فارغاس يوسا، الحائز على جائزة نوبل، ومؤلف كتاب (نداء القبيلة) The Call of the Tribe الذي صدر مؤخراً؛ يعبر عن رأيه في ترمب ولُولا والنسوية الراديكالية، في مقابلة مع ميغيل وينازكي من صحيفة (كلارين) الأرجنتينية. قيل إن الشاعر الإغريقي القديم أرخيلوخس Archilochus كتب ذات مرة: (إن الثعلب يعرف أشياء كثيرة، أما القنفذ فلا يعرف سوى شيء واحد مهم). وشرح الفيلسوف أشعيا برلين Isaiah Berlin الفكرة في مقال شهير نشر عام 1953، مشيراً إلى أن هناك نوعين من المفكرين: الثعالب: الذين يعتمدون على مجموعة متنوعة من التجارب، والقنافذ: الذين يرون العالم من خلال عدسة واحدة محددة. وبعد مرور أكثر من 60 عاماً، أعاد الروائي البيروفي الحائز على جائزة نوبل: ماريو فارغاس يوسا؛ النظر في المفهوم القديم، في كتابه الأخير الذي بعنوان (نداء القبيلة) (La llamada de la tribu)، وهو سيرة ذاتية فكرية نوعاً ما. فارغاس يوسا هو الثعلب، فهو كاتب وصحافي وسياسي ومجادل لا يكل من الجدال. وهو يتبنى التنوع، بينما يحمل الآخرون -وهم القنافذ- مفتاحاً واحداً فقط لكل الأبواب. لقد كان المحلل النفسي سيغموند فرويد قنفذاً، وكان مفتاحه التوضيحي الوحيد هو اللاوعي. وكذلك كان القديس توماس الأكويني Thomas Aquinas الذي دافع عن الإيمان، وكارل ماركس الذي كانت عقيدته العلمانية ترتكز على الصراع الطبقي. أما فارغاس يوسا فإنه يفضل الخصوصيات على العموميات، إذ يقول: (ثمة عقلية متعصبة داخل كل قنفذ، وعقلية متشككة لاأدريَّة داخل كل ثعلب، سواء أكانت تلك العقلية مخفية أم ظاهرة). كأن الكاتب يستغرق وقتاً في كل جملة يتلفظ بها ليُثبت وجهة نظره: بأن خطابه محل اعتبار، وأن عينيه، والطريقة التي يحوِّل بها بصره؛ تشيان بجهد مبذول في التأمل. ميغيل وينازكي: لماذا يدعم كثير من المفكرين الأمريكيين اللاتينيين الحكومات الشعبوية أو الغوغائية؟ - ماريو فارغاس يوسا: إن كثيراً من المفكرين الأمريكيين اللاتينيين الذين عاشوا حياة متوسطة ومريحة جداً؛ قد تحولوا إلى محققين أشدّاء في استجوابهم للديمقراطيات، ذلك أن المفكرين عادة ما يصيرون متأصلين في حبهم للكمال، أما الديمقراطية فهي نظام يفتقر علانية إلى الكمال. وكثير من المفكرين يجدون هذا الإقرار بالوسطية شيئاً مشيناً. والديمقراطيون أنفسهم لا يؤمنون بوجود الديمقراطيات الكاملة، بل يعتقدون أنها يمكن أن تتحسّن تدريجياً وليس فجأة، ودون إزهاق أرواح الناس في هذه العملية. لا وجود للكمال، لأننا جميعاً متفاوتون، لكن المفكرين لن يتخلوا عن رؤاهم غير الواقعية. هذا هو ما تقدمه الماركسية: عرض غير واقعي لجلب الجنة إلى الأرض. قد يفسر ذلك افتتان العديد من المفكرين بتلك الأفكار اليوطوبية. في الأرجنتين، لم يكن الأمر قاصراً على المفكرين؛ بل شمل حكومة بأكملها، ألا وهي حكومة آل كيرشنر التي كانت تنظر إلى فنزويلا باعتبارها أنموذجاً