تفاصيل قطع المياه لمدة 6 ساعات في المنطقة المحصورة بين الهرم وفيصل بالجيزة    تارا عماد تفاجئ جمهور حفل ويجز.. وتشاركه أغنية "أميرة" فى مهرجان العلمين    العلمين الجديدة.. الجمهور يطلب من ويجز أغانيه القديمة ويمازحهم: أنا ديمقراطي وهغني الجديد    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    فلسطين.. مدفعية الاحتلال تكثف قصفها وسط جباليا بالتزامن مع نسف مباني سكنية شمالي غزة    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    الإنتاج الحربي يستهل مشواره بالفوز على راية الرياضي في دوري المحترفين    المستشار القانوني للزمالك يتحدث عن.. التظلم على سحب أرض أكتوبر.. وأنباء التحقيق مع إدارة النادي    بهدف رويز.. باريس سان جيرمان ينجو من فخ أنجيه في الدوري الفرنسي    مواعيد مباريات دوري المحترفين المصري اليوم السبت    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    ابنة سيد مكاوي عن شيرين عبدالوهاب: فقدت تعاطفي بسبب عدم مسؤوليتها    5 تصريحات جريئة ل محمد عطية: كشف تعرضه للضرب من حبيبة سابقة ويتمنى عقوبة «مؤلمة» للمتحرشين    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    تنسيق الشهادات المعادلة 2025، قواعد قبول طلاب الثانوية السعودية بالجامعات المصرية    في ظهوره الأول مع تشيلسي، إستيفاو ويليان يدخل التاريخ في الدوري الإنجليزي (فيديو)    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    في لحظات.. شقة تتحول إلى ساحة من اللهب والدخان    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    قطع المياه عن بعض المناطق بأكتوبر الجديدة لمدة 6 ساعات    خطة عاجلة لتحديث مرافق المنطقة الصناعية بأبو رواش وتطوير بنيتها التحتية    تحت عنوان كامل العدد، مدحت صالح يفتتح حفله على مسرح المحكي ب "زي ما هي حبها"    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    خيرى حسن ينضم إلى برنامج صباح الخير يا مصر بفقرة أسبوعية على شاشة ماسبيرو    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    نجاح عملية جراحية دقيقة لاستئصال ورم ليفي بمستشفى القصاصين فى الإسماعيلية    نتيجة تنسيق رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي الأزهر الشريف 2025 خلال ساعات.. «رابط مباشر»    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    القضاء على بؤرة إجرامية خطرة بأشمون خلال تبادل النار مع قوات الشرطة    ضبط 1954 مخالفة ورفع كفاءة طريق «أم جعفر – الحلافي» ورصف شارع الجيش بكفر الشيخ    أخبار × 24 ساعة.. موعد انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس الدولية والرسمية    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. الدفاع الروسية: سيطرنا على 9 بلدات فى أوكرانيا خلال أسبوع .. وزيرة خارجية سلوفينيا: المجاعة مرحلة جديدة من الجحيم فى غزة.. إسرائيل عطلت 60 محطة تحلية مياه فى غزة    منها الإقلاع عن التدخين.. 10 نصائح للحفاظ على صحة عينيك مع تقدمك فى العمر (تعرف عليها)    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التأمل لدى المبدعين.. طقوس وسلوك
نشر في صوت البلد يوم 24 - 09 - 2019

التأمل هو سمة المبدع الذي يفكر كثيراً في تفاصيل الأشياء، ويحاول أن يستلهم فكرة أو قصة، أو قصيدة تُعبّر عن الموقف الذي ظل يتأمله، ونحن نعلم أن للشعراء والأدباء طقوسهم الخاصة في التأمل والكتابة، وقد عرفنا عن الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ، أنه كان يطيب له تأمل الناس من حوله في البيئات الشعبية، بينما كان يجلس على المقهى في حالة وجدانية مع ذاته، وكذلك هناك قصص كثيرة عن حالات التأمل لدى الأدباء، ونحن هنا نتساءل: هل لهذا التأمل طقوس وسلوك خاصة به؟.
