شباب مصر، وكهولها أيضاً، مصممون على استرداد “ثورة 25 يناير” من المجلس الأعلى للقوات المسلحة . المجلس كان انحاز، برفق، إلى جانب المتظاهرين والمحتجين منذ أشهر عشرة، فاضطر حسني مبارك إلى التنحي . لكن سقوط رأس النظام لم يؤدِ إلى سقوط جسمه . فالنظام، بما تبقّى من كبار أركانه وضباط جيشه وشرطته وأمنه المركزي، بقي قائماً ومستمراً بالكثير من مؤسساته وسياساته ومفاهيمه الفاسدة . لم يشعر شباب مصر بأن شيئاً محسوساً قد تغيّر بعد إسقاط مبارك . ساءهم أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أصبح السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية في آن . اكتشفوا أن حكومة عصام شرف ليست سوى واجهة للقادة العسكريين، وأنها بلا صلاحيات وبلا أسنان . راعهم أن يحاكم مبارك ورموز نظامه أمام المحاكم المدنية المختصة فيما تجري ملاحقة شبان الثورة وشاباتها من قبل أجهزة أمن النظام “السابق” ومحاكمتهم أمام المحاكم العسكرية . فوق ذلك، ارتابوا بالتناغم القائم بين المجلس الأعلى وجماعة “الإخوان المسلمين”، كما بالحوار العلني الجاري بين بعض قادة “الإخوان” والمسؤولين الأمريكيين . شعروا بأن ما يجري توليفة من ترتيبات إدارية وانتخابات نيابية إنما يراد منه تسليم السلطة إلى الإخوان المسلمين وحلفائهم . في ضوء هذا الواقع، أعدت القوى الشبابية لحراك شعبي واسع غايته استرداد الثورة من العسكر للحؤول دون سقوطها في أيدي الإخوان المسلمين . هذا يعني، عملياً وسياسياً وبلغتهم، “إنقاذ” مصر من العسكر والإخوان معاً . الإخوان المسلمون استشعروا ما تخططه الحركات الشبابية ضدهم، فسارعوا إلى الانعطاف بقوة والابتعاد عن ترتيباتها الإجرائية والسياسية الرامية إلى استئناف ثورة 25 يناير ضد العسكر بمقاطعة مليونية يوم الثلاثاء الماضي والتحركات الاحتجاجية على القمع الذي مورس بقسوة ضد المتظاهرين . اللافت أن السلفيين والصوفيين لم يشاطروا “الإخوان” مقاطعتهم التظاهرات والاعتصامات في الإسكندرية والإسماعيلية والسويس وغيرها من المدن بل انخرطوا فيها . القسوة الشديدة الممنهجة التي مورست ضد المتظاهرين والمحتشدين خدمت قضية الحركات الشبابية المناهضة ل”حكم العسكر”، واضطرت حكومة عصام شرف إلى الاستقالة، وإلى حمل المجلس الأعلى على دعوة القوى السياسية في البلاد إلى “حوار عاجل”، وإلى تشكيل لجنة “لتقصي الحقائق وأسباب ما حدث ( . . .) واتخاذ الإجراءات القانونية ضد كل من يثبت تورطه” . كل هذه التدابير جاءت متأخرة ودونما فائدة . فالمواجهات المسلحة استمرت بعنف مضاعف من طرف الشرطة والأمن المركزي لدرجة حملت فريقاً من المتظاهرين على محاولة اقتحام مقر وزارة الداخلية غير البعيد عن ميدان التحرير، ومحاصرة بعض مديريات الأمن في القاهرة وسائر المدن المصرية . ثم إن “الحوار العاجل” الذي جرى بين أركان المجلس الأعلى وبعض ممثلي القوى والشخصيات السياسية انتهى إلى توصيات لم تشفِ غليل الحشود المليونية في ميدان التحرير . كذلك كان مصير خطاب المشير حسين طنطاوي الذي أعلن قبول استقالة حكومة عصام شرف، وتأليف حكومة “إنقاذ وطني”، وإلى استعداد القوات المسلحة