يحتذى به. لقد قادت البيرونية والكيرشنرية (كما صيغتا في عهد الرئيسيْن نيستور وكريستينا كيرشنر: 2003-2015) الأرجنتين إلى فشل كبير مأساوي. كان آل كيرشنر بالتأكيد من الداعمين للنموذج الفنزويلي. واليوم، باتت فنزويلا بلداً مهدداً بالاندثار. فعملتها سوف تختفي، والفقر يتفشى فيها بهمجية وبلا رحمة. ولكن بقدر ما تبدو حالة فنزويلا مأساوية للغاية؛ فإن حالة الأرجنتين الآن تبدو إيجابية جداً، حيث منح المجتمع دعمه لحكومة ديمقراطية من خلال التصويت. لكن الشعب الأرجنتيني يعاني الآن من التعديلات الاقتصادية.. - من المفهوم أن على الحكومة أن تطالب بتضحيات لإحياء مجتمع كان في حالة سقوط حر. وعلى الرغم من التضحيات التي تطالب بها الحكومة؛ ما زالت تتمتع بدعم كبير. وإنني لأتفاءل بالأرجنتين خيراً. كيف تؤثر أزمة البرازيل واعتقال لُولا على بقية أمريكا اللاتينية؟ - أنا مسرور لأرى أن هناك حراكاً شعبياً في البرازيل، كان وما زال يطالب بإحياء الديمقراطية ومحاكمة الفاسدين واعتقالهم، وهذا هو ما يحدث بالفعل، إنه حقيقة. وإن سقوط لُولا -الذي كان أسطورة، بل أسطورة دولية- يُظهر مدى جدية هذه العملية. لقد زجوا في السجن برجال أعمال وسياسيين من اليمين ومن اليسار، وهذه عملية تجديد حقيقية جداً، إنها واقعية. إنها أول حركة شعبية كبيرة في أمريكا اللاتينية لا تريد الاشتراكية، وليست ضد الديمقراطية. بل على العكس، فهي تريد إعادة بناء المؤسسات التي ستحقق التقدم وتُنتج ذلك التكافؤ للفرص على وجه التحديد. ومن حسن الطالع أن الحركة يقودها قضاة يتصفون بالنزاهة والكفاءة، مثل سيرجيو مورو، والشيء المدهش هنا أنه ما زال على قيد الحياة، إنه شيء رائع أن مورو لم يزل على قيد الحياة. ويستخدم هؤلاء القضاة سلاح العدالة لإحداث تحول في بلد أصيب فعلياً بالفساد. لقد كانت (بتروبراز) (Petrobras)، وهي مؤسسة عامة قوية؛ أكبر مَصدر للفساد -شأنها شأن (شركة التشييد والبناء) (أودبريشت) (Odebrecht) في القطاع الخاص-، حيث كانت منبثقة من البرازيل، وتُصدِّر الفساد إلى جزء كبير من أمريكا اللاتينية. لعل بيرو هي البلد الذي كان للفساد فيه الأثر الأكثر مأساوية، فهناك ثلاثة رؤساء في ورطة. كان هناك غش وفساد، ولكن تم الكشف عن ذلك كله، وباتت السجون مليئة باللصوص والمحتالين. كل ذلك كان يحدث في بيرو، لكنه كان خفياً عن الأنظار. أعتقد أننا يجب أن نبني نصباً تذكارياً لأودبريشت التي أنتجت هذا الفساد، وساعدت على اكتشافه في الوقت ذاته، فلقد سمحت لنا أودبريشت برؤية العفن الذي كان موجوداً في بلادنا. كيف ترى دونالد ترمب؟ - إنه سيئ جداً، ويشعرني بحزن شديد. ما كان لأحد من قبلُ أن يصوت لشخص شعوبي معادٍ للثقافة ودهماوي مثل ترمب. إذَنْ ماذا يُثبت لنا هذا؟ إنه يثبت أنه لا يوجد مجتمع، ولا حتى أكثر المجتمعات تقدماً من حيث الشرعية والديمقراطية؛ محصَّن ضد الشعوبية والقومية. وإن الإرث الذي سيخلِّفه ترمب للولايات المتحدة سينتهي به المطاف إلى أن يكون إرثاً سلبياً للغاية. قلتَ إن الحركة النسوية الراديكالية تطارد الأدب، أليس كذلك؟ - إنني أؤيد تماماً المساواة بين الجنسين، وأعتقد أن جميع الإصلاحات التي تُجرى من أجل تحقيق المساواة بين الرجال والنساء هي إصلاحات ديمقراطية وتحررية وينبغي دعمها. ولكن للأسف، فإن الحركة النسوية تنحرف في بعض البلدان نحو الطائفية والتعصب، فهي تطالب بتصحيحات سياسية من شأنها، إذا ما طُبقتْ، أن تقضي، لا على الأدب وحسب، بل على الثقافة أيضاً. على المرء أن يتقبّل الحرية بوصفها عنصراً أساسياً للتمتع بثقافة غنية وإبداعية. ولا يمكن أن تُحبَس الثقافة، كما سعت المحكمة الكاثوليكية، في سجن أخلاقي أو ديني أو لائق سياسياً، يجب أن ندافع عن الحرية. إن الأعمال الأدبية العظيمة لم تكن أبداً لائقة من الناحية السياسية، وفي كثير من الحالات، كان الأدب يأتي في صدارة العديد من الأشياء التي بدتْ رهيبة في بادئ الأمر ثم صارت مقبولة على اعتبار أنها تمثل طفرات وتقدماً اجتماعياً وثقافياً. هذا ما لا يفهمه كثير من أنصار الحركة النسوية، فهم لا يريدون تصحيح المستقبل وحسب، بل تصحيح الماضي أيضاً. ويودون أن يصححوا ثقافة الماضي، لكونها متحيزة بشدة للنوع. رغم كل ما حققتَه، ما زلتَ تتمتع بالحيوية ذاتها التي كنت عليها وأنت شاب.. - كلا، ليس بالقدر ذاته، فأنا في الثانية والثمانين من عمري. لكن الحب والجدال والعمل الأدبي جميعها تبقيني على قيد الحياة، وآمل أن تفعل ذلك حتى النهاية. فأنا أقول دائماً إنني أود أن أموت والقلم في يدي، أي وأنا أعمل. آخر أعماله ( نداء القبيلة) هو كتاب غير عادي في عرف الكتب الأمريكية اللاتينية، فهو يدافع عن المفكرين التحرريين، بمن فيهم بعض المفكرين غير المعروفين في هذا الجزء من العالم، أمثال: أشعيا برلين وريمون آرون Raymond Aron. إن فكرته بسيطة وواضحة: (الروح القبلية) -التي هي منبع القومية- تسببت (إلى جانب التعصب الديني) في وقوع أكبر أعمال سفك للدماء في التاريخ. وللكتاب أسلوب يجمع ما بين الموعظة والسيرة الذاتية، فهو يروي كيف أعاد هؤلاء الكُتاب تشكيل نظرة فارغاس يوسا عن العالم، وحولوه عن الميول اليسارية المبكرة إلى الليبرالية. ويندِّد المؤلف ب(نداء القبيلة) الحديث، أو تعمد العودة إلى عصر الظلام، والمجتمع المنغلق، والقومية التي يقول إنها أصابت أماكن مثل المملكة المتحدة (بالبريكست، وهو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) وكاتالونيا. لقد استهدف البريكست، على وجه الخصوص، الاتحاد الأوروبي. وهو مشروع جماعي للدول يعتبره الكاتب مشروعاً بالغ الأهمية. ويصف الكاتب الحركات القومية الأوروبية الحالية بأنها (ترتكز على حكايات) وتشويهات متعمدة للتاريخ، لا يظن أنها ستنتصر، لكنه ليس متأكداً، ويُحذِّر من عواقبها الوخيمة. فارغاس