في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، تعاقد المختبر الذي كنت أعمل به، في الإسكندرية، والتابع لأحد المعاهد البحثية القومية، مع أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، بالقاهرة، لتمويل مشروع بحثي يستهدف وضع خريطة تصنيفية للأحياء البحرية، في مياه البحر المتوسط المصرية؛ وكنت أحد الباحثين المشاركين بالمشروع، في مقابل خمسين جنيهاً، شهرياً، هي قيمة الجهد الذي كنت أبذله، ويتمثل في: جمع العينات والنماذج من موانئ الصيد وأسواق الأسماك، على طول الساحل المصري للبحر المتوسط، في رحلات شهرية، كنا نسميها (الترحيلة) للظروف الصعبة التي كنا نعمل فيها؛ ثم العمل بالمختبر لساعات طويلة، في تصنيف وتعريف العينات، وتصويرها، ورسمها - ويعرف البيولوجيون مدى صعوبة علم التصنيف - ثم نقوم بكتابة تقرير فني، كل ثلاثة أشهر، يتضمن ما قمنا بإنجازه من عمل علمي. وكان الباحث الرئيسي للمشروع يكلفني بعملٍ إضافي، هو توصيل قيمة (مخصصات) السيد الأستاذ الدكتور رئيس المعهد، بالقاهرة؛ فكنت أحمل مظروف المخصصات، وأسلمه لسيادته؛ ولم يكن يعنيني ما به، حتى انتابني الفضول، مرةً، فسألت أستاذي، الباحث الرئيسي، عن قيمة مخصصات رئيس المعهد، فقال: ألف جنيه!. فلما أبديت دهشتي واستنكاري الشديدين، وقلت: إنه لا يفعل شيئاً ليأخذ كل هذا المبلغ؛ أجابني: جرب أن تحدِث تخفيضا ولو طفيفا في المبلغ، وسترى العراقيل التي سيضعها في طريقنا، وقد ينهي تعاقدنا مع الأكاديمية، فله طرقه وأساليبه الخاصة، كما أن العلاقات هناك - فوق - عنكبوتية! ومضت الأعوام، واحتل الباحث الرئيسي لمشروع الثمانينيات مقعد رئيس المعهد بالقاهرة؛ واضطرتني الظروف، لمرة واحدة، أن أقوم بتسليمه (مخصصاته) عن أحد المشروعات العلمية القائمة بالمعهد؛ وبعد أن سلمته المظروف، ذكرني بموقفي الاحتجاجي القديم، وقال: لا أعتقد أن درجة الحماس عندك لا تزال كما كانت منذ ربع قرن؛ وكان محِقاً. ثم أخذ يحدثني بمودة، فقد كانت علاقتنا أكبر من مجرد علاقة رئيس بمرءوس؛ وقال لي، فيما قال، إن هذه المقاعد العالية مغرية جداً، وعندما تصل إليها تكون كمن امتلكت بقرةً حلوباً، تعرف أنك ستتركها لغيرك بعد حين، فيتعين عليك أن (تحلبها) حتى آخر قطرة في ضروعها!!. وأخبرني بأن بعض الزملاء (من الحاقدين، وهذه كلماته) أرسل شكاوى في حقه للأجهزة الرقابية، فخابت كل الشكاوى، لأن الإدارات المالية والرقابية للدولة - هكذا أخبرني - تفتح، بلا حدود، وبلا رقابة على الإطلاق، أفق الحصول على مخصصات لأعضاء هيئات التدريس و البحوث بالجامعات والمعاهد ومراكز البحث العلمي، فلا سقف يحد سعيهم ل (الاغتراف) من المال العام، تحت مسميات براقة متعددة، تلجم أي معترض، وتضفي على الاغتراف شرعية!. وقد ترتب على ذلك، أن أصبح رئيس المعهد لا يفرط، مهما كان الثمن، في اختصاصه كمنسق للمشروعات البحثية، محلية وأجنبية، التي ترِد للأقسام العلمية التابعة للمعهد أو المركز العلمي؛ ويقوم هو بتوزيعها على المقربين له، من الذين يضمن ولاءهم، ويثق في أنهم سيوافونه ب (الإيراد)، بصورة منتظمة، وفي سرية شديدة؛ وهكذا، تجد الأستاذ الدكتور رئيس المركز، وهو المتخصص في البيولوجي، مثلاً، مستشارا لمشروعات في تخصصات دقيقة من علوم الجيولوجيا والفيزيقا والكيمياء؛ ويستحق - في مقابل المستشارية - مخصصات تفوق - لعدة أضعاف - مكافآت من يقومون بالعمل من الباحثين والفنيين.. ولا أحد يستطيع مراجعته، فلا سقف لمخصصاته، حسب القانون!