فضائح التسريبات ل"خيري رمضان" و"غطاس" .. ومراقبون: يربطهم الهجوم على حماس والخضوع للمال الإماراتي ..    إطلاق سيارات فولكس فاجن تايرون لأول مرة في مصر.. أسعار ومواصفات    سعر الذهب اليوم السبت 25_10_2025.. عيار 21 الآن بعد الارتفاع في الصاغة (تفاصيل)    سعر الدولار الآن مقابل الجنيه والعملات الأخرى ببداية الأسبوع السبت 25 أكتوبر 2025    الرقابة المالية تستعرض مزايا منتجات جديدة تعتزم إتاحتها للمستثمرين في البورصة قريباً    عمرو أديب: الرئيس السيسي نال تقدير أوروبا لدوره المحوري في غزة    «زي النهارده».. «الكاميكازي» يضرب الأسطول الأمريكي 25 أكتوبر 1944    قيادي بحركة فتح: واشنطن تربط إعادة إعمار غزة بنزع سلاح المقاومة    هل يستطيع ترامب فرض حل الدولتين على إسرائيل؟.. نبيل فهمي يجيب    وليد صلاح الدين يكشف سبب غياب الشناوي عن مباراة الأهلي وإيجل نوار    «مدرب مش فاهم حاجة».. خالد الغندور يفتح النار على فيريرا    كونسيساو ينتقد لاعبي «النمور» بعد الهزيمة أمام الهلال.. ويعلق على عدم مصافحة «إنزاجي»    إنزاجي يشيد بلاعبى الهلال بعد الفوز على اتحاد جدة    السيطرة على حريق محدود في عمارة النحاس بالإسكندرية دون خسائر    أصعب 5 ساعات.. تحذير شديد بشأن حالة الطقس اليوم: «توخوا الحذر»    السيطرة على حريق شب في مصنع ملابس بمدينة قليوب    ضاعت في الزبالة.. قصة استعادة مصوغات ذهبية بنصف مليون جنيه ب البحيرة    نقيب أطباء الغربية ينعي نجلته بكلمات تدمي القلوب    «مش محتاج أروح ل سيدي 6 أكتوبر».. عمرو أديب يواصل هجومه على الموالد    بعد حصوله على أفضل ممثل في «الجونة».. أحمد مالك: «كولونيا» سيكون في دور العرض قريبًا    بعيدة عن «النكد».. مي فاروق توعد جمهور الدورة المقبلة لمهرجان الموسيقى العربية ب «أغاني ميكس»    ليدز يونايتد يهزم وست هام بثنائية ويواصل صحوته في الدوري الإنجليزي    ترامب يحذر رئيس كولومبيا: أوقفوا إنتاج المخدرات فورًا أو سنتدخل بأنفسنا    الولايات المتحدة تفتح تحقيقًا في التزام الصين باتفاقها التجاري الموقع خلال ولاية ترامب الأولى    أسعار القهوة الأمريكية ترتفع بشكل حاد بسبب الرسوم الجمركية والطقس السيئ    عاجل | تعرف على حزمة المهل والتيسيرات الجديدة المقدمة من "الصناعة" للمشروعات المتعثرة    النائب العام يلتقي قضاة مصر العاملين بدولة الإمارات| صور    الهيئة الدولية لدعم فلسطين: مصر تجمع الفصائل لوضع أسس المرحلة الانتقالية الحساسة    جيش الاحتلال يواصل اقتحاماته في مدن الضفة والقدس ومواجهات عنيفة في بيت لحم    الأهلي يسعى لتأمين تأهله لمجموعات دوري أبطال إفريقيا أمام إيجل نوار    دوري أبطال أفريقيا.. تعديل موعد مباراة بيراميدز والتأمين الإثيوبي    مهرجان الجونة يكرم مديره السابق انتشال التميمي في ختام دورته الثامنة    مي فاروق تفتتح حفلها في مهرجان الموسيقى العربية ب«ليلة حب»    تشارك في إنتاجه قنوات ART.. "المستعمرة" يفوز بالجائزة البرونزية في ختام مهرجان الجونة السينمائي    نقابة الأطباء تعلن تشكيل هيئة المكتب بعد انتخابات التجديد النصفي    انطلاق أعمال المؤتمر الدولى السادس