يوسا، الحائز على جائزة نوبل، ومؤلف كتاب (نداء القبيلة) The Call of the Tribe الذي صدر مؤخراً؛ يعبر عن رأيه في ترمب ولُولا والنسوية الراديكالية، في مقابلة مع ميغيل وينازكي من صحيفة (كلارين) الأرجنتينية. قيل إن الشاعر الإغريقي القديم أرخيلوخس Archilochus كتب ذات مرة: (إن الثعلب يعرف أشياء كثيرة، أما القنفذ فلا يعرف سوى شيء واحد مهم). وشرح الفيلسوف أشعيا برلين Isaiah Berlin الفكرة في مقال شهير نشر عام 1953، مشيراً إلى أن هناك نوعين من المفكرين: الثعالب: الذين يعتمدون على مجموعة متنوعة من التجارب، والقنافذ: الذين يرون العالم من خلال عدسة واحدة محددة. وبعد مرور أكثر من 60 عاماً، أعاد الروائي البيروفي الحائز على جائزة نوبل: ماريو فارغاس يوسا؛ النظر في المفهوم القديم، في كتابه الأخير الذي بعنوان (نداء القبيلة) (La llamada de la tribu)، وهو سيرة ذاتية فكرية نوعاً ما. فارغاس يوسا هو الثعلب، فهو كاتب وصحافي وسياسي ومجادل لا يكل من الجدال. وهو يتبنى التنوع، بينما يحمل الآخرون -وهم القنافذ- مفتاحاً واحداً فقط لكل الأبواب. لقد كان المحلل النفسي سيغموند فرويد قنفذاً، وكان مفتاحه التوضيحي الوحيد هو اللاوعي. وكذلك كان القديس توماس الأكويني Thomas Aquinas الذي دافع عن الإيمان، وكارل ماركس الذي كانت عقيدته العلمانية ترتكز على الصراع الطبقي. أما فارغاس يوسا فإنه يفضل الخصوصيات على العموميات، إذ يقول: (ثمة عقلية متعصبة داخل كل قنفذ، وعقلية متشككة لاأدريَّة داخل كل ثعلب، سواء أكانت تلك العقلية مخفية أم ظاهرة). كأن الكاتب يستغرق وقتاً في كل جملة يتلفظ بها ليُثبت وجهة نظره: بأن خطابه محل اعتبار، وأن عينيه، والطريقة التي يحوِّل بها بصره؛ تشيان بجهد مبذول في التأمل. ميغيل وينازكي: لماذا يدعم كثير من المفكرين الأمريكيين اللاتينيين الحكومات الشعبوية أو الغوغائية؟ - ماريو فارغاس يوسا: إن كثيراً من المفكرين الأمريكيين اللاتينيين الذين عاشوا حياة متوسطة ومريحة جداً؛ قد تحولوا إلى محققين أشدّاء في استجوابهم للديمقراطيات، ذلك أن المفكرين عادة ما يصيرون متأصلين في حبهم للكمال، أما الديمقراطية فهي نظام يفتقر علانية إلى الكمال. وكثير من المفكرين يجدون هذا الإقرار بالوسطية شيئاً مشيناً. والديمقراطيون أنفسهم لا يؤمنون بوجود الديمقراطيات الكاملة، بل يعتقدون أنها يمكن أن تتحسّن تدريجياً وليس فجأة، ودون إزهاق أرواح الناس في هذه العملية. لا وجود للكمال، لأننا جميعاً متفاوتون، لكن المفكرين لن يتخلوا عن رؤاهم غير الواقعية. هذا هو ما تقدمه الماركسية: عرض غير واقعي لجلب الجنة إلى الأرض. قد يفسر ذلك افتتان العديد من المفكرين بتلك الأفكار اليوطوبية. في الأرجنتين، لم يكن الأمر قاصراً على المفكرين؛ بل شمل حكومة بأكملها، ألا وهي حكومة آل كيرشنر التي كانت تنظر إلى فنزويلا باعتبارها أنموذجاً