تجيب الكاتبة الروائية سلوى بكر: نعم الكاتب أو المبدع له طقوس وسلوك يتفرّد به عن الآخرين، وأن هذه السلوكيات هي جزء من عملية الإبداع الخاصة به، فكثيراً ما نجد المبدع يكون شارد الذهن أو مُتأملاً في عالم خاص به، فإن المبدع يرى أشياء يكون العامة غافلين عنها، كما أنه يفطن لأفعال لم يهتدِ إليها غيره من الناس، كما أن المبدع كثيراً ما يكون في حالة حوار مع صوته الداخلي، يناقشه في أدق تفاصيل عمله الإبداعي، فيخيّل كل مَنْ حوله أنه شارد الزهن، وقد تتطوّر هذه المناقشة إلى حِدة في المناقشة فيعلو صوته الداخلي، وفي هذه الحالة يصدر المبدع انفعالات حادة وأصوات غريبة، فيعتقد مَنْ حوله أنه يُعاني حالات نفسية أو آلام أمراض.
وتضيف: المبدع دائماً في حالة صراع مع نفسه، ويكون دائماً في حالة تفكير وتأمل لما يدور حوله، وفي هذه الحالة لا يكون المبدع مُهتماً كثيراً بما يدور خارج حدود فكره في تلك اللحظة، وهذا السلوك هو ليس سلوكاً خاصاً بالأدباء وحدهم، وإنما هو سلوك يتميّز به جميع المبدعين والعباقرة، فهذا الشرود ما هو إلا بداية لعمل إبداعي جديد، أو حبكة درامية أو خاتمة هادفة لمؤلف أدبي، أو لوحة جميلة لرسَّام تشكيلي، فقد يعتقد البعض أن الشرود عند هؤلاء العباقرة، ما هو إلا مرض نفسي أو ألم عضوي يُعاني منه هذا الشخص البائس، أو حالة هروب من واقع مليء بالمشاكل والصدمات، وهذا ليس بصحيح؛ لأن شرود المبدع هو في حالة إمعان في التعامُل مع الواقع وإعمال الفكر في هذا الواقع، فهو دائماً في حالة إيجابية؛ لأنه يركّز على تفاصيل الحياة اليومية بمنظور المبدع وليس الشخص العادي، فمُعظم المشتغلين بالإبداع يحاولون التفرُّغ للإبداع، والشرود الذهني لديهم شيء طبيعي جداً، وأنا أُعاني منه كثيراً وأكون في مُنتهى السعادة بشرودي، إذا كانت نتيجة شرودي هذا خلق إبداع مُتميّز، وهناك اختلاف كبير بين المبدع والمجنون؛ فالمبدع ينشد مُجتمعاً، ويطالب بتغيير ما يرفضه الجميع، وليس ما يرفضه هو فقط، فدوره هنا إيجابي، أما المجنون فهو شخص مريض، شارد الذهن في لا شيء، فهو شخص والعدم سواء.
الخيال الخلاق
ويقول الشاعر فاروق جويدة عن حالات التأمل والشرود: إنه نوع من التأمل والخيال المنتج الخلاق، فهذا الشرود هو سياج يلتف حول المبدع، يعزله عن عالم الواقع كثيراً، ويجعله دائماً في عالم من الحلم الجميل، ويساعده على الإبداع، ومع هذا فليس من المعقول، أن ينسى الشاعر نفسه بصفته إنساناً له علاقات إنسانية مع غيره، وله تواصُل مُستمر مع عالم من حوله، وهذه العلاقات لا تنمو ولا تزدهر في عالم خفي من اللاوعي، ولكنها تتطلب الوعي الكامل لاستمرارها؛ لهذا فإن المبدع يتمتّع بشخصيتين مُتلازمتين، الأولى: يستحضرها قبل عملية الإبداع وخلالها، والثانية: شخصية إنسان عادي يمارس حياته العامة وعلاقاته الاجتماعية.
ويضيف: هذا الشرود لا يُعد مُعاناة من حالة نفسية مرضية أو ألم عضوي أو هروباً من الواقع، ولكنها مُحاولة خلاقة لتحويل الواقع المعاش إلى حلم جميل، وتحويل هذا الحلم إلى واقع حي وملموس، فحينما يبدع الأديب أو الشاعر قصيدة شعرية، فإنه يتقمّص الواقع ويلج به في عباب الخيال، فيخيّل للناس أنه في حالة شرود ذهني، وحينما تصل القصيدة إلى الجمهور، يُفاجأ القارئ أن هذه القصيدة تعبير عن حواس داخلية للشاعر، فهي تبرز هذه الحواس الداخلية والأحلام غير المرئية في صور واقعية طاهرة، فالإبداع ما هو إلا حلم جميل يعيشه المبدع من خلال شرود ظاهر، ولكنه مُمتع ومُبدع.
