تشهد أسبانيا هذه الأيام أوضاعا خطيرة ومتفاقمة امتزجت فيها أزمات الاقتصاد بقضايا الفساد السياسي التي تسيطر على مختلف مؤسسات الدولة وتهدد بإحداث زلزال حقيقي على الساحة السياسية الأسبانية قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة وغير مرتقبة. وكانت آخر حلقات مسلسل الأزمات الذي تعيشه أسبانيا خلال المرحلة الراهنة هو اتهام رئيس الحكومة ماريانو راخوي ، ومعه عدد من زعماء الحزب الشعبي الحاكم، بتلقي أموال بصفة غير قانونية خلال الفترة من 1997 حتى عام 2008 من شركات تستثمر في مجال العقار حيث تبين أنها قدمت تلك الأموال للحزب الشعبي للحصول على صفقات سواء مع الحكومة المركزية عندما يكون الحزب في السلطة، أو على مستوى حكومات الحكم الذاتي في مناطق البلاد التي يرأسها الحزب الشعبي. وأظهرت الوثائق التي نشرتها جريدة "الباييس" الأسبانية في 31 يناير الماضي، أن راخوي تلقى 34 ألف دولار سنويا على مدار 11 عاما قبل أن يتولى منصب رئيس الوزراء عام 2011، كما حصل 3 من القادة السابقين للحزب على مبالغ مقاربة لذلك. ونفى راخوي هذه الاتهامات بشكل قاطع ، وأكد أنها عارية تماما من الصحة، وقامت الحكومة الأسبانية مؤخرا بنشر بيانات المدخول السنوي لرئيس الحكومة خلال الفترة بين عامي 2003 و2011 وذلك في سابقة هي الأولى من نوعها، وأوضحت البيانات أن راخوي كان يتلقى إضافة إلى راتبه إيرادات إضافية على مدار السنوات الماضية نتيجة استثمار أصول عقارية وسندات حكومية.. وذلك حسبما ذكرت وكالة أنباء الشرق الأوسط. ولكن فيما يبدو أن كل ذلك لم ينجح في إقناع الرأي العام ببراءة راخوي من التهم الموجهة إليه، فقد تزايدت مطالب المعارضة بضرورة تقديم الحكومة استقالتها حيث أنها لم تعد مؤهلة لإدارة البلاد في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها، كما عمت المظاهرات أمام مقرات الحزب الشعبي في مختلف المدن الأسبانية الكبرى والمطالبة بانسحاب راخوي من رئاسة الحكومة، كذلك وقع أكثر من مليون أسباني التماسا على موقع الكتروني يطالب بالاستقالة الفورية لرئيس الحكومة وعدد من الوزراء الأعضاء في الحزب ، إضافة إلى ضرورة إجراء انتخابات تشريعية مبكرة. ومن المنتظر أن يمثل رئيس الحكومة الاسبانية ماريانو راخوي أمام مجلس النواب في مدريد في 20 فبراير الجاري في محاولة للبحث عن مبادرة سياسية للخروج من الأزمة الراهنة، ويتوقع أن تكون تلك المهمة صعبة بالنسبة لراخوي لاسيما في ظل التدني الملحوظ في شعبيته حيث أظهرت آخر استطلاعات الرأي أن 77% من الأسبان يرفضون إدارته لشئون البلاد، في الوقت الذي أعرب 85% عن عدم ثقتهم فيه. كما كشفت تلك الاستطلاعات أن فضائح الفساد الأخيرة قد هزت صورة الحزب الشعبى وأفقدته ثقة شريحة كبيرة من مؤيديه وساهمت بقوة في تراجع شعبيته، فلم يعد يحظى سوى ب 24% من أصوات الناخبين، في حين أنه كان يحظى منذ سنة على قرابة 45% عندما فاز في الانتخابات التشريعية. وتوقع المراقبون أن تستمر تدني شعبية الحزب بسبب تصاعد الاحتقان الشعبي، مؤكدين أن ما يزيد من حدة الأزمة هو أنها تندلع في وقت يعاني فيه المواطن الأسباني من أزمة اقتصادية خانقة، فتأتي صفحات الجرائد لتتحدث عن آلاف الملايين من اليورو، بينما تعاني البلاد من معدل بطالة قياسي وركود اقتصادي متفاقم. وتعيش أسبانيا أزمة مؤسسات حقيقية، فإضافة إلى تدهور صورة الحكومة والحزب الحاكم تدور الشبهات حول المؤسسة الملكية حيث توجه اتهامات إلى إنياكي أوندنغرين، زوج ابنة الملك خوان كارلوس، باختلاس أموال من المال العام تبلغ ملايين من اليورو، حيث