يحتذى به. لقد قادت البيرونية والكيرشنرية (كما صيغتا في عهد الرئيسيْن نيستور وكريستينا كيرشنر: 2003-2015) الأرجنتين إلى فشل كبير مأساوي. كان آل كيرشنر بالتأكيد من الداعمين للنموذج الفنزويلي. واليوم، باتت فنزويلا بلداً مهدداً بالاندثار. فعملتها سوف تختفي، والفقر يتفشى فيها بهمجية وبلا رحمة. ولكن بقدر ما تبدو حالة فنزويلا مأساوية للغاية؛ فإن حالة الأرجنتين الآن تبدو إيجابية جداً، حيث منح المجتمع دعمه لحكومة ديمقراطية من خلال التصويت. لكن الشعب الأرجنتيني يعاني الآن من التعديلات الاقتصادية.. - من المفهوم أن على الحكومة أن تطالب بتضحيات لإحياء مجتمع كان في حالة سقوط حر. وعلى الرغم من التضحيات التي تطالب بها الحكومة؛ ما زالت تتمتع بدعم كبير. وإنني لأتفاءل بالأرجنتين خيراً. كيف تؤثر أزمة البرازيل واعتقال لُولا على بقية أمريكا اللاتينية؟ - أنا مسرور لأرى أن هناك حراكاً شعبياً في البرازيل، كان وما زال يطالب بإحياء الديمقراطية ومحاكمة الفاسدين واعتقالهم، وهذا هو ما يحدث بالفعل، إنه حقيقة. وإن سقوط لُولا -الذي كان أسطورة، بل أسطورة دولية- يُظهر مدى جدية هذه العملية. لقد زجوا في السجن برجال أعمال وسياسيين من اليمين ومن اليسار، وهذه عملية تجديد حقيقية جداً، إنها واقعية. إنها أول حركة شعبية كبيرة في أمريكا اللاتينية لا تريد الاشتراكية، وليست ضد الديمقراطية. بل على العكس، فهي تريد إعادة بناء المؤسسات التي ستحقق التقدم وتُنتج ذلك التكافؤ للفرص على وجه التحديد. ومن حسن الطالع أن الحركة يقودها قضاة يتصفون بالنزاهة والكفاءة، مثل سيرجيو مورو، والشيء المدهش هنا أنه ما زال على قيد الحياة، إنه شيء رائع أن مورو لم يزل على قيد الحياة. ويستخدم هؤلاء القضاة سلاح العدالة لإحداث تحول في بلد أصيب فعلياً بالفساد. لقد كانت (بتروبراز) (Petrobras)، وهي مؤسسة عامة قوية؛ أكبر مَصدر للفساد -شأنها شأن (شركة التشييد والبناء) (أودبريشت) (Odebrecht) في القطاع الخاص-، حيث كانت منبثقة من البرازيل، وتُصدِّر الفساد إلى جزء كبير من أمريكا اللاتينية. لعل بيرو هي البلد الذي كان للفساد فيه الأثر الأكثر مأساوية، فهناك ثلاثة رؤساء في ورطة. كان هناك غش وفساد، ولكن تم الكشف عن ذلك كله، وباتت السجون مليئة باللصوص والمحتالين. كل ذلك كان يحدث في بيرو، لكنه كان خفياً عن الأنظار. أعتقد أننا يجب أن نبني نصباً تذكارياً لأودبريشت التي أنتجت هذا الفساد، وساعدت على اكتشافه في الوقت ذاته، فلقد سمحت لنا أودبريشت برؤية العفن الذي كان موجوداً في بلادنا. كيف ترى دونالد ترمب؟ - إنه سيئ جداً، ويشعرني بحزن شديد. ما كان لأحد من قبلُ أن يصوت لشخص شعوبي معادٍ للثقافة ودهماوي مثل ترمب. إذَنْ ماذا يُثبت لنا هذا؟ إنه يثبت أنه لا يوجد مجتمع، ولا حتى أكثر المجتمعات تقدماً من حيث الشرعية والديمقراطية؛ محصَّن ضد الشعوبية والقومية. وإن الإرث الذي سيخلِّفه ترمب للولايات المتحدة سينتهي به المطاف إلى أن يكون إرثاً سلبياً للغاية. قلتَ إن الحركة النسوية الراديكالية تطارد الأدب، أليس كذلك؟ - إنني أؤيد تماماً المساواة بين الجنسين، وأعتقد أن جميع الإصلاحات التي تُجرى من أجل تحقيق المساواة بين الرجال والنساء هي إصلاحات ديمقراطية وتحررية وينبغي دعمها. ولكن للأسف، فإن الحركة النسوية تنحرف في بعض البلدان نحو الطائفية والتعصب، فهي تطالب بتصحيحات سياسية من شأنها، إذا ما طُبقتْ، أن تقضي، لا على الأدب وحسب، بل على الثقافة أيضاً. على المرء أن يتقبّل الحرية بوصفها عنصراً أساسياً للتمتع بثقافة غنية وإبداعية. ولا يمكن أن تُحبَس الثقافة، كما سعت المحكمة الكاثوليكية، في سجن أخلاقي أو ديني أو لائق سياسياً، يجب أن ندافع عن الحرية. إن الأعمال الأدبية العظيمة لم تكن أبداً لائقة من الناحية السياسية، وفي كثير من الحالات، كان الأدب يأتي في صدارة العديد من الأشياء التي بدتْ رهيبة في بادئ الأمر ثم صارت مقبولة على اعتبار أنها تمثل طفرات وتقدماً اجتماعياً وثقافياً. هذا ما لا يفهمه كثير من أنصار الحركة النسوية، فهم لا يريدون تصحيح المستقبل وحسب، بل تصحيح الماضي أيضاً. ويودون أن يصححوا ثقافة الماضي، لكونها متحيزة بشدة للنوع. رغم كل ما حققتَه، ما زلتَ تتمتع بالحيوية ذاتها التي كنت عليها وأنت شاب.. - كلا، ليس بالقدر ذاته، فأنا في الثانية والثمانين من عمري. لكن الحب والجدال والعمل الأدبي جميعها تبقيني على قيد الحياة، وآمل أن تفعل ذلك حتى النهاية. فأنا أقول دائماً إنني أود أن أموت والقلم في يدي، أي وأنا أعمل. آخر أعماله ( نداء القبيلة) هو كتاب غير عادي في عرف الكتب الأمريكية اللاتينية، فهو يدافع عن المفكرين التحرريين، بمن فيهم بعض المفكرين غير المعروفين في هذا الجزء من العالم، أمثال: أشعيا برلين وريمون آرون Raymond Aron. إن فكرته بسيطة وواضحة: (الروح القبلية) -التي هي منبع القومية- تسببت (إلى جانب التعصب الديني) في وقوع أكبر أعمال سفك للدماء في التاريخ. وللكتاب أسلوب يجمع ما بين الموعظة والسيرة الذاتية، فهو يروي كيف أعاد هؤلاء الكُتاب تشكيل نظرة فارغاس يوسا عن العالم، وحولوه عن الميول اليسارية المبكرة إلى الليبرالية. ويندِّد المؤلف ب(نداء القبيلة) الحديث، أو تعمد العودة إلى عصر الظلام، والمجتمع المنغلق، والقومية التي يقول إنها أصابت أماكن مثل المملكة المتحدة (بالبريكست، وهو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) وكاتالونيا. لقد استهدف البريكست، على وجه الخصوص، الاتحاد الأوروبي. وهو مشروع جماعي للدول يعتبره الكاتب مشروعاً بالغ الأهمية. ويصف الكاتب الحركات القومية الأوروبية الحالية بأنها (ترتكز على حكايات) وتشويهات متعمدة للتاريخ، لا يظن أنها ستنتصر، لكنه ليس متأكداً، ويُحذِّر من عواقبها الوخيمة.