فمع استمرار المعارِك وتواصُل المُواجهات بين الجانبيْن وتزايد حُشود العسكرية والدّفع بالقوات البرية والبحرية والجوية في البلدين إلى ساحة المعركة، أخذت الأمور تتّجه نحو المزيد من التّعقيد والتّشابك، إلى الحدّ التي باتت تُلقي بمزيد من الغُموض حوْل خلفِيات الحرب ومآلاتها. فعلى الرغم من أن الحوثيين أعلنوا على لِسان قائِدهم الميداني عبد الملك الحوثي غَداة دخول الجيش السعودي المعركة، بأنهم نفّذوا عملية ضدّ مواقع سعودية في جبل الدخان "بقصد وضع حدٍّ للتّسهيلات العسكرية التي تُقدِّمها الرياض لجيش صنعاء"، حسب ما قاله قائد المتمرِّدين، ومنه جرّت الرياض كطرف مُباشر في المواجهات مع الحوثيين، بعد أن كانت تتّهم من قِبلهم بالدّعم غير المباشرة للحكومة اليمنية في حربها، ومن ثَمّ تعالَت الإتِّهامات لها من قِبل المتمرِّدين ومرجِعيات دِينية إيرانية ب "الإبادة الجماعية للشِّيعة لصالح المشروع الوهّابي وانتهاكها للسيادة اليمنية"، الأمر الذي كشف شيئا فشيئا أن المواجهات في منطقة صعدة النائية، ليس إلا رجع صدى لحالة الحرب الباردة بين القُطبيْن الإقليمييْن المُتنافسيْن في منطقة إيران، والسعودية مثلها مثل الحروب والتوتُّرات الدائرة على مناطِق النفوذ بين مشروعيْن متنافريْن، تحضر فيها المُعطيات الداخلية والخارجية بقوّة، ما يزيد من تعقيدات هذه الحرب ويوسِّع أهدافها. وفي معرض قراءته لهذا التطور وتعقيداته المحلية والإقليمية، قال الدكتور عبدالإله الكبسي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة تعِز ل swissinfo.ch: "دفعت السعودية في الحرب السادسة مع الحوثيين بقوّاتها البرية والبحرية والجوية، تحت خطاب تبريري هو حماية أراضيها والدِّفاع عن سيادتها والمُعلن صراحة بعدم السَّماح لظهور جماعة مسلّحة، توصف بأنها امتداد للمشروع الإيراني، وكل ذلك امتداد لتجاذُب حرب إعلامية بين إيران والسعودية بدأت مبكّرة، وكليْهما أظهرا خطابا متحيِّزا تجاه طرفَيْ الحرب". الأمر الآخر الذي يؤكِّد خلفِيات الصِّراع، حسب ما يقوله الكبسي هو أن "الشِّعار الذي رفعه الحوثيون، (الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل)، يأتي في سِياق تصادُم مشروعيْن: الأول، يمثِّله مِحور إيران وحُفاؤها المعادي لأمريكا وإسرائيل. والثاني، مِحور الدول المُتعاونة مع أمريكا في حربِها ضدّ الإرهاب، والذي تقوده المملكة العربية السعودية، وهذا هو السِّياق العام الذي توسّعت فيه الحرب بدخول السعودية كطرف، وهي تحمِل في طيَّاتها دلالات وإشارات بالِغة الوضوح، يوردها أستاذ العلوم السياسية على النحو التالي: نُقلت الحرب من حرب أهلية إلى إقليمية، وربّما دولية، الإشارة الثانية، من المُحتمل أن يكون توسُّع الحرب مع الحوثيين بدخول السعودية، مقدِّمة لضرب إيران بسبب ملفِّها النووي، إذ يبرر تجييش الحكومات لشعوبها ضد الخطر الإيراني والتّهويل من قوة الحوثيين وعلاقاتهم بإيران، وهي علاقة لم تتأكّد بعدُ وتحيط بها مزاعِم غير موثوقة. الإشارة الثالثة هي: أن الرئيس صالح استفاد من الحرب، لتعزيز شرعيته، إذ درج على تبرير الحرب بالحديث حول يمَن ثوري وجمهوري تُجاه محاولة إعادة الملكية، مثلما استفاد من حرب 1994 ضدّ الانفِصال التي ظهر فيها كرمْز للوِحدة، وكذلك يتعامَل مع "الحِراك الجنوبي"، وهذا يُعتبر بناء لخطاب شرعية الرئيس لجهة الاستفادة من الحرب، لكن مع دخول السعودية كطرف فيها، ليس له من معنى سِوى انتهاك وانتِقاص لمفهوم السيادة اليمَنية، الأمر الذي يقود إلى نتيجة عكسية، وهي إضعاف حجّة خطاب الحرب ضدّ الحوثيين، التي درج الطرح الرّسمي على طرحها باعتِبارها حربا من أجل الثورة والجمهورية وضد محاولة إعادة النظام الملكي، وهذا الوضع، حسب الكبسي، "ستكون له تأثيرات سلبية". محاولة مدروسة