سلوك التأمل
ويقول الكاتب الروائي يوسف القعيد عن التأمل: إنه مصدر الإبداع، وهو لحظات تلهم الأديب وتحفّزه إلى الكتابة، وأن يُعبّر عن مشاعر الناس وأفكارهم، من خلال مُلاحظاته الدقيقة التي تُسمى التأمل، وأنا كل كتاباتي نتاج لحظات من التأمل، أثناء وجودي في قريتي وأنا أُشاهد الفلاحين والأطفال وأُتابع مشاكلهم، وأُحاورهم عن آمالهم وأحلامهم في الحياة.
ولا يوجد إبداع دون تأمل؛ لأن لحظة التأمل هي تفكير عميق في مُشكلة، أو مشهد يبدو أمام الناس جميعاً أنه عادي، أما بالنسبة للأديب فليس عادياً إطلاقاً، ولذلك التأمل من سمات طقوس الكتابة، فليس هناك مَنْ يكتب دون حافز أو دون موضوع يُثيره ويدفعه للكتابة، وفي الحقيقة الرسَّام والمصوّر والنحَّات والشاعر والأديب والقاص، كل هؤلاء لهم حالات خاصة في التأمل؛ لأن هذا التأمل هو سلوك إنساني إبداعي لا يمكن إغفاله.
التأمل هو أهم وأقوى أداة من أدوات المبدع، كما يرى الشاعر عنتر هلال، والذي يعرّف التأمل بأنه لغة العقل، الذي تمكّنه من البحث عن الحكمة واستنباط الحقيقة من بين السطور، واكتشاف المكنون من وراء الظاهر، موضحاً أن المبدع له نظرة ثاقبة وأعمق داخل الأشياء، تختلف عن النظرة السطحية للإنسان العادي.
ويضيف هلال: التأمل هو المادة الخام للمبدع، والتي تمكّنه من أن يرى ما لا يراه الآخرون، ويصل به إلى استقراء المستقبل وتوقّع ما يحدث، وتابع: التأمل يعطي المبدع طاقة إيجابية تجعله في حالة ترفّع وسمو روحي، مؤكداً أن المبدع بلا تأمل هو مفلس غير قادر على الإبداع.
الشاعر البحريني على الشرقاوي يقول : التأمل أن تعيش حالة من حالات النشوة ؛ كأنها ما قبل النوم بمعنى أن تكون في هذه الخالة لديك فكرة واحدة وهذه الفكرة تستحوذ عليك ولذلك من خلال التركيز على عليها فتدخلك عوالم لا نهاية لها ؛ مما تستطيع أن ترى ما يرى وتشم ملا يشم ووتتذوق ما لايتذوق في لحظة التأمل أنت تستطيع أنت تمتلك العالم والذهاب الى أي منطقة ترغب في الذهاب . في لحظة التأمل لا وجود للماضي ولا المستقبل فقط اللحظى الحاضرة والتي تعني كل الكون .
وعن تجربته في التأمل أثناء كتابة القضيدة يقول الشرقاوي :في لحظة الكتابة استبعد كل ما ليس له بالموضوع الذي اشتغل عليه وبهذا أكتب بتدفق بالضبط كما هي حالة النهر في جريانه نحو الاماكن التي تنتظره .
ويرى الكاتب والمسرحي البحريني خالد الرويعي : أنه ليس كل تأمل يفضي إلى نتيجة ابداعية .. أحيانا التأمل يكون نوعا من أنواع البذخ والخوف أن يكون مسلك التأمل ماهو إلا مسلك تقليدي ورناه عن حالات المبدعين على مر العصور ونكون بذلك وقعنا في فخ الوهم .. التأمل إن لم يكن مشبعا بحالات الهم الابداعيويكون محملا بالبصيرة سيغدو أشبه بلحظة استرخاء لا أكثر .
ويضيف : بالنسبة للمبدع التأمل هي حالة من حالات الابداع كالقراءة والكتابة ؛ فالابداع لا يستقيم الا بالتأمل . فأنت عندما تبدع تصل الى حالة من حالات التجلي أشبه ماتكون برفع الغطاء من العادي والمألوف .
