"ابن العبري".. راهب عبر العصور وخلّد اسمه في اللاهوت والفلسفة والطب    قناة السويس حكاية وطنl القناة الجديدة.. 10 سنوات من التحدى والإنجاز    لليوم الرابع، ارتفاع أسعار النفط وسط مخاوف من تأثر الإمدادات بتهديدات ترامب الجمركية    الرئيس الفلسطيني يرحب ب"الموقف التاريخي والشجاع" لكندا    15 دولة غربية تدعو دولا أخرى لإعلان عزمها الاعتراف بفلسطين    إسرائيل تندد بموقف كندا من الاعتراف بفلسطين: مكافأة لحماس    إعلام أوكراني: الدفاع الجوي يتصدى لهجمات في كييف وحريق جراء هجوم مسيّرة روسية    "العظمى 34".. الأرصاد تحذر السائقين من شبورة كثيفة صباح الخميس    مع الهضبة والكينج .. ليالى استثنائية فى انتظار جمهور العلمين    من يتصدر إيرادات الموسم السينمائى الصيفى ومن ينضم للمنافسة ؟    «وصلة» لقاء دافىء بين الأجيال .. « القومى للمسرح » يحتفى بالمكرمين    طريقة عمل الكب كيك في البيت وبأقل التكاليف    هبوط كبير في عيار 21 الآن.. مفاجأة في أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة    نحن ضحايا «عك»    حرمه منها كلوب وسلوت ينصفه، ليفربول يستعد لتحقيق حلم محمد صلاح    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    سلاح النفط العربي    بسهولة ومن غير أدوية.. أفضل الأطعمة لعلاج الكبد الدهني    المهرجان القومي للمسرح يحتفي بالفائزين في مسابقة التأليف المسرحي    بمحيط مديرية التربية والتعليم.. مدير أمن سوهاج يقود حملة مرورية    بينهم طفل.. إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق فايد بالإسماعيلية (أسماء)    بسبب خلافات الجيرة في سوهاج.. مصرع شخصين بين أبناء العمومة    هاريس تٌعلن عدم ترشحها لمنصب حاكمة كاليفورنيا.. هل تخوض انتخابات الرئاسة 2028؟    بعد الزلزال.. الحيتان تجنح ل شواطئ اليابان قبل وصول التسونامي (فيديو)    424 مرشحًا يتنافسون على 200 مقعد.. صراع «الشيوخ» يدخل مرحلة الحسم    نقيب السينمائيين: لطفي لبيب أحد رموز العمل الفني والوطني.. ورحيله خسارة كبيرة    "بعد يومين من انضمامه".. لاعب الزمالك الجديد يتعرض للإصابة خلال مران الفريق    السيارات الكهربائية.. والعاصمة الإنجليزية!    اتحاد الدواجن يكشف سبب انخفاض الأسعار خلال الساعات الأخيرة    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 31 يوليو 2025    تراجع غير متوقع للمبيعات المؤجلة للمساكن في أمريكا خلال الشهر الماضي    اصطدام قطار برصيف محطة "السنطة" في الغربية.. وخروج عربة من على القضبان    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    الحد الأدني للقبول في الصف الأول الثانوي 2025 المرحلة الثانية في 7 محافظات .. رابط التقديم    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    في حفل زفاف بقنا.. طلق ناري يصيب طالبة    مصرع شاب وإصابة 4 في تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    رئيس وزراء كندا: نعتزم الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر ويجب نزع سلاح حماس    التنسيقية تعقد صالونًا نقاشيًا حول أغلبية التأثير بالفصل التشريعي الأول بالشيوخ    التوأم يشترط وديات من العيار الثقيل لمنتخب مصر قبل مواجهتي إثيوبيا وبوركينا فاسو    القبض على 3 شباب بتهمة الاعتداء على آخر وهتك عرضه بالفيوم    ترامب: وزارة الخزانة ستُضيف 200 مليار دولار الشهر المقبل من عائدات الرسوم الجمركية    شادى سرور ل"ستوديو إكسترا": بدأت الإخراج بالصدفة فى "حقوق عين شمس"    هل يعاني الجفالي من إصابة مزمنة؟.. طبيب الزمالك السابق يجيب    "تلقى عرضين".. أحمد شوبير يكشف الموقف النهائي للاعب مع الفريق    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الخميس 31 يوليو 2025    مدير تعليم القاهرة تتفقد أعمال الإنشاء والصيانة بمدارس المقطم وتؤكد الالتزام بالجدول الزمني    حياة كريمة.. الكشف على 817 مواطنا بقافلة طبية بالتل الكبير بالإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المصري حجاج أدول يواصل أسطرة الواقع النوبي
نشر في صوت البلد يوم 09 - 04 - 2020

عوالم من الفانتازيا والعجائبية ينسجها الكاتب المصري النوبي حجاج أدول (1944) باقتدار ليصنع خطًّا مختلفًا من السرد يحمل بصمته الخاصة، في نصوص يتقاطع فيها الواقع مع الخيال والخرافة مع الحقيقة، فتكتسي أعماله بالمتعة والإثارة والتشويق.