لمجلس الكنائس العالمى بمشاركة 100 دولة بوادى النطرون    وزارة التخطيط تحتفي بالذكرى ال80 لتأسيس الأمم المتحدة    توخى الحيطة والحذر.. بيان مهم من الأرصاد الجوية حول طقس الساعات القادمة    برفقتهم 25 طفلا.. تفاصيل ضبط شبكة تسول بالقاهرة    الجبهة الوطنية يكلف الطويقي قائما بأعمال أمين الحزب بسوهاج    26 أكتوبر، جامعة أسيوط تنظم يوما علميا عن الوقاية من الجلطات    ضمن مبادرة "صحح مفاهيمك".. ندوة علمية حول الأمانة طريق النجاح بأوقاف الفيوم    لو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت.. أزهرى يجيب عن حكم قبول الهدايا.. فيديو    جمارك مطار أسيوط تحبط محاولة تهريب كمية من مستحضرات التجميل    افتتاح عيادة التغذية العلاجية بمستشفى طما بسوهاج    وزارة الرى تعلن أسباب ارتفاع منسوب النيل وتؤكد: الاستمرار فى إزالة التعديات    ليفربول قد يخسر مهاجمه أمام برينتفورد    ساندويتش السمك المشوي.. وصفة المسلسلات التركية (طريقة تحضيرها)    مؤتمر حميات الفيوم يناقش الجديد في علاج الإيدز وفيروسات الكبد ب 12 بحثا    وزارة الصحة تعلن محاور المؤتمر العالمي للسكان والتنمية البشرية    عالم أزهري: أكثر اسمين من أسماء الله الحسنى تكرارًا في القرآن هما الرحمن والرحيم    أفضل الأدعية والأذكار المستحبة في يوم الجمعة وفضائل هذا اليوم المبارك    فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة.. وحكم الاستماع إليها من الهاتف    سر ساعة الإجابة يوم الجمعة وفضل الدعاء في هذا الوقت المبارك    وزير الدفاع ورئيس الأركان يلتقيان رئيس أركان القوات البرية الباكستانية    الفنان محمد صلاح جاد يتألق مع النجم سيد رجب في مسلسل «لينك»    82.8 % صافي تعاملات المستثمرين المصريين بالبورصة خلال جلسة نهاية الأسبوع    رسميًا قائمة أسماء المرشحين النهائية في انتخابات مجلس النواب عن محافظة البحيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"العاشقان" لماغريت لوحة لزمن كورونا
نشر في صوت البلد يوم 21 - 04 - 2020

هل هي معجزة صغيرة من معجزات الفن، تلك التي تجعل أربع لوحات لرسام بلجيكي، تعود لتشغل الناس ويُجرى تناقلها بدهشة في زمن كورونا والعزلة والأقنعة الذي نعيش في خضمّه؟
الحقيقة، أن في الرسائل وربما عشرات ملايين الرسائل التي يبعثها الناس إلى بعضهم بعضاً على سبيل التسرية أو التفكّه أو التعبير عن الشفقة على الذات أو تعزية هؤلاء الناس لبعضهم بعضاً، تحلّ ثانية في تراتبية اللوحات المرسلة الأكثر انتشاراً، بعد تلك التي تحلّ في المرتبة الأولى: لوحة "الخليقة" لميكائيل آنجلو، واحدة أو أخرى من أربع لوحات رسمها الفنان ماغريت في عام 1928 تباعاً، لكن من دون أن يخطر في باله أمران على الأقل: أولهما أن تلك اللوحات سوف تنتشر بصورة مدهشة بعد أقل من قرن، لكن لغايات تختلف تماماً عن تلك التي كان يتوخاها هو الذي كان يأمل من تلك اللوحات أن تُقدّمه من الباب العريض إلى جماعة السورياليين في باريس، وثانيهما أن اللوحات نفسها سوف تأتي، لتؤكد من جديد كيف أن الحياة تقلّد الفن، في وقت يقول الناس جميعاً إن الفن الأهم هو ذلك الذي يقلّد الحياة.
