يوصف بالرومانسية الفنون الصادرة عنها فقط بل يوصف بها أيضًا أي شخص إذا تميزت نفسه بلون خاص من جموح الخيال، وسرعة الانفعال وشدته، والميل إلى التمرد والشكوى والتشاؤم، سواء كان هذا الشخص فنانًا أو مبدعًا أم لم يكن، فيقال رجل رومانسي كما يقال فن رومانسي، بينما لا يوصف بالكلاسيكية إلا أدب أو فن خاص، فالرومانسية حالة نفسية أكثر منها أسلوبًا أو مذهبًا فنيًا أو أدبيًا. ويصل المؤلف إلى الأسلوب التعبيري، قائلًا: بدأت الحركة المسرحية في مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأنشأ الخديوي إسماعيل دار الأوبرا ثم افتتحها عام 1869 بعد أن أنشأ الفرنسيون "الكوميدي فرانسيز"، وهو مسرح فرنسي هزلي، مما شجع الفرق الفنية لزيارة مصر. وجاءت فرقة سليم خليل إلى مصر من الشام، وبعدها توالت الفرق القادمة من سوريا ولبنان منها فرق يوسف الخياط، وخليل القباني؛ مما أدى إلى ازدهار فن المسرح. واهتم سلامة حجازي بهذا الفن، وقدم مسرحيات تتضمن قصائد ملحنة خصيصًا من المسرحيات التي قدمتها فرقة سلامة حجازي مصر الجديدة "قلب المرأة"، ولحن سيد درويش 28 مسرحية أشهرها "العشرة الطيبة"، "شهر زاد"، ولحن رياض السنباطي منيرة المهدية مسرحيتي "عروس الشرق"، " آدم وحواء"، واشتراك كامل الخلعي وداود حسني في تلحين مسرحية "سميراميس"، ويذكر المؤلف: الأسلوب التعبيري يعني في مجال الفنون التشكيلية، وهو الإفصاح بلغة الأشكال والألوان والأحجام والأضواء والظلال، عن قيمة فنية يحس بها الفنان، ويريد أن ينقل من خلالها مشاعره إلى الآخرين، أما الإفصاح بلغة تلقائية نظرية فهي وسيلة ساذجة وامتداد لما يرسمه الأطفال، وإن جاء ذلك بمهارات أكثر دقة، وهي أقرب إلى الفن الشعبي. والألحان التعبيرية والواقعية يقدمها ملحن يتمتع بدرجة كبيرة لفهم لغة الناس التي يلحن من أجلهم، ويدرك أنواع الجمل التي تتركب منها هذه اللغة، فالجملة الاستفهامية غير التقريرية والسخرية والتهكم تكسب الألحان التعبير الصادق الشعبي، والتعبير عن المعاني في اللغة هي هدف الملحن في الأسلوب التعبيري، أما جماليات الغناء فلا يجب أن يعلو صوتها على صوت المعاني المراد توصيلها، ويكفي منها القدر الذي يضمن للتأليف الفني أن يكون ضمن ألوان الغناء، وليس مجرد خطابه أو إلقاء تمثيلي. وفي الفصل الرابع يطرح المؤلف رابع أساليب الغناء العربي، وهو الأسلوب التأثيري قائلًا: ظهر الأسلوب التأثيري عام 1880م عندما كان الأسلوب الرومانسي هو السائد في تأليف الموسيقى العالمية، ليصبح أكبر قوة مناهضة لأسلوب الواقعية التي ينفي عنه بعض النقاد صفة الأسلوب، ويعتبرونه أسلوب حياة لا للتعبير الفني، كان تأثيره في مجالات الشعر والتصوير والموسيقى، والتأثيرية بطبيعتها مناهضة الكلاسيكية، فهي تتهم بما هو زمني ووقتي وبما هو وليد للخطة العابرة، وهو لذلك يعني بالحركة أكثر مما يعني بالاستقرار. وتتجلى التأثيرية في التضحية بالموضوع من أجل الشكل، وفي مجال الإبداع الموسيقي، سايرت التصوير فتخلت عن الميلودية والبناء التقليدي والنسيج البوليفوني والتسلسل المنطقي للتآلفات الهارمونية تبعاً للسياق الهارموني العضوي، وكانت على النقيض بحاجة إلى التآلفات الحالمة ذات الألوان الموسيقية غير المنتمين بعضها إلى بعض، وبحاجة إلى النغمات ذات الظلال المفكرة، كما كانت تلتقي مع تصميمات راقصة ذات مضمون، وتعبير مشابه في الأسلوب. ويشير محمد قابيل إلى الأسلوب الزخرفي قائلًا: يعمد الأسلوب الزخرفي في الفنون التشكيلية للإبهار البصري، وفيه يطلق الفنان لريشته العنان في رسم خطوط وخلط ألوان يرى أنها تسهم في عمل تكوين فني مبهر للناظرين، ويعتمد في ذلك على ذوقه أولًا وعلى فهمه لعلاقة الألوان ببعضها، وأثر ذلك على النفس في كل بيئة. ويعتمد الغناء الفولكلوري على جمل لحنية قد يتكرر الكلام المصاحب بها، وتتباين اتجاهاته من الحزين إلى المرح إلى اللحن ثابت. والأغاني الاستعراضية والاسكتشات والتابلوهات المصورة يلعب الإيقاع فيها دورًا رئيساً، وقد يتساوى بصوت المغني، وكلها أغانٍ زخرفية تعتمد على ذوق وثقافة الملحن، وفي الغالب ما يكون لحنه في خدمة الرقص. وأخيرًا فإن أغاني العبث التي يخرج منها الغناء عن طبيعته كفن يؤثر في الواحد إلى فن ذات تأثيرًا سلبيًا في السلوك الاجتماعي والنفسي هي زخارف غنائية من لون خاص.