أصدر الكاتب اللبناني جبور دويهي صاحب رواية " مطر حزيران" رواية جديدة عن دار الساقي بعنوان "شريد المنازل" وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر، وفي هذا العمل الروائي الشيق يقف قارئ الدويهي على منحى جديد في كتابته وإن لم يكن مغايرا لرواياته السابقة، لكن الدويهي في " شريد المنازل" ينحو أكثر نحو الآلام الإنسانية، حيث تتالى الأحداث ليرصدها بعمق يكشف مأساوية الأحداث ودراميتها المحزنة، وكأنه ويريد من خلالها الانتصار لقيم العدالة والإنسانية، مقابل حالات من الإغتراب والمعاناة مع الماضي والحاضر. وعبر حضور الحرب اللبنانية على مدار الرواية يسرد الكاتب ازمات أبطاله مع الحروب وما تخلفها من دمار. وحول مفهومه لحضور الحرب في النص يقول جبور الدويهي عن الرواية : " «شريد المنازل» رواية تخرج من اكتمال معنى الحرب الأهلية بما تفضي له من فراغ كما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: «الحرب أولها دماء والحرب آخرها هواء». عندما لمست ولمسنا واللبنانيون جميعاً أدركوا ما فعلوا، اكتمل المعنى وصارت امرا ممكناً رواية هذه المرحلة التي تغطيها رواية «شريد المنازل»، أي من بداية السبعينيات وصولاً إلى 1976 وقد لخص المؤلف ذاته إشكالية الشخصية الأساسية بقوله واصفا البطل:"عندما أخبرهم نظام عن عائلتيه ودينه وانتمائه: مطّوا شفاههم محتارين به وأمضوا السهرة بطولها يتداولون بسيرته ومعانيها. صار لعبتهم لأيام، أخبروا قصته لأصحاب لهم، فاعتبره البعض ثمرة النظام الطائفي والبعض الآخر نموذجاً لما يمكن ان يكون عليه المواطن اللبناني في مرحلة أولى تقوم على تجاوز الاديان والعصبيات من دون انكار وجودها." يركز الدويهي في كتابته على الوصف الدقيق بحيث تكاد تكون المشاهد مرئية بدقة مما يمنح سرده نوعا من الجمال الخاص, لنقرأ كيف يصف أحد أبطاله قائلا : "يتأمل شجرة الجوز العنبيّة والشمس تخترقها فتجعل اوراقها الخضراء شفافة غارقة في غبار الضوء الدقيق الذي يمد حبلا طويلة من نور في ارجاء البستان" البطل في الرواية هو " نظام" وقد غادر من بلدته إلى بيروت, هو الشريد، الذي انجذب باكراً وهو في سن الطفولة لبستان جيرانه السحري الذي يُذكر بحكايات أليس في بلاد العجائب. انجذب بسبب المتعة التي كانت تتوافر له في حياة البستان اليومية، ولكن لسبب أعمق جعله يوجد لنفسه والِدَين رديفين, خاصة " رخيمة" المرأة البسيطة التي حرمتها الطبيعة نعمة الأمومة. فأم نظام تهتم بنفسها كثيراً فلا تظهر على أحد إلا وهي في أفضل حال، مرتّبة دائما لا يمكنه العبث بها، لا يقترب منها إلا لتصده قائلة:" أبعد يديك"، فهي لا تسمح لابنها " نظام" بأن يداعبها كما يفعل كل الأطفال مع أمهاتهم لأنها تخاف أن يتلوث ثوبها، أو مكياجها، أو طلاء أظافرها،أما رخيمة فهي امرأة مستسلمة، لا تبالي بالأناقة وتبعياتها، يخرّب ما يشاء، يجلس في حضنها ساعة بكاملها، يرسم على وجهها ويديها، يفتّل لها شعرها خصلاً ويمسح فمه المليء بالتوت بمريولها. هكذا تنشء علاقة وطيدة بين نظام وتوما ورخيمة هي علاقة خاصة حميمة بين أفراد اختاروا الانتماء إلى بعضهم البعض لأسباب خاصة. وترى د. منى فياض" أن جوهر الرواية يتمثل في دراما البطل الذي يذكرنا بقصة حي بن يقظان الفلسفية التي ترمز لعلاقة الانسان بالكون والدين عبر استقراء الحدس والعقل وليس التلقين؛ عبر حكمة الفطرة وليس جمود الترويض. إن مسار حياة البطل جعله يجد نفسه متعدد الانتماء الديني عن التعصب بسبب ظروف نشأته ووضعه الخاص وليس عن تفلسف مسبق أو تسييس. فالبطل وُلِدَ لأسرة مسلمة وانجذب من قبل أسرة مسيحية وجدت فيه صورة الطفل المثالي؛ بجماله اللافت وطبيعته الكريمة. وهذا ما يجعل منه بطلاً درامياً بامتياز بوضعيته الاستثنائية التي تلخص وضعية المواطنين اللبنانيين المدنيين، إذا أمكن القول، الذين يجدون أنفسهم في ورطة مشابهة عندما يرفضون الواقع المذهبي والانتماءات الميكانيكية والصراع الطائفي ويعلنون أن أولوية ولائهم للوطن ولجنسية الدولة التي ينتمون إليها" ويعبر الدويهي عن موقفه من حكاية بطله في " شريد المنازل " قائلا : آمل أن أكون قد استطعت أن أخبّر حكاية سهلة حمّلتها مشاعري بالأمكنة من القرية اللبنانية إلى ساحة الشهداء في بيروت، ومن بهجة التمتع بالحياة قبيل الحرب التي كانت متاحة في بيروت، وصولاً الى وحشة الأمكنة التي اجتاحها دمار لا تزال تفاصيله ظاهرة في بعض الصور أحياناً، تثير فيّ مشاعر خاصة بالعامين الأولين للحرب اللبنانية. نوع من الوحشة بأن الأمكنة والناس قد أصابتهم هزيمة لا رادّ لها.