والحقيقة، أن من يشاهد اللوحة المرفقة مع هذا المقال سيدرك من فوره ما الذي نعنيه، بل سيدركه بالطبع أكثر كثيراً مما كان من شأن الفنان صاحب اللوحة أن يفعل لو إنه بُعث حيّاً بيننا وشاهد ما نشاهده. وما نعنيه هو بالطبع ذلك القناع الذي بات لا بدّ من ارتدائه في كل لحظة وحين في أيام كورونا للحيلولة دون أن ينقل الناس الوباء إلى بعضهم بعضاً.
قناع كامل
صحيح، أن القناع في اللوحة وأخواتها يشمل الوجه كله، بحيث لا يشاهد العاشقان بعضهما بعضاً، إذ في المبتغى الأصلي للعمل الفني لم يكن لانتشار الوباء علاقة بالقناعين الفاصلين بينهما. ومع هذا تنبني رمزية اهتمام الناس بمن فيهم أولئك الذين لم يسبق لهم أن سمعوا بماغريت أو رأوا أياً من أعماله من قبل، ضمن إطار ضرورات المرحلة ومعانيها. ومن هنا يعود الفن "النخبوي" إلى الواجهة من جديد من دون معرفة صاحب الفن أو إذنه.
وقبل العودة إلى ماغريت نفسه لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن النقاد والمؤرخين غالباً ما انكبّوا على دراسة هذه اللوحة وأخواتها الثلاث، كما يفعلون عادة بالنسبة إلى القسم الأكبر من إنتاج ذلك الفنان البلجيكي المدهش، فيجدون مفتاحاً للفهم، لكن تغيب عنهم مفاتيح كثيرة أخرى، واختلفوا في التفسير.
لكن، المهم أنّ اللوحات الأربع مرسومة بنفس واحد، وربما بتزامن مقصود، وبنفس المقاييس (73 سم × 54،2 سم لكل لوحة)، ومرقمة بالروماني من واحد إلى أربعة، لكنها تعيش الآن موزّعة في عدد من المتاحف (تلك التي نقدمها هنا توجد في مجموعة خاصة ببروكسل).
والطريف أن أكثر محاولات التفسير توافقت على فكرة أن "الحب أعمى"، وليس على العاشقَين أن يريا بعضهما لكي يتحابّا. وهو تفسير من شأنه طبعاً أن لا يرضي الفنان الذي نادراً ما قَبِل بأن يفسّر فنه بتلك الطريقة المغرقة في "واقعيتها"، وربما في "وعظيتها" أيضاً. وثمة في هذا السياق أيضاً تفسير آخر يربط اللوحات بصورة ما بذكرى أم الفنان التي انتحرت غرقاً بينما كان هو لا يزال مراهقاً. ومن ناحية أخرى يقترح أحد المفسرين نظرية ثالثة، مفادها أن ماغريت ربما يكون قد رسم الرغبة نفسها، بصورة سيكولوجية، من خلال الغياب الحسّي لهوية العاشقين.
