التأمل هو سمة المبدع الذي يفكر كثيراً في تفاصيل الأشياء، ويحاول أن يستلهم فكرة أو قصة، أو قصيدة تُعبّر عن الموقف الذي ظل يتأمله، ونحن نعلم أن للشعراء والأدباء طقوسهم الخاصة في التأمل والكتابة، وقد عرفنا عن الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ، أنه كان يطيب له تأمل الناس من حوله في البيئات الشعبية، بينما كان يجلس على المقهى في حالة وجدانية مع ذاته، وكذلك هناك قصص كثيرة عن حالات التأمل لدى الأدباء، ونحن هنا نتساءل: هل لهذا التأمل طقوس وسلوك خاصة به؟. تجيب الكاتبة الروائية سلوى بكر: نعم الكاتب أو المبدع له طقوس وسلوك يتفرّد به عن الآخرين، وأن هذه السلوكيات هي جزء من عملية الإبداع الخاصة به، فكثيراً ما نجد المبدع يكون شارد الذهن أو مُتأملاً في عالم خاص به، فإن المبدع يرى أشياء يكون العامة غافلين عنها، كما أنه يفطن لأفعال لم يهتدِ إليها غيره من الناس، كما أن المبدع كثيراً ما يكون في حالة حوار مع صوته الداخلي، يناقشه في أدق تفاصيل عمله الإبداعي، فيخيّل كل مَنْ حوله أنه شارد الزهن، وقد تتطوّر هذه المناقشة إلى حِدة في المناقشة فيعلو صوته الداخلي، وفي هذه الحالة يصدر المبدع انفعالات حادة وأصوات غريبة، فيعتقد مَنْ حوله أنه يُعاني حالات نفسية أو آلام أمراض. وتضيف: المبدع دائماً في حالة صراع مع نفسه، ويكون دائماً في حالة تفكير وتأمل لما يدور حوله، وفي هذه الحالة لا يكون المبدع مُهتماً كثيراً بما يدور خارج حدود فكره في تلك اللحظة، وهذا السلوك هو ليس سلوكاً خاصاً بالأدباء وحدهم، وإنما هو سلوك يتميّز به جميع المبدعين والعباقرة، فهذا الشرود ما هو إلا بداية لعمل إبداعي جديد، أو حبكة درامية أو خاتمة هادفة لمؤلف أدبي، أو لوحة جميلة لرسَّام تشكيلي، فقد يعتقد البعض أن الشرود عند هؤلاء العباقرة، ما هو إلا مرض نفسي أو ألم عضوي يُعاني منه هذا الشخص البائس، أو حالة هروب من واقع مليء بالمشاكل والصدمات، وهذا ليس بصحيح؛ لأن شرود المبدع هو في حالة إمعان في التعامُل مع الواقع وإعمال الفكر في هذا الواقع، فهو دائماً في حالة إيجابية؛ لأنه يركّز على تفاصيل الحياة اليومية بمنظور المبدع وليس الشخص العادي، فمُعظم المشتغلين بالإبداع يحاولون التفرُّغ للإبداع، والشرود الذهني لديهم شيء طبيعي جداً، وأنا أُعاني منه كثيراً وأكون في مُنتهى السعادة بشرودي، إذا كانت نتيجة شرودي هذا خلق إبداع مُتميّز، وهناك اختلاف كبير بين المبدع والمجنون؛ فالمبدع ينشد مُجتمعاً، ويطالب بتغيير ما يرفضه الجميع، وليس ما يرفضه هو فقط، فدوره هنا إيجابي، أما المجنون فهو شخص مريض، شارد الذهن في لا شيء، فهو شخص والعدم سواء. الخيال الخلاق ويقول الشاعر فاروق جويدة عن حالات التأمل والشرود: إنه نوع من التأمل والخيال المنتج الخلاق، فهذا الشرود هو سياج يلتف حول المبدع، يعزله عن عالم الواقع كثيراً، ويجعله دائماً في عالم من الحلم الجميل، ويساعده على الإبداع، ومع هذا فليس من المعقول، أن ينسى الشاعر نفسه بصفته إنساناً له علاقات إنسانية مع غيره، وله تواصُل مُستمر مع عالم من حوله، وهذه العلاقات لا تنمو ولا تزدهر في عالم خفي من اللاوعي، ولكنها تتطلب الوعي الكامل لاستمرارها؛ لهذا فإن المبدع يتمتّع بشخصيتين مُتلازمتين، الأولى: يستحضرها قبل عملية الإبداع وخلالها، والثانية: شخصية إنسان عادي يمارس حياته العامة وعلاقاته الاجتماعية. ويضيف: هذا الشرود لا يُعد مُعاناة من حالة نفسية مرضية أو ألم عضوي أو هروباً من الواقع، ولكنها مُحاولة خلاقة لتحويل الواقع المعاش إلى حلم جميل، وتحويل هذا الحلم إلى واقع حي وملموس، فحينما يبدع الأديب أو الشاعر قصيدة شعرية، فإنه يتقمّص الواقع ويلج به في عباب الخيال، فيخيّل للناس أنه في حالة شرود ذهني، وحينما تصل القصيدة إلى الجمهور، يُفاجأ القارئ أن هذه القصيدة تعبير عن حواس داخلية للشاعر، فهي تبرز هذه الحواس الداخلية والأحلام غير المرئية في صور واقعية طاهرة، فالإبداع ما هو إلا حلم جميل يعيشه المبدع من خلال شرود ظاهر، ولكنه مُمتع ومُبدع. سلوك التأمل ويقول الكاتب الروائي يوسف القعيد عن التأمل: إنه مصدر الإبداع، وهو