ما أعجب الأيام المتقلبة بأمواجها المتلاطمة ما بين الصعود و الهبوط مسجلة توابعها المتباينة في صفحات التاريخ ما بين الإنجاز و الإخفاق ، الصعود و الهبوط ، الإنتصار و الإنكسار ، السطوع و الغروب حسب المواقف المتنوعة الدائرة بعجلات التاريخ و المقرة بأوامر الأقدار لتأتي لنا أجيالاً تريد الحقيقة الغائبة بين أنياب المؤرخين و المستأرخين المدعين لإمتلاكهم لنبض الأمة و إرثها حسب أهوائهم و أغراضهم من أجل إبراز المقبول و المرفوض. أكثر من واجه هذه الأمواج المتلاطمة من مخاصمة التاريخ له كلما إقترب الصلح معه الإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين يوم 22 مارس من العام 1928 و مرشدها الأول الذي حمل على عاتقه مسئولية إعادة الخلافة الإسلامية على وجه البسيطة بعد سقوطها في تركيا عقب إسقاط أتاتورك لها في العام 1924 و الذي نهل من مسقط رأسه بالمحمودية من ينابيع كثيرة كونت أفكاره و أرست تعاليم جماعته من الطرق الشاذلية و الصوفية مع صبغة بناوية بذرت بذورها من نبع نشأته حيث كان في طفولته ميالاً للقيادة و التنظيم مع تصنيف الناس حسب رؤيته لكل من هو مستعد لهضم أوامره منذ نعومة أظافره. هكذا ذكر البنا الذي لعب مع أصدقاء طفولته لعبة المؤمنين و الكفار و قام بالإلتحام مع أحد الأطفال تسبب له في جراح غائرة ترجمت مدى تكفيرية تفكيره منذ إخضرار عوده المهدد بالإصفرار من جفاء التكفير و الإستعداء كل هذه الأشياء وردت في مذكراته (مذكرات الدعوة و الداعية) التي حملت منهجًا ًا إصلاحيًا تبطن في طياتها القوة الخفية عند لزوم الحاجة إليها إذا جاء التصادم مع السلطة أيًا كان نوعها و هذا ما بدا واضحًا منذ التأسيس و عند النمو و الوصول إلى العام التاسع للجماعة في العام 1937 حيث كان الوفد عدوًا لدودًا للملك فاروق الأول ليجد في البنا و جماعته الريح المضادة بأصوليتها لعلمانية الوفد ليأتي الكارت الأخضر للبنا بشكل غير مباشر في التعجيل بالمرحلة الثانية لهدف الجماعة و هو الطاعة واجبة و القوة أداتنا في تكوين جيل النصر من أجل الوصول للمرحلة الثالثة و الأخيرة بأستاذية العالم و الذي تجسد في تكوين التنظيم الخاص أو التنظيم السري حيث تجييش الجماعة عبر فرق الكشافة نواة التكفيرية و جدة الجهادية لما بزغ بنضج ملتهب في سبعينيات القرن المنصرم. ظلت العلاقة بين الملك و البنا على ما يرام علاوة على تقربه من الوزراء في العام 1937 حينما إستقبل إسماعيل باشا صدقي بفريق كشافته حاملين لافتة عليها أية من سورة مريم تقول: (و أذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صديقًا نبيا). تجسد في هذا الموقف ميكيافيلية المنهج من أجل الوصول إلى السلطة و في نفس الوقت ديمجوجية الهدف بالوصول للناس عبر تلامس أوجاعهم المصنوعة من الحُكام للمتاجرة بها باسم السماء من أجل التعجيل بحلم الأستاذية المكتومة في رحم التاريخ بأوامر الأقدار. ما أكثر تقلبات أمواج الحياة و التي برزت في الخلاف القائم بين السرايا و الجماعة بعد تورط أعضاء الجماعة في عمليات تفجيرية و إرهابية تسببت