صور اللاوعي
ويرى د.محمد نجيب أحمد الصبوة، أستاذ علم النفس الإكلينيكي بجامعة القاهرة، أن المبدع كالشاعر مثلاً، يستحضر غالبية مؤثراته وانفعالاته من اللاوعي، ويتمثّل هنا في حالة الشرود الذهني، فعندما يبدأ الشاعر عملية النظم التي يختار فيها الألفاظ التي تُعبّر عن المعاني المطلوبة، وتنسيقها لتصبح وزناً مُعيّناً وقافية مُعيّنة، يكون في حالة الوعي الكامل، ولكنه في الحالات الشعورية الحادة التي تمتاز بشِدة التأثر وقوة الانفعال، قد تتم عملية النظم ذاتها بلا وعي، وفي هذه الحالة يتولى هذا الانفعال الشديد استدعاء الألفاظ والعبارات بطريقة تلقائية، وهذه هي أجمل لحظات الشعر عند الشعراء.
وأكد الصبوة، أن هذه الحالة من الانفعال قد تبلغ أحياناً درجة من التوقد الإبداعي، بحيث يغمر إحساس الأديب ويتخلله النشوة أو غيبوبة من اللاوعي، فتأتي الألفاظ والعبارات مُتناسقة مُتناغمة، وقد يتعجّب الشاعر حين يعود إلى طبيعته، ويقول كيف خرجت هذه الألفاظ والعبارات وكيف أتممتُ صَوْغها؟ وهنا نقول: إن الشرود الذهني ما هو إلا حالات اللاوعي عند المبدع تنتاب الأديب، ولكنه في الغالب يكون في حالة يقظة كاملة مُستمتعاً بالشرود والمعاناة معاً.
خدمة ( وكالة الصحافة العربية )
التأمل هو سمة المبدع الذي يفكر كثيراً في تفاصيل الأشياء، ويحاول أن يستلهم فكرة أو قصة، أو قصيدة تُعبّر عن الموقف الذي ظل يتأمله، ونحن نعلم أن للشعراء والأدباء طقوسهم الخاصة في التأمل والكتابة، وقد عرفنا عن الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ، أنه كان يطيب له تأمل الناس من حوله في البيئات الشعبية، بينما كان يجلس على المقهى في حالة وجدانية مع ذاته، وكذلك هناك قصص كثيرة عن حالات التأمل لدى الأدباء، ونحن هنا نتساءل: هل لهذا التأمل طقوس وسلوك خاصة به؟.
تجيب الكاتبة الروائية سلوى بكر: نعم الكاتب أو المبدع له طقوس وسلوك يتفرّد به عن الآخرين، وأن هذه السلوكيات هي جزء من عملية الإبداع الخاصة به، فكثيراً ما نجد المبدع يكون شارد الذهن أو مُتأملاً في عالم خاص به، فإن المبدع يرى أشياء يكون العامة غافلين عنها، كما أنه يفطن لأفعال لم يهتدِ إليها غيره من الناس، كما أن المبدع كثيراً ما يكون في حالة حوار مع صوته الداخلي، يناقشه في أدق تفاصيل عمله الإبداعي، فيخيّل كل مَنْ حوله أنه شارد الزهن، وقد تتطوّر هذه المناقشة إلى حِدة في المناقشة فيعلو صوته الداخلي، وفي هذه الحالة يصدر المبدع انفعالات حادة وأصوات غريبة، فيعتقد مَنْ حوله أنه يُعاني حالات نفسية أو آلام أمراض.
وتضيف: المبدع دائماً في حالة صراع مع نفسه، ويكون دائماً في حالة تفكير وتأمل لما يدور حوله، وفي هذه الحالة لا يكون المبدع مُهتماً كثيراً بما يدور خارج حدود فكره في تلك اللحظة، وهذا السلوك هو ليس سلوكاً خاصاً بالأدباء وحدهم، وإنما هو سلوك يتميّز به جميع المبدعين والعباقرة، فهذا الشرود ما هو إلا بداية لعمل إبداعي جديد، أو حبكة درامية أو خاتمة هادفة لمؤلف أدبي، أو لوحة جميلة لرسَّام تشكيلي، فقد يعتقد البعض أن الشرود عند هؤلاء العباقرة، ما هو إلا مرض نفسي أو ألم عضوي يُعاني منه هذا الشخص البائس، أو حالة هروب من واقع مليء بالمشاكل والصدمات، وهذا ليس بصحيح؛ لأن شرود المبدع هو في حالة إمعان في التعامُل مع الواقع وإعمال الفكر في هذا الواقع، فهو دائماً في حالة إيجابية؛ لأنه يركّز على تفاصيل الحياة اليومية بمنظور المبدع وليس الشخص العادي، فمُعظم المشتغلين بالإبداع يحاولون التفرُّغ للإبداع، والشرود الذهني لديهم شيء طبيعي جداً، وأنا أُعاني منه كثيراً وأكون في مُنتهى السعادة بشرودي، إذا كانت نتيجة شرودي هذا خلق إبداع مُتميّز، وهناك اختلاف كبير بين المبدع والمجنون؛ فالمبدع ينشد مُجتمعاً، ويطالب بتغيير ما يرفضه الجميع، وليس ما يرفضه هو فقط، فدوره هنا إيجابي، أما المجنون فهو شخص مريض، شارد الذهن في لا شيء، فهو شخص والعدم سواء.