مهما يكن من أمر، لا شكّ أنّ ما من واحد من المفسّرين تمكّن من الوصول إلى تفسير يتعلق ب"الوظيفة" التعبيرية "الجديدة" لهذه اللوحات على ضوء كورونا وأقنعتها. أمّا بالنسبة إلى ماغريت نفسه فإننا نجدنا نعود هنا إلى حكاية تتعلق بانتشار لا بدّ من ذكره لصور للوحاته في عديد من البيوت العربية، وذلك من قبل كورونا بسنوات عديدة. لكنها حكاية أدبية لا حكاية فنية، ولا علاقة مباشرة للوحاته بها! كما أنّ ماغريت نفسه حين رحل عن عالمنا في عام 1967، لم يكن عارفاً بالطبع أنه بعد سنوات قليلة سيكون واحداً من أكثر رسامي العالم انتشاراً في العالم العربي. بل من المؤكد أنه حتى لو عاش في أيامنا هذه لن يدري شيئاً حول انتشاره العربي المفاجئ.
دور غادة السمان
حسناً، لكيلا يبدو كلامنا هذا أحجية من الأحجيات سنبادر إلى التفسير: إن الكاتبة العربية غادة السمان، هي إلى جانب نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، الروائية والكاتبة العربية الأكثر انتشاراً، بحيث إن كل كتاب من كتبها يوزّع بعشرات ألوف النسخ، ويكاد يوجد في كل بيت فيه قراء. ومنذ نصف قرن من الزمن تقريباً، بدأت غادة السمان تنشر كتبها القديمة وكتباً جديدة لها عن دار نشر خاصة بها، وبأغلفة موحدة التصميم، قاسم معظمها المشترك وجود لوحة للفنان رينيه ماغريت عليها. وهكذا تحديداً كان دخول لوحات ماغريت إلى بيوت عربية عديدة.
والحال، أن اختيار غادة السمان لوحات ماغريت تزين أغلفة كتبها لم يأتِ وليد صدفة من الصدف، بل إن في أسلوب كاتبتنا العربية غرابة منتزعة من صلب الواقع، ومزجاً للأزمنة، ما يحيلنا مباشرة إلى الأسلوب الذي تبنّاه الفنان البلجيكي الشهير في معظم لوحاته. فبالنسبة إلى ماغريت يكفي تضافر قبعة ووجه، أو طير ونافذة، أو أصابع وحذاء، لخلق لوحة تقف متوازية مع واقعية العالم، تخرج عنها، تحيل إليها ولكن من دون أن تستند في ذلك إلى أي عناصر غريبة، كما هي الحال مثلاً مع سوريالية سلفادور دالي ذات الأشكال المشوّهة والساعات الممطوطة والحيوانات الخرافية. فماغريت كان يرى أن الواقع نفسه سيبدو لنا حافلاً بالغرابة، إذا عرفنا كيف نعيد ترتيب عناصره وفق مزاجنا أو رؤيتنا.
والحال، أن ما يفعله ماغريت في لوحاته ما هو إلا ترتيب وإعادة ترتيب عناصر الواقع مما يكشف عمّا كان فرويد يسميه "الغرابة المقلقة"، ونحن في إزاء لوحات ماغريت تجدنا دائماً أمام غرابة مقلقة، لا نطمئن إلا إذا جزّأنا عناصرها وفصلناها عن بعضها بعضاً، فارتحنا إلى عاديتها.
واحدٌ من أعلام السوريالية
وُلد رينيه ماغريت في بروكسيل عام 1898، وبدأ منذ صباه يمارس هواية فنية نهلت من الكلاسيكية الفلامنكية، وطبعت عمله بطابع مدرسي، حتى كان عام 1923، إذ اكتشف الفنان المجتهد الشاب أعمال الرسام الإيطالي السوريالي جورجيو دي كيريكو، فإذا بتلك الأعمال تُحدث لديه انقلاباً كبيراً في رؤيته واختياراته، وتُوجّهه نحو تبني التيار السوريالي، الذي سيتبناه حتى النهاية فيكون علماً على أعماله ويكون هو واحداً من كبار أعلامه، إلى جانب دالي وايف تانغي وماكس آرنست، وغيرهما. أمّا في بلجيكا، فيعد ماغريت على الدوام كبير المدرسة السوريالية إذا استثنينا فن بول دلفو ذا الطابع السوريالي الرومانسي.