ويتجلى ذلك في روايته الأحدث "زلنبح" (دار بدائل للنشر والتوزيع، القاهرة) التي ينطلق فيها الكاتب من حكاية محورية تدور حول "عصفة"، زوجة العمدة الفاتنة، وطاسة الزيت المغلي التي سكبتها برعونة على شجرة الشياطين، فكان ما كان.
معاناة مكررة
من هذه الحكاية المحورية يعود أدول إلى أحداث تعاقبت عليها السنوات، مجسّدًا معاناة الإنسان المكررة، في دائرة مغلقة من الظلم الاجتماعي والقمع والبطش. يستمر السرد في نطاق زمني ممتد عبر أجيالٍ متعاقبة حتى يصل إلى الحكاية المحورية ذاتها "عصفة وطاسة الزيت المغلي"، ليتمم أركان الحكاية وتبلغ العقدة ذروتها ثم تتوالد منها وتتناسل الحكايات، ويكون "زلنبح" (ابن عصفة من الشيطان) قاسمًا مشتركًا وبطلاً محوريًّا فيها جميعها.
تبدأ هذه الرحلة الغرائبية بقتل الفتى الطيب الضخم، ثم يموت "الأصفهاني"، المخنث وتابعه القواد، حرقًا، وعبر هاتين الحكايتين وغيرهما، يطأ الكاتب قروح الواقع ويُظهر وجهه القبيح الذي تطلّ منه الجريمة بشتى صورها.
يجسّد النص جوهر الصراع بين متناقضات العالم وأيضًا متناقضات النفس الواحدة، فيطرح زحامًا من هذه المتناقضات، بدا بعضها في البيئية المكانية للنص التي كانت تحمل في طياتها الثراء الفاحش والفقر المدقع، الشجاعة والاستكانة، المروءة والخسة، ثم ينقل السرد حالة الصراع التي تحدث داخل النفس البشرية ذاتها، بين نوازعها الدنيئة وضميرها الحي. ويبلغ الصراع ذروته عبر الشخصية المحورية "زلنبح" المنقسمة إلى نصفين: أحدهما شيطاني بانتمائه إلى "زلنبح" الشيطان الأب، والآخر إنساني ينتمي إلى "عصفة" الأم، ليكابد ويلات هذا الانقسام الذي يسفر عن شتاتٍ يضيع في دواماته عند محاولة كل قسم منه الانتصار على الآخر. وعلى الرغم من الطبيعة الغرائبية للشخصية وانتمائها إلى عوالم الخيال، فإنها ليست بعيدة تمامًا من جوهر الإنسان المتأرجح بين الخير والشر، بين نزعاته الناقصة ولومه لتلك النزعات محاولاً التسامي عنها.
تلعب المرأة دورًا محوريًّا في الأحداث، فهي الأم التي تضحي بنفسها وتطلق لدى الابن "ضرغام الأول" شرارة الثورة والانتقام، وهي الزوجة التي تعمل جنبًا إلى جنب مع زوجها لبناء وإعمار الربوة، وهي جزء من المقاومة التي تصدّت للشياطين ودحرتهم بزغاريدها المؤلمة. هي الأخت التي تستمع لبوح أخيها، والأم التي تستميت في إعلاء الجانب البشري على نزعات الشيطنة وهي العاشقة التي تسامح وتعفو وتصلح مفاسد النفس وتدرأ آثامها. ومن خلال هذا النموذج، مرّر الكاتب فلسفته التي ترسّخ مفهوم الحب وقدرته على تهذيب النفس واستعادة إنسانيتها والانتصار على نوازع الشر فيها.