الخيال الخلاق
ويقول الشاعر فاروق جويدة عن حالات التأمل والشرود: إنه نوع من التأمل والخيال المنتج الخلاق، فهذا الشرود هو سياج يلتف حول المبدع، يعزله عن عالم الواقع كثيراً، ويجعله دائماً في عالم من الحلم الجميل، ويساعده على الإبداع، ومع هذا فليس من المعقول، أن ينسى الشاعر نفسه بصفته إنساناً له علاقات إنسانية مع غيره، وله تواصُل مُستمر مع عالم من حوله، وهذه العلاقات لا تنمو ولا تزدهر في عالم خفي من اللاوعي، ولكنها تتطلب الوعي الكامل لاستمرارها؛ لهذا فإن المبدع يتمتّع بشخصيتين مُتلازمتين، الأولى: يستحضرها قبل عملية الإبداع وخلالها، والثانية: شخصية إنسان عادي يمارس حياته العامة وعلاقاته الاجتماعية.
ويضيف: هذا الشرود لا يُعد مُعاناة من حالة نفسية مرضية أو ألم عضوي أو هروباً من الواقع، ولكنها مُحاولة خلاقة لتحويل الواقع المعاش إلى حلم جميل، وتحويل هذا الحلم إلى واقع حي وملموس، فحينما يبدع الأديب أو الشاعر قصيدة شعرية، فإنه يتقمّص الواقع ويلج به في عباب الخيال، فيخيّل للناس أنه في حالة شرود ذهني، وحينما تصل القصيدة إلى الجمهور، يُفاجأ القارئ أن هذه القصيدة تعبير عن حواس داخلية للشاعر، فهي تبرز هذه الحواس الداخلية والأحلام غير المرئية في صور واقعية طاهرة، فالإبداع ما هو إلا حلم جميل يعيشه المبدع من خلال شرود ظاهر، ولكنه مُمتع ومُبدع.
سلوك التأمل
ويقول الكاتب الروائي يوسف القعيد عن التأمل: إنه مصدر الإبداع، وهو لحظات تلهم الأديب وتحفّزه إلى الكتابة، وأن يُعبّر عن مشاعر الناس وأفكارهم، من خلال مُلاحظاته الدقيقة التي تُسمى التأمل، وأنا كل كتاباتي نتاج لحظات من التأمل، أثناء وجودي في قريتي وأنا أُشاهد الفلاحين والأطفال وأُتابع مشاكلهم، وأُحاورهم عن آمالهم وأحلامهم في الحياة.
ولا يوجد إبداع دون تأمل؛ لأن لحظة التأمل هي تفكير عميق في مُشكلة، أو مشهد يبدو أمام الناس جميعاً أنه عادي، أما بالنسبة للأديب فليس عادياً إطلاقاً، ولذلك التأمل من سمات طقوس الكتابة، فليس هناك مَنْ يكتب دون حافز أو دون موضوع يُثيره ويدفعه للكتابة، وفي الحقيقة الرسَّام والمصوّر والنحَّات والشاعر والأديب والقاص، كل هؤلاء لهم حالات خاصة في التأمل؛ لأن هذا التأمل هو سلوك إنساني إبداعي لا يمكن إغفاله.