؛ فإذا حاول أحد أن يخرج عن حدود اللعبة، أو أن يراجعه في (المعلوم) الذي تم الاتفاق عليه عند إرساء "المقاولة"، أو المشروع البحثي، بدأت الألاعيب والمضايقات، التي تنتهي بالمشروع البحثى إلى التعثر في غياهب التعقيدات الإدارية، فيفشل. لقد حاولنا، برغم عدم توفر البيانات الدقيقة - وكعينة تكرارية - أن نرصد جانباً من المشروعات البحثية التي كان يشرف عليها، ويغنيها باستشاراته، رئيس مركزٍ للبحث العلمي؛ نذكر منها الآتي (المبالغ المبينة بأسعار بدايات التسعينيات؛ وقد أبلغنا بها بعض موظفي الإدارة المالية، وبعض الباحثين الرئيسيين لهذه المشروعات، بعد أن انتهت، وبعد أن فقد ذلك الرئيس موقعه!): 1 - مشروع لتقصي وإثبات حالة الشواطئ في البحر الأحمر، لصالح شركة بترول أمريكية: خمسة آلاف جنيه كل 3 أشهر. 2 - مشروع مرجعي لرصد التلوث بالزيت، من جنوبالغردقة، حتى السويس: خمسة آلاف جنيه، كل 3 أشهر. 3 - دراسة الوضع الحالي للأنظمة البيئية في الشعاب المرجانية بالبحر الأحمر: 4 آلاف جنيه، كل 3 أشهر. 4 - دراسات التنوع الأحيائي البحري في رأس محمد: خمسة آلاف جنيه، كل 3 أشهر. 5 - دراسات بيولوجية وكيميائية في بحيرة البردويل: 3 آلاف جنيه، كل 3 أشهر. 6 - مخصصات من مردود بيع إنتاج مزارع سمكية بمحطات ذلك المركز: خمسة آلاف جنيه، كل ستة أشهر. 7 - مخصصات من إيرادات متاحف تابعة للمركز: 3 آلاف جنيه، كل شهر. 8 - مشروع استزراع كائنات بحرية: خمسة آلاف جنيه، كل 3 أشهر. 9 - مشروع دراسة قناديل البحر في منطقة العريش: خمسة آلاف جنيه، كل 3 أشهر. 10 - مخصصات من وحدات ذات طابع خاص في أفرع المركز: خمسة آلاف جنيه، كل شهر. 11 - مشروع معالجة مياه الصرف الصحي للاستخدام في الاستزراع السمكي: خمسة آلاف جنيه، كل 3 أشهر. 12 - مشروع لدراسة عمليات النحر والترسيب في شواطئ البحر المتوسط: خمسة آلاف جنيه، كل 3 أشهر. أي حوالي ثلاثة وعشرين ألف جنيه، غير الراتب الحكومي الرسمي، شهرياً!. علماً بأن هذه المشروعات - التي لم نستطع تذكر غيرها - متغيرة، تنتهي ليبدأ غيرها، وقد يزيد عددها عن هذا الرصد كثيراً، خلال مدة الرئاسة التي تمتد لأربع سنوات، وربما يتم تجديدها. الجدير بالذكر، أن الرئيس قد يكون زوجاً، أو قريباً، لزميل أو زميلة، وهو وضع متميز، يعينه في التحايل لجمع قدر أكبر من الأموال، إذ - فجأةً - يكتشف الجميع أن الزوج أو القريب ذو قدرات خارقة، وأنه يؤدي للمركز البحثي خدمات جليلة، ويبذل جهوداً جبارة، يستحق عنها مكافآت وأجورا تقدر بالآلاف! وبالطبع، فإننا لا نتحدث ب(حقد)، ولا حسد، ونتمنى للجميع أن يتسع رزقهم؛ كما أننا (نفهم)، و(نقدر) الظروف التي أجبرت الدولة على الإذعان لمن يسميهم البعض (الأساتذة الحيتان)، وهم أولئك الذين يجمعون بين عملهم البحثي والتدريسي، وأنشطة أخرى، خاصة، مثل مكاتب الخبرة ومراكز الاستشارات المختلفة (قانونية - هندسية - اقتصادية.. إلخ)، والعيادات، التي تدر ثروات ضخمة.. وقد تمكنت سطوة هؤلاء، واعتبارات سياسية أخرى، من إرغام الدولة على الاعتراف بحقهم في جمع الثروات الهائلة من هذه الأنشطة المتعددة؛ فجاء القانون الذي يفسح لهم الطريق، ويزيل كل العقبات. كل ما نهدف إليه إبراز أن مبدأ فتح السقف أسهم في إفساد سياسات البحث العلمي في