لحظات تلهم الأديب وتحفّزه إلى الكتابة، وأن يُعبّر عن مشاعر الناس وأفكارهم، من خلال مُلاحظاته الدقيقة التي تُسمى التأمل، وأنا كل كتاباتي نتاج لحظات من التأمل، أثناء وجودي في قريتي وأنا أُشاهد الفلاحين والأطفال وأُتابع مشاكلهم، وأُحاورهم عن آمالهم وأحلامهم في الحياة. ولا يوجد إبداع دون تأمل؛ لأن لحظة التأمل هي تفكير عميق في مُشكلة، أو مشهد يبدو أمام الناس جميعاً أنه عادي، أما بالنسبة للأديب فليس عادياً إطلاقاً، ولذلك التأمل من سمات طقوس الكتابة، فليس هناك مَنْ يكتب دون حافز أو دون موضوع يُثيره ويدفعه للكتابة، وفي الحقيقة الرسَّام والمصوّر والنحَّات والشاعر والأديب والقاص، كل هؤلاء لهم حالات خاصة في التأمل؛ لأن هذا التأمل هو سلوك إنساني إبداعي لا يمكن إغفاله. التأمل هو أهم وأقوى أداة من أدوات المبدع، كما يرى الشاعر عنتر هلال، والذي يعرّف التأمل بأنه لغة العقل، الذي تمكّنه من البحث عن الحكمة واستنباط الحقيقة من بين السطور، واكتشاف المكنون من وراء الظاهر، موضحاً أن المبدع له نظرة ثاقبة وأعمق داخل الأشياء، تختلف عن النظرة السطحية للإنسان العادي. ويضيف هلال: التأمل هو المادة الخام للمبدع، والتي تمكّنه من أن يرى ما لا يراه الآخرون، ويصل به إلى استقراء المستقبل وتوقّع ما يحدث، وتابع: التأمل يعطي المبدع طاقة إيجابية تجعله في حالة ترفّع وسمو روحي، مؤكداً أن المبدع بلا تأمل هو مفلس غير قادر على الإبداع. الشاعر البحريني على الشرقاوي يقول : التأمل أن تعيش حالة من حالات النشوة ؛ كأنها ما قبل النوم بمعنى أن تكون في هذه الخالة لديك فكرة واحدة وهذه الفكرة تستحوذ عليك ولذلك من خلال التركيز على عليها فتدخلك عوالم لا نهاية لها ؛ مما تستطيع أن ترى ما يرى وتشم ملا يشم ووتتذوق ما لايتذوق في لحظة التأمل أنت تستطيع أنت تمتلك العالم والذهاب الى أي منطقة ترغب في الذهاب . في لحظة التأمل لا وجود للماضي ولا المستقبل فقط اللحظى الحاضرة والتي تعني كل الكون . وعن تجربته في التأمل أثناء كتابة القضيدة يقول الشرقاوي :في لحظة الكتابة استبعد كل ما ليس له بالموضوع الذي اشتغل عليه وبهذا أكتب بتدفق بالضبط كما هي حالة النهر في جريانه نحو الاماكن التي تنتظره . ويرى الكاتب والمسرحي البحريني خالد الرويعي : أنه ليس كل تأمل يفضي إلى نتيجة ابداعية .. أحيانا التأمل يكون نوعا من أنواع البذخ والخوف أن يكون مسلك التأمل ماهو إلا مسلك تقليدي ورناه عن حالات المبدعين على مر العصور ونكون بذلك وقعنا في فخ الوهم .. التأمل إن لم يكن مشبعا بحالات الهم الابداعيويكون محملا بالبصيرة سيغدو أشبه بلحظة استرخاء لا أكثر . ويضيف : بالنسبة للمبدع التأمل هي حالة من حالات الابداع كالقراءة والكتابة ؛ فالابداع لا يستقيم الا بالتأمل . فأنت عندما تبدع تصل الى حالة من حالات التجلي أشبه ماتكون برفع الغطاء من العادي والمألوف . صور اللاوعي ويرى د.محمد نجيب أحمد الصبوة، أستاذ علم النفس الإكلينيكي بجامعة القاهرة، أن المبدع كالشاعر مثلاً، يستحضر غالبية مؤثراته وانفعالاته من اللاوعي، ويتمثّل هنا في حالة الشرود الذهني، فعندما يبدأ الشاعر عملية النظم التي يختار فيها الألفاظ التي تُعبّر عن المعاني المطلوبة، وتنسيقها لتصبح وزناً مُعيّناً وقافية مُعيّنة، يكون في حالة الوعي الكامل، ولكنه في الحالات الشعورية الحادة التي تمتاز بشِدة التأثر وقوة الانفعال، قد تتم عملية النظم ذاتها بلا وعي، وفي هذه الحالة يتولى هذا الانفعال الشديد استدعاء الألفاظ والعبارات بطريقة تلقائية، وهذه هي أجمل لحظات الشعر عند الشعراء. وأكد الصبوة، أن هذه الحالة من الانفعال قد تبلغ أحياناً درجة من التوقد الإبداعي، بحيث يغمر إحساس الأديب ويتخلله النشوة أو غيبوبة من اللاوعي، فتأتي الألفاظ والعبارات مُتناسقة مُتناغمة، وقد يتعجّب الشاعر حين يعود إلى طبيعته، ويقول كيف خرجت هذه الألفاظ والعبارات وكيف أتممتُ صَوْغها؟ وهنا نقول: إن الشرود الذهني ما هو إلا حالات اللاوعي عند المبدع تنتاب الأديب، ولكنه في الغالب يكون في حالة يقظة كاملة مُستمتعاً بالشرود والمعاناة معاً. خدمة ( وكالة الصحافة العربية )