اختار الكاتب لشخوصه أسماء تتصل بالطبيعة الخيالية للنص مثل "زلنبح"، "شينكا"، "حوحو"، "تايرو"، "خنزب"، "كروب" و"سفساف"، وفي مواضع أخرى من السرد كان فيها الواقع أكثر حضورًا، تخيَّر الكاتب لشخوصه أسماء لها دلالات حية، جاء بعضها متّسقًا مع معناه مثل "عصفة" الفاتنة التي سلبت فتنتها عقل الشيطان وعصفت به، "محفوظة" التي حافظت الأم على حياتها بالتضحيات الثمينة، "ظريفة" المرأة السمحة التي لا تحمل حقداً ولا ضغينة. بينما حملت أسماء أخرى دلالات عكسية مثل "حلالي" الماجنة و"مكين" الضعيف. واستمراراً لاستخدام الدلالة، لجأ الكاتب إلى الأحلام والكوابيس ليبرز من خلالها الجانب الإنساني من شخصية "زلنبح" وجلده لذاته ورفض عقله الباطن لكل سلوك يحرّضه عليه عقله الواعي. ولم تبثّ أحلام الشخصية المحورية في النص الدلالات وحسب، وإنما عزَّزت الجانب الخرافي من الأحداث الذي ينسجم مع الخط العام للسرد وأضفت عليه مزيداً من المتعة والتشويق. الألوان أيضاً كانت إحدى أدوات الكاتب الرمزية التي أجاد توظيفها داخل النص، فشخوصه الشيطانية ترتدي اللون الأحمر ذا الدلالة النارية لتؤكد طاقة الشر والهيمنة، و"زلنبح" حين يركن إلى نصفه الشيطاني لا يرتدي سوى الأحمر، وفي طريقه لاستعادة إنسانيته، يتخلّى عن هذا اللون.
حضور النهر
وإضافةً إلى ما استخدمه الكاتب من أدوات فنية كالدلالة والرمز، استعار الصورة السينمائية ليرسم شخوصه والبيئة المكانية للنص، فقد لعبت هذه الصورة الدور الوحيد في الإخبار عن القرى التي كانت المجال المكاني للأحداث، حيث لم يخبر السرد عن أسماء تلك القرى، بينما أفصحت الصورة التي رسمها الكاتب عبر وصف بارع للمناخ، الشخوص، والأبنية عن ماهية المكان وربما أتاح الكاتب للقارئ عبرها إمكانية تحديد هذه الأماكن ومواقعها على الخريطة. ولم تقف التقنيات البصرية عند حدود تصوير الحيّز المكاني والشخوص، وإنما نقلت أيضاً الأحداث ذاتها، لا سيما الخيالي منها والأكثر صعوبة في الاستدعاء كمهرجانات وأعياد الشياطين، محاكماتهم، وحروبهم ضد البشر. وخلاف التقنيات البصرية، تخلّلت السرد تقنية المونولوغ المسرحي ليضفي الكاتب -من خلالها- على نسيجه الروائي كثيراً من الحركة والديناميكية والطزاجة. وكان لاعتماده في مواضع متفرقة من العمل على المونولوغ الداخلي أثر في كشف معالم الشخصيات وبواطنها ورصد انفعالاتها، قلقها وأنينها. وعبر كل هذا الزخم الإبداعي، طرح الكاتب تساؤلات جدلية حول ماهية الخطأ والصواب، الجناة والمجني عليهم، عن مسامحة الآخر ومسامحة الذات ليمرّر بالفانتازيا وطبيعة السرد الخيالية، فلسفاته الخاصة التي تعكس إيمانه بدور الخيال في صناعة الوعي وتشكيل منظومة القيم. وقد اعتمد الكاتب نهاية مفتوحة تتّسق ومعطيات النص وتسمح للمتلقي بالمشاركة في الفعل الإبداعي، ومن جهة أخرى تُنبئ باستمرار الصراع في أحداث جديدة ربما تقع في مخيلة القارئ هناك، خلف الصفحة الأخيرة من النص.