التأمل هو أهم وأقوى أداة من أدوات المبدع، كما يرى الشاعر عنتر هلال، والذي يعرّف التأمل بأنه لغة العقل، الذي تمكّنه من البحث عن الحكمة واستنباط الحقيقة من بين السطور، واكتشاف المكنون من وراء الظاهر، موضحاً أن المبدع له نظرة ثاقبة وأعمق داخل الأشياء، تختلف عن النظرة السطحية للإنسان العادي.
ويضيف هلال: التأمل هو المادة الخام للمبدع، والتي تمكّنه من أن يرى ما لا يراه الآخرون، ويصل به إلى استقراء المستقبل وتوقّع ما يحدث، وتابع: التأمل يعطي المبدع طاقة إيجابية تجعله في حالة ترفّع وسمو روحي، مؤكداً أن المبدع بلا تأمل هو مفلس غير قادر على الإبداع.
الشاعر البحريني على الشرقاوي يقول : التأمل أن تعيش حالة من حالات النشوة ؛ كأنها ما قبل النوم بمعنى أن تكون في هذه الخالة لديك فكرة واحدة وهذه الفكرة تستحوذ عليك ولذلك من خلال التركيز على عليها فتدخلك عوالم لا نهاية لها ؛ مما تستطيع أن ترى ما يرى وتشم ملا يشم ووتتذوق ما لايتذوق في لحظة التأمل أنت تستطيع أنت تمتلك العالم والذهاب الى أي منطقة ترغب في الذهاب . في لحظة التأمل لا وجود للماضي ولا المستقبل فقط اللحظى الحاضرة والتي تعني كل الكون .
وعن تجربته في التأمل أثناء كتابة القضيدة يقول الشرقاوي :في لحظة الكتابة استبعد كل ما ليس له بالموضوع الذي اشتغل عليه وبهذا أكتب بتدفق بالضبط كما هي حالة النهر في جريانه نحو الاماكن التي تنتظره .
ويرى الكاتب والمسرحي البحريني خالد الرويعي : أنه ليس كل تأمل يفضي إلى نتيجة ابداعية .. أحيانا التأمل يكون نوعا من أنواع البذخ والخوف أن يكون مسلك التأمل ماهو إلا مسلك تقليدي ورناه عن حالات المبدعين على مر العصور ونكون بذلك وقعنا في فخ الوهم .. التأمل إن لم يكن مشبعا بحالات الهم الابداعيويكون محملا بالبصيرة سيغدو أشبه بلحظة استرخاء لا أكثر .
ويضيف : بالنسبة للمبدع التأمل هي حالة من حالات الابداع كالقراءة والكتابة ؛ فالابداع لا يستقيم الا بالتأمل . فأنت عندما تبدع تصل الى حالة من حالات التجلي أشبه ماتكون برفع الغطاء من العادي والمألوف .
صور اللاوعي
ويرى د.محمد نجيب أحمد الصبوة، أستاذ علم النفس الإكلينيكي بجامعة القاهرة، أن المبدع كالشاعر مثلاً، يستحضر غالبية مؤثراته وانفعالاته من اللاوعي، ويتمثّل هنا في حالة الشرود الذهني، فعندما يبدأ الشاعر عملية النظم التي يختار فيها الألفاظ التي تُعبّر عن المعاني المطلوبة، وتنسيقها لتصبح وزناً مُعيّناً وقافية مُعيّنة، يكون في حالة الوعي الكامل، ولكنه في الحالات الشعورية الحادة التي تمتاز بشِدة التأثر وقوة الانفعال، قد تتم عملية النظم ذاتها بلا وعي، وفي هذه الحالة يتولى هذا الانفعال الشديد استدعاء الألفاظ والعبارات بطريقة تلقائية، وهذه هي أجمل لحظات الشعر عند الشعراء.
وأكد الصبوة، أن هذه الحالة من الانفعال قد تبلغ أحياناً درجة من التوقد الإبداعي، بحيث يغمر إحساس الأديب ويتخلله النشوة أو غيبوبة من اللاوعي، فتأتي الألفاظ والعبارات مُتناسقة مُتناغمة، وقد يتعجّب الشاعر حين يعود إلى طبيعته، ويقول كيف خرجت هذه الألفاظ والعبارات وكيف أتممتُ صَوْغها؟ وهنا نقول: إن الشرود الذهني ما هو إلا حالات اللاوعي عند المبدع تنتاب الأديب، ولكنه في الغالب يكون في حالة يقظة كاملة مُستمتعاً بالشرود والمعاناة معاً.
خدمة ( وكالة الصحافة العربية )


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.