وجعلته يدور إلى الوراء، بعد أن كان يمثل لكثير من العرب بادرة أمل في طريق التقدم. ولا تحكي (المشهدُ الأخير) عن زمن حرب صريحة، ولكنها تصور مشهداً أخيراً في حياة استشهادي يفجِّرُ نفسَه في آلية عسكرية لجنود الاحتلال بأحد شوارع بغداد. أما القصة الأخيرة، فهي سيرة مليئة بالمرارة لشاب عراقي صغير، انتهكت رجولتُه وهو يُقتَادُ إلى حرب لا يعرفُ لها معنىً، فيصابُ بلوثة عقلية، ويُخلى من الميدان ليعيش في مستشفى للأمراض العقلية، معتقداً أنه نجح في التمارض والتظاهر بالخلل العقلي؛ وهو يحكي لنا التجربة من خلال رغبة في الإفضاء تمكنت منه. ولا تهتم سولاف هلال بالحرب في مجموعتها "إلى الوراء در" اهتماماً صريحاً مباشراً في غير هاتين القصتين من مجموع قصص الكتاب البالغ أربعا وعشرين قصة، غير أن ظلال الحرب تلوحُ من بعيد في ثلاث قصص أخرى، تحكي عن جوانب من التداعيات التي كابدها الإنسان العراقي جرّاء الحرب وإفرازاتها المرضية. في قصة (لصوص من نوع آخر)، يختطفُ اللصوص إنساناً ضائعاً لدرجة أنه يفتعل مشكلة ليتمكن من المبيت في سجن المخفر؛ وينتزع اللصوصُ كليتيه، بعد أن انتزعت الحربُ حقه في العيش كآدمي. وفي قصة ثانية، وعنوانها (خُطىً)، تخيِّمُ على أجوائها ظلالُ سنوات الحصار الاقتصادي، ويمتدُ تأثيرُ العقوبات الاقتصادية، التي فرضت على نظام الحكم العراقي، إلى أسرة كانت تعيشُ في يُسر، فينحدرُ حالُها إلى العُسر، لدرجة اضطرار الأم إلى التسوُّل في الطريق العام. وتتبدى تداعيات الحرب في قصة ثالثة، تبدأ اشتباكها مع الموضوع الذي تتصدى لمعالجته منذ العنوان (اطمئن)؛ حيث الاطمئنان هو الهدفُ العزيز المنشود، على المستويين الشخصي والعام، في ظل متتالية كئيبة من الحصار والدمار والدماء، دامت سنوات طويلة. وتقدم لنا القصة شخصية امرأة أربعينية – وهي تظهرُ في قصص أخرى من المجموعة – باحثة دوماً عن شكل لحياتها، متطلعة إلى حب حقيقي، محملة بأثقال من تجارب سابقة موجعة. وما إن تلتقي بشيخ يقاربها سنّاً، تقتحمُها شخصيتُه، ويحرك فيها الأنثى، فتحسَبُ أنها قد وصلت إلى بَرِّ الأمان، وآن لقلبها أن يطمئن، فلا يلبث الشيخُ، وهو من كوادر المقاومة الدينية، أن يسقط في ساحة الجهاد من أجل الأمة. وهكذا، صممت سولاف هلال كتابها القصصي ليبدأ وينتهي بقصتين عن الحرب، ونثرت في وسطه ثلاث قصص تتردد فيها أصداء بعيدة للحرب. ولنفترض أن نصيبَ الحرب في هذه المجموعة خمسُ قصص، فهل هو نصيبٌ مناسب لأحداث حرثت الأرض حرثاً، واستمرت لما يقربُ من ربع قرن من الزمان؟ إن خبرة سولاف هلال بفداحة الحرب وآثارها على البشر واضحة تماماً في قصتي البداية والنهاية من المجموعة، فهل اختارت كاتبة على هذه الدرجة من الخبرة أن تتجاهلَ زمناً كانت الصواريخ فيه تغتال الآمنين في مخادعهم، في حرب دامت لما يقرب من عشر سنوات، هي حرب القادسية؟ هل كان اختيار سولاف هو ألاَّ تستقبلَ قرَّاءها بكتابها الأول مليئاً بدخان القذائف وأشلاء الضحايا؟ وبالطبع، فإن أحداً لا يملك أن يصادرَ حقّ كاتب في اختياراته، فالفن في أصله اختيار؛ ولكن حدثاً بحجم الحرب، وبملابسات وأحوال متتالية الحروب التي خاضها العراقُ، لا يمكن تجاهله، إلاَّ إن كان ذلك عن عمدٍ، وتعبيراً عن موقف محدد. لقد ثار سؤال مشابه: أين أدب الحرب بمصر؟ في أعقاب حرب أكتوبر 73، ولا يزال يتردد حتى الآن؛ وثمة نقاد يرون أن حجم إنتاج الكتّاب المصريين عن هذه الحرب لا يتناسبُ وحجمها وقيمتها والآثار التي ترتبت عليها؛ وثمة نفر آخر من النقاد يرى أن الكتابة عن شأن ما لا ترتبط بوقت بعينه، وقد تأتي بعد انتهائه بزمن طويل. على أي حال، لننتظر كتب سولاف التالية – فهذا هو كتابها الأول – فقد نجد فيها ما يسجل تجربتها في معايشة حروب وطنها. إن بحثنا عن الحرب في قصص سولاف لا يعني أننا نقلل من قيمة ما قدمته لنا من قصص عالية الجودة في كتابها "إلى الوراء در". قصص تؤكد لنا أننا أمام كاتبة عالية القامة، تعتمد كثيراً على المعالجة النفسية في بناء قصصها، وتجيد اختيار زاوية القصّ؛ وهي ساردةٌ من الطراز الأول، يصعبُ أن يفلت منها انتباه القارئ؛ كما أنها تجيدُ اختيار عناوين قصصها بحيث تكون جزءاً من البناء القصصي وليست زائدة أو عبئاً عليه. وتمتلك سولاف لغة قصصية خاصة بها. إنني أدخُلُ تجربة قراءة القصة القصيرة وفي ذهني نموذج مسبق لها، كما أحبها، وكما أكتبها، يوجهني اعتقادٌ راسخٌ لديَّ بأن تجربة كتابة القصة القصيرة هي تجربة تعامل مع اللغة بالدرجة الأولى. ومن هذه الناحية يجيئ تفرُّدُ كتّاب القصة الذين ينجحون في إيجاد صيغهم اللغوية الخاصة بهم. وأعتقدُ أن سولاف هلال قد نجحت في الوصول إلى صيغة متميزة للغتها القصصية؛ لغة تنشُدُ البساطة، وكما جاء على الغلاف الأخير للكتاب، لغة مسالمة، لا تزعجُ القارئَ، ولكن تصل إليه، أو تجعله يتواصل معها، من أقرب طريق.