إذا أسقطنا من مسار رينيه ماغريت فترة أربعة أعوام (1943 - 1947) حاول خلالها أن يحقق لوحات انطباعية حديثة ففشل في ذلك، يمكننا أن نقول مع مؤرخي فن ماغريت، وكاتبي سيرة حياته، إنه ظل طوال عمره أمينا لأسلوب "بارد يقترب من أسلوب الخداع البصري"، وتمتزج فيه الغرابة بتعمد إثارة القلق، والأسرار بالفكاهة السوداء، وتلك هي، على أي حال، العناصر الأربعة التي شكّلت وتشكّل أساس التيار السوريالي. ومن هنا عُدَّ ماغريت سوريالياً خالصاً، على الرغم من خلافه مع أندريه بريتون وشلته من عتاة السورياليين، خلال فترة احتكاكه بهم حين أمضى سنوات عديدة في باريس بين 1927 و1930.
كل هذا منطقي ومعروف بالطبع للمهتمين بالفن التشكيلي، غير أن ما لم يخطر لأحدهم في البال، كان تلك الظروف الصحية التي ستطل في بدايات القرن الواحد والعشرين لتعطي بعض لوحات ماغريت معنى بالغ الغرابة والقوة وغير متوقّع على الإطلاق... رغم "واقعيته" المذهلة!
هل هي معجزة صغيرة من معجزات الفن، تلك التي تجعل أربع لوحات لرسام بلجيكي، تعود لتشغل الناس ويُجرى تناقلها بدهشة في زمن كورونا والعزلة والأقنعة الذي نعيش في خضمّه؟
الحقيقة، أن في الرسائل وربما عشرات ملايين الرسائل التي يبعثها الناس إلى بعضهم بعضاً على سبيل التسرية أو التفكّه أو التعبير عن الشفقة على الذات أو تعزية هؤلاء الناس لبعضهم بعضاً، تحلّ ثانية في تراتبية اللوحات المرسلة الأكثر انتشاراً، بعد تلك التي تحلّ في المرتبة الأولى: لوحة "الخليقة" لميكائيل آنجلو، واحدة أو أخرى من أربع لوحات رسمها الفنان ماغريت في عام 1928 تباعاً، لكن من دون أن يخطر في باله أمران على الأقل: أولهما أن تلك اللوحات سوف تنتشر بصورة مدهشة بعد أقل من قرن، لكن لغايات تختلف تماماً عن تلك التي كان يتوخاها هو الذي كان يأمل من تلك اللوحات أن تُقدّمه من الباب العريض إلى جماعة السورياليين في باريس، وثانيهما أن اللوحات نفسها سوف تأتي، لتؤكد من جديد كيف أن الحياة تقلّد الفن، في وقت يقول الناس جميعاً إن الفن الأهم هو ذلك الذي يقلّد الحياة.
والحقيقة، أن من يشاهد اللوحة المرفقة مع هذا المقال سيدرك من فوره ما الذي نعنيه، بل سيدركه بالطبع أكثر كثيراً مما كان من شأن الفنان صاحب اللوحة أن يفعل لو إنه بُعث حيّاً بيننا وشاهد ما نشاهده. وما نعنيه هو بالطبع ذلك القناع الذي بات لا بدّ من ارتدائه في كل لحظة وحين في أيام كورونا للحيلولة دون أن ينقل الناس الوباء إلى بعضهم بعضاً.
قناع كامل
صحيح، أن القناع في اللوحة وأخواتها يشمل الوجه كله، بحيث لا يشاهد العاشقان بعضهما بعضاً، إذ في المبتغى الأصلي للعمل الفني لم يكن لانتشار الوباء علاقة بالقناعين الفاصلين بينهما. ومع هذا تنبني رمزية اهتمام الناس بمن فيهم أولئك الذين لم يسبق لهم أن سمعوا بماغريت أو رأوا أياً من أعماله من قبل، ضمن إطار ضرورات المرحلة ومعانيها. ومن هنا يعود الفن "النخبوي" إلى الواجهة من جديد من دون معرفة صاحب الفن أو إذنه.