مراكزنا البحثية؛ إذ تفرغ رؤساء بعض المراكز البحثية، وهم ممن لا يملكون (منابع) ثروة غير وظائفهم الرسمية، ولا سبيل لهم إلى ذلك غير هذه الوظائف، أو السفر للعمل في دول غنية؛ فلما (غطاهم) القانون الذي أصْدِر من أجل الحيتان، سنحت لهم الفرصة كاملة، فتفرغوا - كما نقول - ل(جمع الغلة) أو لحلب البقرة، قبل أن يغادروا مقاعدهم؛ وبالوقت ذاته، خلقت هذه الملابسات مناخا فاسدا في هذه المراكز، استهلك كثيرا من جهود وطاقات الباحثين، في التنمر ببعضهم، والتحفز للانقضاض على ما يتشبث به زملاء استغلوا مواقعهم القيادية، وتحولوا إلى (نظار عزب)، أو (جباة)، تأتي مصلحة البحث العلمي في بنْدٍ متأخرٍ بقائمة أولوياتهم. ومن جهة أخرى، فإن تجاهل وتهميش (غير المخلصين) يصيبهم بالإحباط، وفيهم عناصر علمية متميزة، تخسر المؤسسة البحثية أداءهم العلمي، لأنهم لا يرضون لأنفسهم أن يتحولوا إلى مقاولين من الباطن، ولا إلى راشين، يشترون رضا الرئيس الإداري - وهو زميل علمي لهم، بالوقت ذاته - الذي لا هم له إلا جمع الأموال؛ ولا شيء يردعه، ولا أحد يراجعه، فالإشارة خضراء. ويهتم رئيس العمل، كما أشرنا، بأن يحيط مخصصاته بسياج من السرية والتكتم، فيدقق في اختيار أفراد الإدارات المالية، الذين يقومون بإعداد كشوف المخصصات، ولا يمكن لأحد، مهما كانت وظيفته، أن يطلع على أرقام أخرى، غير الرقم الذي يحصل عليه كمكافأة؛ ويوقع كل من العاملين في المشروع الواحد في ورقة، أو ( استمارة) منفصلة، ليس بها سوى اسمه والمبلغ المخصص له، حتى لا يتاح له أن يرى الأرقام المثبتة أمام الأسماء الأخرى.. تعتيم كامل، مع استغلال لحاجة صغار العاملين، من باحثين وفنيين، للمبالغ الضئيلة التي يتقاضونها مقابل جهودهم. من هنا، فإن أي دعوة للشفافية لا تجد أي صدى في مثل هذا المناخ العام المعتم، الذي ينمي شعورا عاما بعدم الرضا، ويفسد علاقات العمل، ويسيء إلى روح الانتماء للمؤسسة العلمية؛ ويجعل كل فرد من الباحثين فيها، مهما تواضعت قدراته الإدارية والعلمية، طامعا في كرسي الرئاسة، لا ليصلح الأحوال - طبعاً، فهو ذاته تجسيدٌ للعجز! - ولكن ليأخذ نصيبه من ضروع البقرة التي يجب حلبها حتى آخر قطرة؛ وفي سبيل هذا الهدف، لا مانع لديه من المشاركة في مؤامرات ودسائس تنال من الآخرين! إن الأمر لا يقتصر على مركز بحث علمي واحد، أو أكثر؛ فالحالة - مهما تعددت وتشكلت ألوان الفساد - عامة؛ وهي قد تأخذ صوراً أفدح، كما في الجامعات، حيث يخصص لرئيس الجامعة نسبٌ متفاوتةٌ من مدخولات المراكز الخدمية والوحدات ذات الطابع الخاص في الجامعة، وهي مراكز لا حصر لها، نشطة وغنية جداً، في كليات، مثل الهندسة والزراعة والطب والصيدلة، وغيرها. وما دام سقف المخصصات في ما لا نهاية، فلا حرج؛ بل هو حق مكتسب، مهما كانت النتائج! وذلك هو السر وراء أن الكثير من مراكز البحث العلمي لا تنتهي الصراعات بين العاملين فيها، فكلما ذهب رئيس، جاء آخر، ولا يكون خير خلف لسلفه! ذلك مثال لما يجري في أحد مراكز البحث العلمي في بلادنا؛ ونحن أميل للاعتقاد بأن الفساد، كظاهرة اجتماعية، له آلياته التي تخفي حجمه الحقيقي، ومنها خوف المرءوسين، وتعامي المستفيدين بالفتات، وسلبية العارفين به والراغبين في التماس راحة البال (جنب الحيط)؛ ونؤكد أن الفساد كجبل الجليد العائم، لا نرى غير خمْسِه، بينما أربعة أخماسه تعمل في الخفاء، تسمم بدن الوطن!