يتهم بتأسيس معهد غير ربحي وباستغلال لقبه كدوق وصهر للملك وزوج للأميرة للحصول على امتيازات، علاوة على توظيف شركات في عمليات التهرب الضريبي وهي شركات تقاسمه في ملكيتها بالنصف زوجته الأميرة كريستينا التي يحتمل أن يوجه إليها اتهامات هي الأخرى يوم 23 فبراير . وقد زاد ذلك الأمر من حالة السخط الشعبي تجاه ضعف المؤسسة الملكية التي تعاني بالفعل من تدهور حقيقي في شعبيتها خلال الثلاث سنوات الأخيرة. ويأتي كل ذلك في ظل أزمة اقتصادية طاحنة تعيشها إسبانيا منذ سنوات وتزداد حدتها عاما بعد آخر، فقد شهدت أسبانيا تراجعا في نموها الاقتصادي للربع المالي السادس على التوالي وسجل اقتصادها انكماشا بمعدل 5ر1% خلال عام 2012 وذلك مع مضاعفة الإجراءات التقشفية، كما وصلت معدلات البطالة إلى 26% ليستمر ارتفاع عدد العاطلين ويبلغ 5 ملايين و965 ألفا و400 عاطل محققة بذلك أعلى معدلاتها منذ أكثر من 15 عاما، وفقا لبيانات المعهد الوطني للاحصاء في أسبانيا. وأظهرت بيانات رسمية ارتفاع عدد الشركات والأفراد الذين أعلنوا إفلاسهم في أسبانيا إلى 8726 خلال عام 2012 وهو ما يمثل ارتفاعا قدره 27% مقارنة بعام 2011، ويرجع ذلك إلى الأزمة المالية العميقة التي تشهدها البلاد والتي تسببت في ركود الاقتصاد وتراجع ثقة المستهلكين وانخفاض الطلب المحلي. من ناحية أخرى، أظهر بيان للبنك المركزي الأسباني الشهر الماضي أن حصة القروض المعدومة في ميزانيات البنوك الأسبانية ارتفعت في نهاية عام 2012 لتصل إلى مستوى قياسي جديد عند 6ر191 يورو، ويشكل ذلك ما نسبته 4ر11% من إجمالي الدين، وينظر إلى قرض بأنه أصبح معدوما إذا ما تأخر سداده لمدة ثلاثة أشهر متتالية. كذلك واصلت أسعار الفائدة على السندات الأسبانية اتجاهها النزولي، إذ باعت وزارة الخزانة سندات حكومية بقيمة 5ر4 مليار يورو، وتراجعت العوائد على السندات لأجل عامين وخمسة أعوام وثلاثين عاما عن أسعار المزادات السابقة. كما أظهر اتحاد البنوك الأسباني "ايه إي بي" أن البنوك الأسبانية حققت إجمالي صافي أرباح بقيمة 4ر3 مليار يورو وذلك خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2012 وهو ما يمثل تراجعا بنسبة 7ر63% مقارنة بنفس الفترة من عام 2011 . وفي ضوء المعطيات السابقة يتبين مدى صعوبة الأزمة التي تعيشها أسبانيا خلال المرحلة الراهنة فقد اختنق الأسبان من سياسات التقشف التى وصفها المراقبون لتطورات الأوضاع بالمتعنتة والتي لم تنجح حتى الآن في إخراج بلادهم من أزمتها بل تسببت في زيادة البطالة وزيادة السخط الشعبي، كما فقد المواطنون الثقة في مؤسسات الدولة وأصبح هناك هوة كبيرة بينهم وبين السلطة السياسية في البلاد. وبناء على ذلك يتوقع أن تشهد الساحة السياسية الأسبانية تغيرات قوية خلال الفترة المقبلة خاصة في ظل إصرار المعارضة على استقالة رئيس الوزراء ماريانو راخوي وحكومته وإجراء انتخابات مبكرة وهو ما يكشف عن صعوبة حدوث أي اتفاق بين الحكومة والمعارضة مستقبلا حول القوانين الكبرى التي تتطلب إجماعا بين القوى السياسية.
وفي انتظار ما ستؤول إليه تطورات هذا الملف يبقى المشهد السياسي الأسباني مفتوحا على كل الاحتمالات بما فيها انتخابات تشريعية سابقة لأوانها يرجح المراقبون أنه في حال انعقادها لن يحصل خلالها أي من الحزبين الكبيرين في البلاد، الشعبي والاجتماعي، على الأغلبية المطلوبة للفوز في تلك الانتخابات بسبب كثرة فضائح الفساد وهروب الناخبين منهما وهو ما يصب في مصلحة كل من حزب اليسار الموحد وحزب اتحاد التقدم اللذين حققا تقدما ملحوظا في آخر استطلاعات الرأي.