وتمثل رواية "زلنبح" امتدادًا لأدب حجاج أدول الذي يكتسي "في غالبيته" بالخيال ويصطبغ بالطابع الأسطوري وتتجلّى فيه الثقافة النوبية (التي لم تحضر في روايته الأخيرة بشكل مباشر) باستدعاء النوبة استدعاءً صريحاً في النص كمسرح للأحداث كما هي الحال في مجموعته القصصية "ليالي المسك العتيقة"، أو رواية "خالي جاءه المخاض" على سبيل المثال. في "زلنبح" استدعاء غير مباشر للثقافة الشعبية النوبية التي تتمسك باعتقادات خاصة عن عوالم الجن والشياطين، هذه العوالم السحرية التي كانت بمثابة قاسم مشترك يربط كثيراً من أعمال أدول الأدبية، ومنها "انتقام الأبله" و"حكاية سمكة الصياد" و"مأساة الملك علوي" و"الأمير دهشان والجارية الطيبة" و"بهاء الدين السقا في بلاد الغيلان" و"رحلة السندباد الأخيرة" و"كشر" و"بلدة ترمس"، ومسرحيات "ناس النهر" و"النزلاية" و"إغراق عنخ"، وغيرها من أعمال عبّرت عن الطابع الخيالي ذاته وإن كان الكاتب يصدره بكونه حقائق واقعة يصدقها ويؤمن بها وإن تلقّاها العقل الجمعي بصيغة الأسطورة.
تتماسّ رواية "زلنبح" كذلك مع غيرها من أعمال حجاج أدول في حضور النهر كعنصر رئيس في السرد ولاعب مؤثر في اتجاه سير وتطور الأحداث، فكان اللبنة الأساسية والأداة الناجعة التي استخدمها بعض شخوص الكاتب داخل النص للفرار من الذل والفقر والخنوع عبر إعادة زراعة الأرض وبناء مجتمع جديد باقتصاد قوي، ليكون أكثر تماسكاً وأكثر نظامية. وهكذا يصبح النهر طوق النجاة والخلاص والأمل، بما يشي بما له من قدسية ليست في هذا العمل أو في مجمل أعمال حجاج أدول وحسب وإنما في الأدب النوبي عمومًا، ومن رموزه محمد خليل قاسم وإدريس علي ويحيى مختار ومحمد خليل ويحيى إدريس وحسن نور.
استمرت الثقافة النوبية تطلّ في رواية "زلنبح" برأسها بشكل ضمني غير مباشر، إذ تخلّل النسيج الروائي بعض الطقوس التي طالما اهتم واحتفى بها المجتمع النوبي، مثل الرقص والأعياد والمهرجانات والأعراس. أما اللغة التي اعتمدها الكاتب، فكانت الفصحى السلسة شديدة العذوبة كثيفة الدلالة، كما كانت دائمًا في كل نصوص حجاج أدول وكان يبرز دومًا خلالها ارتفاع الحس الإنساني الذي يعبّر بصورة أو بأخرى عن المجتمع النوبي ويميّز أهله بشكل خاص.
عوالم من الفانتازيا والعجائبية ينسجها الكاتب المصري النوبي حجاج أدول (1944) باقتدار ليصنع خطًّا مختلفًا من السرد يحمل بصمته الخاصة، في نصوص يتقاطع فيها الواقع مع الخيال والخرافة مع الحقيقة، فتكتسي أعماله بالمتعة والإثارة والتشويق.
ويتجلى ذلك في روايته الأحدث "زلنبح" (دار بدائل للنشر والتوزيع، القاهرة) التي ينطلق فيها الكاتب من حكاية محورية تدور حول "عصفة"، زوجة العمدة الفاتنة، وطاسة الزيت المغلي التي سكبتها برعونة على شجرة الشياطين، فكان ما كان.
معاناة مكررة
من هذه الحكاية المحورية يعود أدول إلى أحداث تعاقبت عليها السنوات، مجسّدًا معاناة الإنسان المكررة، في دائرة مغلقة من الظلم الاجتماعي والقمع والبطش. يستمر السرد في نطاق زمني ممتد عبر أجيالٍ متعاقبة حتى يصل إلى الحكاية المحورية ذاتها "عصفة وطاسة الزيت المغلي"، ليتمم أركان الحكاية وتبلغ العقدة ذروتها ثم تتوالد منها وتتناسل الحكايات، ويكون "زلنبح" (ابن عصفة من الشيطان) قاسمًا مشتركًا وبطلاً محوريًّا فيها جميعها.
تبدأ هذه الرحلة الغرائبية بقتل الفتى الطيب الضخم، ثم يموت "الأصفهاني"، المخنث وتابعه القواد، حرقًا، وعبر هاتين الحكايتين وغيرهما، يطأ الكاتب قروح الواقع ويُظهر وجهه القبيح الذي تطلّ منه الجريمة بشتى صورها.
