علي خلفية الأحداث المؤسفة التي شهدتها المنطقة العربية بعامة، والشارع المصري بخاصة، خلال الآونة الأخيرة من هياج شعبي يسعي إلي التحرر من قيود الظلم والفساد وكل أشكال المعاناة، ومختلف سبل تقييد الحريات، والتي فجرتها ثورة الياسمين بتونس، والمظاهرات الاحتجاجية التي يعيشها لبنان، وصولًا إلي السعار التظاهري الذي أصاب الشارع المصري فيما عرف بثورة "الغضب" أو ثورة "الشباب". فعقب الثورة التي هزت عرش الدولة الخضراء والتي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي، أبدي عدد من المثقفين والأدباء التونسيين استياءهم لعهد الرئيس المخلوع.. مؤكدين أنه خلال فترة حكمه لم يكن في استطاعتهم التعبير بحرية عن إبداعتهم، وأن تلك الفترة كانت مزيفة ولا تعكس الواقع الحقيقي للثقافة والفن.. لافتين إلي: "إننا كنا نختنق فنيا، ولا نقوي علي الإبداع"، وكذلك ثورة "الغضب" التي عصفت بالأمان الداخلي للشارع المصري، كل تلك الأحداث كشفت مدي نجاح التدخلات السياسية في إفشال أي تقدم ثقافي، أو إطفاء جذوة أي نشاط إبداعي في صدور المثقفين قبل أن تري النور، فضلًا عن جلاد قوانين الحكومات الذي يتهدد قلمهم بعد خروجها إلي الباحة الأدبية. لذا ارتأت "صوت البلد" ضرورة فتح ملف تأثير الحكومات المتعاقبة علي عرش مصر في الحياة الثقافية، إذ إن كل نظام حكم يأتي لا شك له تأثيره القوي علي سير العملية الإبداعية بكل فنونها منذ قديم الازل، وإلي الآن.. وبتتبع الحقب التاريخية منذ انهيار الخلافة العباسية بسقوط بغداد علي يد التتار، والتي استمرت قرابة الستة قرون، يتراءي مدي التراجع الذي اتسم به الادب المصري، إذ تميزت هذه الحقبة بالاستبداد والفتن وتقييد حرية الفكر وتكبيل الابداع واضطراب الحياة الاجتماعية، وكان من نتائج استفحال الفساد آثاره السيئة علي الحياة الفكرية والادبية ولم تبق منه الا شعاع خافت في مصر. إلا أن تلك الحال تبدلت في اواخر العقد الاخير من القرن الثامن عشر وذلك بقدوم الحملة الفرنسية والتي فتحت الأنظار علي حضارة جديدة ونهضة شاملة، استكملها محمد علي والي مصر بعد طرده الفرنسيين، فبدأ الانفتاح علي الثقافة والاطلاع علي الرؤي الفكرية العالمية من خلال الترجمة والاستفادة من وسائل المعرفة الحديثة كالمطبعة. أما الأدب بصورة خاصة فقد ظهر الشعر القصصي والتاريخي، وأسهم المستشرقون في خلق نهضة أدبية من خلال نشرهم عددًا من المخطوطات والكتب القديمة بعد تحقيقها ومراجعة اصولها والتنبيه الي قيمة التراث وضرورة حمايته.. وقد تم اثراء اللغة بمصطلحات علمية معربة والعناية بالأسلوب ورقة اللفظ، وسلاسته؛ فساعد نظام الحكم في هذا الوقت علي تطور الحركة الثقافية والادبية انذاك. وباستثناء فترة حكم الرئيس الراحل محمد نجيب - إذ لم تتجاوز العام الواحد - فنستطيع أن نتعرض لفترة حكم عبد الناصر، والتي لم يسلم خلالها معظم المبدعين من السجن، والملاحقات الأمنية، أو التوقف عن العمل.. إذ تم فصل أنيس منصور عامًا ونصف العام، علي خلفية مقال له، وعندما عاد للعمل لم يستطع نقد عبد الناصر او مهاجمته، وعندما قرر نشر كتاب يذكر به اخطاءه، عمد إلي أن يكون الكتاب موضوعيا، وحمل الكتاب عنوان "عبد الناصر المفتري عليه والمفتري علينا"، هذا فضلًا عما لاقاه د. مصطفي محمود ايضا بسبب مقالاته عن هتلر والنازية، والتي عوقب علي أثرها بالمنع من الكتابة لمدة عام، وبعد عودته كان يريد أن يقول رأيه في الاشتراكية، ولكنه كان متخوفا فكتب كتاب "الإسلام والماركسية"، وحفظ ما كتبه حتي مات عبد الناصر وجاء عصر السادات، فأخرج الكتاب لينشر في "صباح الخير"، وقال السادات لوزير الاعلام آنذاك: "كتاب مصطفي محمود ينشر كاملاً وبصورة لائقة"؛ فالجميع بدءًا من إحسان عبد القدوس إلي مفيد فوزي حصلوا علي حصصتهم من القمع وتقييد الحريات علي يد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. أما عصر الرئيس محمد أنور السادات، فتميز بمحطات تاريخية مهمة كان لها أكبر الأثر في تشكيل المجتمع؛ فالأحداث التي وقعت كانت مادة دسمة للإبداع المصري في الرواية، فكتبت العديد من الروايات وكان الكثير منها يشير إلي الرئيس بالاسم وبعضها يتحدث إليه رمزا. والمتتبع للحراك الثقافي خلال العقود الثلاثة المنصرمة ليتراءي له مدي المعاناة التي أصابت الثقافة المصرية والفن المصري؛ إذ يكاد يجمع كتاب مصر ومثقفوها علي أن الفن والثقافة والإعلام في مصر حاليا في أسوأ حالاتهم.. ليبقي السؤال محيرًا: من المسئول عن الردة الثقافية في الشارع المصري؟.. هل الأنظمة الحاكمة أم الأنظمة الحاكمة؟