وقبل العودة إلى ماغريت نفسه لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن النقاد والمؤرخين غالباً ما انكبّوا على دراسة هذه اللوحة وأخواتها الثلاث، كما يفعلون عادة بالنسبة إلى القسم الأكبر من إنتاج ذلك الفنان البلجيكي المدهش، فيجدون مفتاحاً للفهم، لكن تغيب عنهم مفاتيح كثيرة أخرى، واختلفوا في التفسير.
لكن، المهم أنّ اللوحات الأربع مرسومة بنفس واحد، وربما بتزامن مقصود، وبنفس المقاييس (73 سم × 54،2 سم لكل لوحة)، ومرقمة بالروماني من واحد إلى أربعة، لكنها تعيش الآن موزّعة في عدد من المتاحف (تلك التي نقدمها هنا توجد في مجموعة خاصة ببروكسل).
والطريف أن أكثر محاولات التفسير توافقت على فكرة أن "الحب أعمى"، وليس على العاشقَين أن يريا بعضهما لكي يتحابّا. وهو تفسير من شأنه طبعاً أن لا يرضي الفنان الذي نادراً ما قَبِل بأن يفسّر فنه بتلك الطريقة المغرقة في "واقعيتها"، وربما في "وعظيتها" أيضاً. وثمة في هذا السياق أيضاً تفسير آخر يربط اللوحات بصورة ما بذكرى أم الفنان التي انتحرت غرقاً بينما كان هو لا يزال مراهقاً. ومن ناحية أخرى يقترح أحد المفسرين نظرية ثالثة، مفادها أن ماغريت ربما يكون قد رسم الرغبة نفسها، بصورة سيكولوجية، من خلال الغياب الحسّي لهوية العاشقين.
مهما يكن من أمر، لا شكّ أنّ ما من واحد من المفسّرين تمكّن من الوصول إلى تفسير يتعلق ب"الوظيفة" التعبيرية "الجديدة" لهذه اللوحات على ضوء كورونا وأقنعتها. أمّا بالنسبة إلى ماغريت نفسه فإننا نجدنا نعود هنا إلى حكاية تتعلق بانتشار لا بدّ من ذكره لصور للوحاته في عديد من البيوت العربية، وذلك من قبل كورونا بسنوات عديدة. لكنها حكاية أدبية لا حكاية فنية، ولا علاقة مباشرة للوحاته بها! كما أنّ ماغريت نفسه حين رحل عن عالمنا في عام 1967، لم يكن عارفاً بالطبع أنه بعد سنوات قليلة سيكون واحداً من أكثر رسامي العالم انتشاراً في العالم العربي. بل من المؤكد أنه حتى لو عاش في أيامنا هذه لن يدري شيئاً حول انتشاره العربي المفاجئ.
دور غادة السمان
حسناً، لكيلا يبدو كلامنا هذا أحجية من الأحجيات سنبادر إلى التفسير: إن الكاتبة العربية غادة السمان، هي إلى جانب نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، الروائية والكاتبة العربية الأكثر انتشاراً، بحيث إن كل كتاب من كتبها يوزّع بعشرات ألوف النسخ، ويكاد يوجد في كل بيت فيه قراء. ومنذ نصف قرن من الزمن تقريباً، بدأت غادة السمان تنشر كتبها القديمة وكتباً جديدة لها عن دار نشر خاصة بها، وبأغلفة موحدة التصميم، قاسم معظمها المشترك وجود لوحة للفنان رينيه ماغريت عليها. وهكذا تحديداً كان دخول لوحات ماغريت إلى بيوت عربية عديدة.