لتسليم الحكم الى المدنيين بموجب استفتاء، وتأكيد إجراء الانتخابات الرئاسية قبل نهاية شهر يونيو/حزيران المقبل، والإصرار على إجراء الانتخابات النيابية (على مراحل) اعتباراً من 28 الشهر الجاري . في هذه الأثناء كانت مصادمات مريبة تجري حول وزارتي الداخلية والخارجية . صحيح أن قوى الشرطة والأمن المركزي واجهت المتظاهرين بقسوة شديدة، لكن ترتيبات الحشد والاحتجاج لم تكن تتضمن، بحسب خطة المنظّمين، أي بند يتعلق باقتحام وزارة الداخلية وسائر الإدارات الأمنية . من هنا فقد أثارت المحاولات المستمرة لاقتحام وزارة الداخلية حفيظة المنظمين الذين ارتابوا بأن جهات مشبوهة تحاول حرف الثورة وجماهيرها عن أهدافها الوطنية بتدمير الإدارات الأمنية واستدراج المتظاهرين وقوى الأمن إلى مصادمات دموية ينتج عنها فوضى عارمة وشاملة . تأكدت شكوك المنظمين بعدما تمكّن المتظاهرون من إلقاء القبض على ضابط برتبة عقيد كان يطلق النار من مسدس كاتم للصوت تسبّب بإصابة بعض المتظاهرين . كما تمكّن المتظاهرون من توقيف بضعة أجانب، ثبُت أنهم أمريكيون، يحملون قنابل مولوتوف بالقرب من مقر وزارة الخارجية غير البعيد عن ميدان التحرير . هذه التطورات المتلاحقة، زادت من سخط الحشود والمتظاهرين وحملت قياداتهم المعنية على تشديد رفضها لما جاء في خطاب المشير طنطاوي لأسباب عدة أبرزها ثلاثة: أولها، شعورها بأن المشير يماطل ويسوّف كما كان مبارك يفعل في آخر عهده . ثانيها، عدم اتضاح تركيبة حكومة “الإنقاذ الوطني” والصلاحيات التي ستستند إليها . ثالثها، رغبة القوى الشبابية في تأجيل الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في 2011/11/28 كي تتمكن الحكومة الجديدة بصلاحياتها القوية المرتجاة من إعادة النظر بالترتيبات السياسية والإدارية التي سبق للمجلس الأعلى أن اتخذها على نحوٍ يستفيد منه الإخوان المسلمون بالدرجة الأولى . غير أن قيادياً كبيراً من أهل الثورة المتجددة، طلب عدم الكشف عن هويته، أكّد لي شخصياً أن القوى الشبابية وحلفاءها قد توافق على البرنامج الذي تضمّنه خطاب طنطاوي إذا ما جرى التفاهم على تركيبة حكومة “الإنقاذ الوطني”، وعلى إعطائها صلاحيات تنفيذية واسعة للتمكن من إدارة الشؤون العامة والإشراف على الانتخابات النيابية والرئاسية بمنأى عن تدخل المجلس الأعلى، أو تأجيلها كما بات مرجحاً . يبقى أن نشير إلى أن مليونية “الانقاذ الوطني” يوم الثلاثاء الماضي وما سبقها ورافقها وأعقبها من تطورات، ولاسيما مقاطعة الإخوان المسلمين لها، قد أسهمت كثيراً في تقوية القوى الشبابية، الديمقراطية والليبرالية والتقدمية والقومية، بدليل فوز سامح عاشور، أحد رموز التيار الناصري، بمركز نقيب المحامين المصريين . صحيح أن هذا الفوز اللافت للناصريين لا يستتبع، بالضرورة، انكفاء الإخوان المسلمين، لكنه يؤكد ظاهرة استرداد القوى الشبابية زمام المبادرة بعد أشهر من صعود القوى الإسلامية عموماً والإخوان المسلمين خصوصاً، نتيجةَ تناغمها مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة من جهة وما تردد عن حوارها المستجد مع بعض المسؤولين الأمريكيين من جهة أخرى .