وواعية ويلتقي هذا الرأي مع الآراء التي اعتبَرت أن جرّ السعودية إلى المُواجهات مع الحوثيين، هي مُحاولة مدروسة وواعِية من قِبل هؤلاء الأخيرين، الغاية منها إضعاف حُجج ومنطِق الطّرح الرسمي، وقد بدا ذلك واضحا مع تزايُد الإنتِقادات الموجّهة للحكومة اليمنية، سواء من خلال الكِتابات الصحفية أو من خلال الموقِف الرسمي للمعارضة اليمنية، التي اعتبرت في بيان صادر عن تكتُّل المعارضة الذي يُرمز إليه ب "أحزاب اللقاء المشترك" على إثر هذا التطوّر، بأنه "انتِقاص من السيادة الوطنية والتفريط فيها". في المقابل، ثمّة مَن يرى أن رمْي السعودية بثِقلها مُباشرة في المعركة، لا يُعبِّر سوى عن مخاوِف شديدة من "حَوْثنة" المناطق الشيعية فيها، التي بدأت تتململ تحت تأثير الموجة الشيعية المتحفِّزة في المنطقة بقوة منذ ظهور إيران كلاعِب رئيسي وراعٍ لراية الخلاص الشيعي للمُسلمين، كما تقرره وتُبشِّر به مرجعياتهم المذهبية، مقابل الخلاص الوهّابي الذي يتأسّس على مرجعيات مُغايرة ويحظى برعاية السعودية. وقد بدت هذه الثنائية مُهيْمنة على المنطقة، خاصة بعد انهيار عِراق صدّام حسين وانتِعاش الحِراك الشيعي في المِنطقة بشكل غير مسبوق، باتت تَخشاه كلّ البلدان الإسلامية، التي توجد فيها أقليات شيعية، ولهذا ينظر إلى الردّ العسكري السعودي المبالَغ فيه، ضِمن هذا السياق المشحُون بمُنطلقات الماضي وبمُعطيات الحاضر، وأنه يحمل رسائل واضحة. ويرى العديد من المراقبين أن الرياض أرادت أن تُوجّه من خلال الرد السعودي (الموصوف بالمبالغ فيه) رسائل قوية إلى أكثر من طرف، وهي - حسب عايش عواس، الباحث في مركز سَبأ للدراسات الإستراتيجية - كالتالي: الرسالة الأولى والأهَم الموجهة لإيران، ومفادها أن السعودية لديها القُدرة والإمكانات لحماية تُرابها الوطني من تأثيرات الملالي، وأنها واعِية بنوايا إيران ومتيقِّظة لمُواجهة مخطّطاتها الرامية إلى إشعال الحريق داخل المملكة بمشاكل وقلاقل تشغلها عن مُنافستها الإقليمية على مناطق النفوذ، حتى تتمكّن إيران من التفرّغ لتعزيز نفوذها في المنطقة، وبالأخص في كلٍّ من العراق ولبنان وفلسطين. وقد بدا ذلك الهدف على ما يبدو للسعوديين منذ وقت مبكّر، عندما اكتشفوا قبل شهريْن أن عناصر الحوثيين تسلّلوا إلى أراضيهم وعثروا على كميات كبيرة من الأسلحة تَم تخزينها من قِبل تلك العناصر في المناطق المُحاذية للحدود اليمنية، الأمر الذي أكّد لها أن هناك نوايا مبيتة لاستقطاب شيعة المملكة، القاطنين في المنطقة الجنوبية والشرقية، وتوظيفهم ضِمن المشروع الإيراني واستخدامِهم لخَلق حالة من الاضطراب داخل السعودية، ممّا يقلِّل من اهتماماتها الإقليمية وتركِّز جهودها بدرجة رئيسية على شؤونها الداخلية المضطربة. الرسالة الثانية، حسب ما يعتقِده عواس، موجّهة إلى بعض القِوى القبلية اليمنية، ولاسيما تلك التي أظهرت انحيازها إلى حركة الحوثيين، ليس عن اقتِناع بأفكار ومبادئ هذه الجماعة، وإنما نِكاية في السعودية والحكومة اليمنية. قبائل وزعماء ومخصصات وولاءات.. فكما هو معروف، كانت السعودية تعتمِد في حماية وتأمين حدودها الجنوبية فيما مضى من الوقت، على كسْب ولاء زعماء القبائل في المُحافظات اليمنية، مقابل مخصّصات شهرية، بيد أن ظهور حركة الحوثي وانخراط بعض القبائل في صفوف الحركة، دفع المملكة إلى إيقاف تلك المخصّصات الشهرية، ما أثار غَضب القبائل وزاد من حماسها للقتال في صفوف المتمرِّدين، وربما اندفعوا إلى الأراضي السعودية، كي تضطرّ هذه الأخيرة إلى كسْب ولائهم وشراء مواقِفهم، وهو ما لا يُعدّ ممكنا في الوقت الحاضر لسببيْن، مثلما يشرح الباحث عواس. الأول، هو أن ولاء هذه القبائل وزُعمائها، أصبح مشكوكا فيه. والسبب الآخر، صرْف تلك المخصّصات يُساهم في إضعاف سيْطرة الحكومة المركزية اليمنية