يجسّد النص جوهر الصراع بين متناقضات العالم وأيضًا متناقضات النفس الواحدة، فيطرح زحامًا من هذه المتناقضات، بدا بعضها في البيئية المكانية للنص التي كانت تحمل في طياتها الثراء الفاحش والفقر المدقع، الشجاعة والاستكانة، المروءة والخسة، ثم ينقل السرد حالة الصراع التي تحدث داخل النفس البشرية ذاتها، بين نوازعها الدنيئة وضميرها الحي. ويبلغ الصراع ذروته عبر الشخصية المحورية "زلنبح" المنقسمة إلى نصفين: أحدهما شيطاني بانتمائه إلى "زلنبح" الشيطان الأب، والآخر إنساني ينتمي إلى "عصفة" الأم، ليكابد ويلات هذا الانقسام الذي يسفر عن شتاتٍ يضيع في دواماته عند محاولة كل قسم منه الانتصار على الآخر. وعلى الرغم من الطبيعة الغرائبية للشخصية وانتمائها إلى عوالم الخيال، فإنها ليست بعيدة تمامًا من جوهر الإنسان المتأرجح بين الخير والشر، بين نزعاته الناقصة ولومه لتلك النزعات محاولاً التسامي عنها.
تلعب المرأة دورًا محوريًّا في الأحداث، فهي الأم التي تضحي بنفسها وتطلق لدى الابن "ضرغام الأول" شرارة الثورة والانتقام، وهي الزوجة التي تعمل جنبًا إلى جنب مع زوجها لبناء وإعمار الربوة، وهي جزء من المقاومة التي تصدّت للشياطين ودحرتهم بزغاريدها المؤلمة. هي الأخت التي تستمع لبوح أخيها، والأم التي تستميت في إعلاء الجانب البشري على نزعات الشيطنة وهي العاشقة التي تسامح وتعفو وتصلح مفاسد النفس وتدرأ آثامها. ومن خلال هذا النموذج، مرّر الكاتب فلسفته التي ترسّخ مفهوم الحب وقدرته على تهذيب النفس واستعادة إنسانيتها والانتصار على نوازع الشر فيها.
اختار الكاتب لشخوصه أسماء تتصل بالطبيعة الخيالية للنص مثل "زلنبح"، "شينكا"، "حوحو"، "تايرو"، "خنزب"، "كروب" و"سفساف"، وفي مواضع أخرى من السرد كان فيها الواقع أكثر حضورًا، تخيَّر الكاتب لشخوصه أسماء لها دلالات حية، جاء بعضها متّسقًا مع معناه مثل "عصفة" الفاتنة التي سلبت فتنتها عقل الشيطان وعصفت به، "محفوظة" التي حافظت الأم على حياتها بالتضحيات الثمينة، "ظريفة" المرأة السمحة التي لا تحمل حقداً ولا ضغينة. بينما حملت أسماء أخرى دلالات عكسية مثل "حلالي" الماجنة و"مكين" الضعيف. واستمراراً لاستخدام الدلالة، لجأ الكاتب إلى الأحلام والكوابيس ليبرز من خلالها الجانب الإنساني من شخصية "زلنبح" وجلده لذاته ورفض عقله الباطن لكل سلوك يحرّضه عليه عقله الواعي. ولم تبثّ أحلام الشخصية المحورية في النص الدلالات وحسب، وإنما عزَّزت الجانب الخرافي من الأحداث الذي ينسجم مع الخط العام للسرد وأضفت عليه مزيداً من المتعة والتشويق. الألوان أيضاً كانت إحدى أدوات الكاتب الرمزية التي أجاد توظيفها داخل النص، فشخوصه الشيطانية ترتدي اللون الأحمر ذا الدلالة النارية لتؤكد طاقة الشر والهيمنة، و"زلنبح" حين يركن إلى نصفه الشيطاني لا يرتدي سوى الأحمر، وفي طريقه لاستعادة إنسانيته، يتخلّى عن هذا اللون.