والحال، أن اختيار غادة السمان لوحات ماغريت تزين أغلفة كتبها لم يأتِ وليد صدفة من الصدف، بل إن في أسلوب كاتبتنا العربية غرابة منتزعة من صلب الواقع، ومزجاً للأزمنة، ما يحيلنا مباشرة إلى الأسلوب الذي تبنّاه الفنان البلجيكي الشهير في معظم لوحاته. فبالنسبة إلى ماغريت يكفي تضافر قبعة ووجه، أو طير ونافذة، أو أصابع وحذاء، لخلق لوحة تقف متوازية مع واقعية العالم، تخرج عنها، تحيل إليها ولكن من دون أن تستند في ذلك إلى أي عناصر غريبة، كما هي الحال مثلاً مع سوريالية سلفادور دالي ذات الأشكال المشوّهة والساعات الممطوطة والحيوانات الخرافية. فماغريت كان يرى أن الواقع نفسه سيبدو لنا حافلاً بالغرابة، إذا عرفنا كيف نعيد ترتيب عناصره وفق مزاجنا أو رؤيتنا.
والحال، أن ما يفعله ماغريت في لوحاته ما هو إلا ترتيب وإعادة ترتيب عناصر الواقع مما يكشف عمّا كان فرويد يسميه "الغرابة المقلقة"، ونحن في إزاء لوحات ماغريت تجدنا دائماً أمام غرابة مقلقة، لا نطمئن إلا إذا جزّأنا عناصرها وفصلناها عن بعضها بعضاً، فارتحنا إلى عاديتها.
واحدٌ من أعلام السوريالية
وُلد رينيه ماغريت في بروكسيل عام 1898، وبدأ منذ صباه يمارس هواية فنية نهلت من الكلاسيكية الفلامنكية، وطبعت عمله بطابع مدرسي، حتى كان عام 1923، إذ اكتشف الفنان المجتهد الشاب أعمال الرسام الإيطالي السوريالي جورجيو دي كيريكو، فإذا بتلك الأعمال تُحدث لديه انقلاباً كبيراً في رؤيته واختياراته، وتُوجّهه نحو تبني التيار السوريالي، الذي سيتبناه حتى النهاية فيكون علماً على أعماله ويكون هو واحداً من كبار أعلامه، إلى جانب دالي وايف تانغي وماكس آرنست، وغيرهما. أمّا في بلجيكا، فيعد ماغريت على الدوام كبير المدرسة السوريالية إذا استثنينا فن بول دلفو ذا الطابع السوريالي الرومانسي.
إذا أسقطنا من مسار رينيه ماغريت فترة أربعة أعوام (1943 - 1947) حاول خلالها أن يحقق لوحات انطباعية حديثة ففشل في ذلك، يمكننا أن نقول مع مؤرخي فن ماغريت، وكاتبي سيرة حياته، إنه ظل طوال عمره أمينا لأسلوب "بارد يقترب من أسلوب الخداع البصري"، وتمتزج فيه الغرابة بتعمد إثارة القلق، والأسرار بالفكاهة السوداء، وتلك هي، على أي حال، العناصر الأربعة التي شكّلت وتشكّل أساس التيار السوريالي. ومن هنا عُدَّ ماغريت سوريالياً خالصاً، على الرغم من خلافه مع أندريه بريتون وشلته من عتاة السورياليين، خلال فترة احتكاكه بهم حين أمضى سنوات عديدة في باريس بين 1927 و1930.
كل هذا منطقي ومعروف بالطبع للمهتمين بالفن التشكيلي، غير أن ما لم يخطر لأحدهم في البال، كان تلك الظروف الصحية التي ستطل في بدايات القرن الواحد والعشرين لتعطي بعض لوحات ماغريت معنى بالغ الغرابة والقوة وغير متوقّع على الإطلاق... رغم "واقعيته" المذهلة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.