على تلك المناطق وتحوّلها إلى بُؤر لإنتاج التطرّف، سواء بوجهة الحوثي أو القاعدة، وخلق بيئة مُواتية للتنظيمات والحركات المُعادية للسعودية واليمن على حدٍّ سواء. وخلاصة الرسالة المُراد توجيهها إلى القبائل، هو أن لديْها القَدرة والقوّة العسكرية، دون حاجة لمساعدة الآخرين أو الرّضوخ لابتِزازاتهم. على الصعيد ذاته، ثمّة مَن يرى أن الردّ العسكري السعودي القوي، يرمي أيضا إلى توجيه رسالة واضحة إلى تنظيم القاعدة، الذي نقَل قيادته إلى المناطق اليمنية المُتاخمة للحدود السعودية، خاصة بعد تضييق الخِناق عليه في المملكة، ثم تشكيل قيادة جديدة موحّدة لِما يسمّى "قاعدة الجهاد في جزيرة العرب"، وإعلانه مواصلة الجِهاد ضدّ مَن تُسمِّيهم بأذناب أمريكا. علاوة على ذلك، أصبحت هذه المناطق في السنوات الأخيرة، مراكز رئيسية لتجارة وتهريب المخدرات والأسلحة من قِبل عصابات دولية منظِّمة وتنظيمات إرهابية، وِفقا لِما كشفت عنه محاضر الضبط لدى الأجهزة الأمنية في البلديْن، وتأكّد ذلك جلِيا بإعدام ضابط التحريات والبحث الجنائي في محافظة مأرب المقدم بسام طربوش، من قِبل تنظيم القاعدة الذي كان قد أفشل تهريب أطنان من المخدِّرات ورُقِّي على إثر ذلك إلى رُتبة مقدّم ثمّ اختفى في يونيو 2009، إلى أن بُثّ شريط إعدامه الأربعاء الماضي 18 نوفمبر على شبكة صدى الملاحم الإعلامية، التابعة لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب. ظلال ساخنة لحرب باردة وإذا كان الحوثيون قد بادروا إلى استدراج السعوديين إلى حربهم الدائرة مع القوات الحكومية اليمنية، بُغية التحوّل بحربهم مع صنعاء إلى حرب إقليمية بعد تزايُد الضغط العسكري عليهم، وعلى أمل البحث عن مَخرَج دبلوماسي للمشكلة، إلا أنهم على ما يبدو، لم يفطِنوا إلى أن السعودية ذاتها لها أيضا حساباتها الخاصة المتعلِّقة بملف أمني أوسع وأشمل، يضمُّ قضايا مكافحة الإرهاب وتجارة المخدِّرات وتهريب الأسلحة، فضلا عما بات يُوصف بتوفير مَلاذ آمن للمطلوبين والمُطاردين أمنيا من قِبل سلطات البلديْن، وهو ملاذ تُساهم عدّة عوامل في توفيره، أبرزها التركِيبة الجغرافية الصحراوية والجبلية الوعْرة، إلى جانب التركيبة الاجتماعية القبَلية شديدة الانغِلاق على نفسها، والتي تتّهم دائما بتأمين الحِماية للمطلوبين أمنيا، سواء من المُشتبه بانتِمائهم لتنظيم القاعدة أو من الضّالعين في عمليات إرهابية والمهرّبين والمجرمين، ثم غِياب أو ضعف حضور الدولة اليمنية في تلك المناطق النائية والمهمّشة. وبالنظر ملِيا في مُجمل قضايا الملف الأمني، يخلِّص المراقب إلى أنها قضايا من طبيعة معقّدة ومركّبة، تتعدّى التراب الوطني لكل دولة، بل وتكيّف من وِجهة نظر المجتمع والقانون الدولييْن، بأنها جرائم عابِرة للحدود لا يمكن أن تتصدّى لها دولة بمُفردها، وإنما تقتضي التّنسيق بين مُختلف الفاعلين الوطنيين والإقليميين والدوليين، ما يقلِّل من أهمية اتِّهام الحكومة اليمنية بالتّفريط بالسيادة الوطنية، لأن دخول السعودية الحرب ضدّ الحوثيين، لم يأت مِن طرف واحد، وإنما بتنسيق بين الجانبيْن وربّما بتوافق، إن لم يكن بضغط دولي يرمي إلى مُحاصرة بُؤر التطرّف والإرهاب والحدِّ من الجريمة المنظمة والعمل على منْع القاعدة من تحويل مركز علمياتها إلى اليمن، بعد أن رصدت العديد من التقارير الإستخبارية الدولية بشأن تقييم مكافحة الإرهاب، تخطيط القاعدة لنقل مركز عملياتها إلى مربّع المحافظات اليمنية النائية: صعدة والجوف وشبوة ومأرب، القريبة والمُتاخمة للحدود السعودية. إجمالا، يمكن القول أن توسّع الحرب ضدّ الظاهرة الحوثية بدخول السعودية إلى جانب اليمن، ليست إلا ظلالا ساخِنة للحرب الباردة بين تصادُم المشروعيْن، السعودي والإيراني، اللذين هيمنا على المنطقة في السنوات الأخيرة.