حضور النهر
وإضافةً إلى ما استخدمه الكاتب من أدوات فنية كالدلالة والرمز، استعار الصورة السينمائية ليرسم شخوصه والبيئة المكانية للنص، فقد لعبت هذه الصورة الدور الوحيد في الإخبار عن القرى التي كانت المجال المكاني للأحداث، حيث لم يخبر السرد عن أسماء تلك القرى، بينما أفصحت الصورة التي رسمها الكاتب عبر وصف بارع للمناخ، الشخوص، والأبنية عن ماهية المكان وربما أتاح الكاتب للقارئ عبرها إمكانية تحديد هذه الأماكن ومواقعها على الخريطة. ولم تقف التقنيات البصرية عند حدود تصوير الحيّز المكاني والشخوص، وإنما نقلت أيضاً الأحداث ذاتها، لا سيما الخيالي منها والأكثر صعوبة في الاستدعاء كمهرجانات وأعياد الشياطين، محاكماتهم، وحروبهم ضد البشر. وخلاف التقنيات البصرية، تخلّلت السرد تقنية المونولوغ المسرحي ليضفي الكاتب -من خلالها- على نسيجه الروائي كثيراً من الحركة والديناميكية والطزاجة. وكان لاعتماده في مواضع متفرقة من العمل على المونولوغ الداخلي أثر في كشف معالم الشخصيات وبواطنها ورصد انفعالاتها، قلقها وأنينها. وعبر كل هذا الزخم الإبداعي، طرح الكاتب تساؤلات جدلية حول ماهية الخطأ والصواب، الجناة والمجني عليهم، عن مسامحة الآخر ومسامحة الذات ليمرّر بالفانتازيا وطبيعة السرد الخيالية، فلسفاته الخاصة التي تعكس إيمانه بدور الخيال في صناعة الوعي وتشكيل منظومة القيم. وقد اعتمد الكاتب نهاية مفتوحة تتّسق ومعطيات النص وتسمح للمتلقي بالمشاركة في الفعل الإبداعي، ومن جهة أخرى تُنبئ باستمرار الصراع في أحداث جديدة ربما تقع في مخيلة القارئ هناك، خلف الصفحة الأخيرة من النص.
وتمثل رواية "زلنبح" امتدادًا لأدب حجاج أدول الذي يكتسي "في غالبيته" بالخيال ويصطبغ بالطابع الأسطوري وتتجلّى فيه الثقافة النوبية (التي لم تحضر في روايته الأخيرة بشكل مباشر) باستدعاء النوبة استدعاءً صريحاً في النص كمسرح للأحداث كما هي الحال في مجموعته القصصية "ليالي المسك العتيقة"، أو رواية "خالي جاءه المخاض" على سبيل المثال. في "زلنبح" استدعاء غير مباشر للثقافة الشعبية النوبية التي تتمسك باعتقادات خاصة عن عوالم الجن والشياطين، هذه العوالم السحرية التي كانت بمثابة قاسم مشترك يربط كثيراً من أعمال أدول الأدبية، ومنها "انتقام الأبله" و"حكاية سمكة الصياد" و"مأساة الملك علوي" و"الأمير دهشان والجارية الطيبة" و"بهاء الدين السقا في بلاد الغيلان" و"رحلة السندباد الأخيرة" و"كشر" و"بلدة ترمس"، ومسرحيات "ناس النهر" و"النزلاية" و"إغراق عنخ"، وغيرها من أعمال عبّرت عن الطابع الخيالي ذاته وإن كان الكاتب يصدره بكونه حقائق واقعة يصدقها ويؤمن بها وإن تلقّاها العقل الجمعي بصيغة الأسطورة.
تتماسّ رواية "زلنبح" كذلك مع غيرها من أعمال حجاج أدول في حضور النهر كعنصر رئيس في السرد ولاعب مؤثر في اتجاه سير وتطور الأحداث، فكان اللبنة الأساسية والأداة الناجعة التي استخدمها بعض شخوص الكاتب داخل النص للفرار من الذل والفقر والخنوع عبر إعادة زراعة الأرض وبناء مجتمع جديد باقتصاد قوي، ليكون أكثر تماسكاً وأكثر نظامية. وهكذا يصبح النهر طوق النجاة والخلاص والأمل، بما يشي بما له من قدسية ليست في هذا العمل أو في مجمل أعمال حجاج أدول وحسب وإنما في الأدب النوبي عمومًا، ومن رموزه محمد خليل قاسم وإدريس علي ويحيى مختار ومحمد خليل ويحيى إدريس وحسن نور.
استمرت الثقافة النوبية تطلّ في رواية "زلنبح" برأسها بشكل ضمني غير مباشر، إذ تخلّل النسيج الروائي بعض الطقوس التي طالما اهتم واحتفى بها المجتمع النوبي، مثل الرقص والأعياد والمهرجانات والأعراس. أما اللغة التي اعتمدها الكاتب، فكانت الفصحى السلسة شديدة العذوبة كثيفة الدلالة، كما كانت دائمًا في كل نصوص حجاج أدول وكان يبرز دومًا خلالها ارتفاع الحس الإنساني الذي يعبّر بصورة أو بأخرى عن المجتمع النوبي ويميّز أهله بشكل خاص.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.