في كثرة الضحايا و الأبرياء مع الخلط المتعمد بين متناقضين في العام 1948 بإرسال قوات خاصة بالإخوان في حرب فلسطين و تفجير محلات اليهود بالقاهرة حيث خلط الجهاد بالإرهاب. ظهر الفكر التكفيري العتيق في الجماعة عبر عبد الرحمن السندي الذي تولى التنظيم الخاص و غير من مسار التنظيم في مقاومة الإنجليز بمقاومة كل من يهجو الجماعة لتتوالى البكائيات ما بين حادث مقتل أحمد ماهر 1945 و مقتل أول شهيد للقضاء المستشار أحمد الخازندار و مقتل محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء و رئيس حزب السعديين في العام 1948 لتبدأ أمواج الغضب تتوسط السرايا و الجماعة و التي أحلت بقرار من النقراشي دفع بحياته ثمنًا لهذا القرار لتبدأ عملية التطهير و المطاردة لجماعة البنا و وضعهم في السجون ليحاول البنا إنقاذ ما يمكن إنقاذه مستجيبًا لضغط الحكومة بإعلانه أن هذه الحوادث لا علاقة لها بالإسلام و منفذي تلك العمليات لا إخوان و لا مسلمون. هنا كانت شهادة الختام لحياة البنا معنويًا و التي ترجمت ماديًا بقتله يوم 12 فبراير من العام 1949 عبر سرايا الملك فاروق حتى لا تقوم للجماعة هَّبة جديدة تأكل بها الأخضر و اليابس ليُكتب على البنا مُخاصمة التاريخ له و حرمانه من جنازة كبيرة حاشدة يذكرها التاريخ كجنازات زعماء آخرين كمصطفى كامل و سعد زغلول و تقوم زوجته و بناته بحمل نعشه و لا يسير فيها إلا أبيه الهَرم و مكرم باشا عبيد لقبطيته و إبراهيم عفيفي الشاب القبطي المعجب بفكره و الذي أسس على نهجه جماعة الأمة القبطية. ظل الخصام ممتدًا للبنا إلى أن جاءت ثورة يوليو 1952 ترى تعاطف الإخوان معها ليقوم محمد نجيب و جمال عبد الناصر و أنور السادات بزيارة ضريح البنا في العام 1953 و يخطب عبد الناصر قائلاً: (إننا هنا من هذا المكان نستلهم روح الثورية التي نهلناها من الإمام حسن البنا و من خلال ضريحه نتذكر أن الثورة أتت للتغيير كما كان يحلم الإمام). جاء العام 1954 ليشهد الصدام بين الإخوان و ثورة يوليو لتتوالى الجولات و تُختم بمحاولة قتل جمال عبد الناصر في حادث المنشية الشهير في العام 1954 و التي صرخ فيها قائلاً: (فليبقى كل في مكانه أيها الرجال أيها الأحرار دمي فداءً لكم حياتي فداءُ لمصر فإذا مات جمال عبد الناصر فكلكم جمال عبد الناصر). هذه الكلمات أوضحت شمولية الثورة في حكمها عبر شخص واحد أثناء الصراع ما بين الفاشيتين الدينية و العسكرية و طال التطهير سيد قطب خطيب الثورة المصرية ليظل الكتمان مصير الإخوان و مرشدهم الأول لا يُذكر منهم أحدًا في التاريخ. يأتي العام 1964 و تتم عملية المصالحة بين الدولة و الجماعة ليشرق من جديد نهم الجماعة للسلطة عبر تحولها من إصلاحية البنا إلى تكفيرية قطب عبر سِفره المقدس لديهم (معالم في الطريق) و التي دعت الجماعة لمخاصمة إصلاحية البنا و أن لا يفل للحديد إلا الحديد كدلالة على ضرورة القوة في مواجهة الدولة الخارجة عن الشرع و الدين و لا تملك الإسلام إلا اسمًا ليُخاصم البنا عبر قطبية الجماعة و محاولتهم للإنقلاب في العام 1965 الذي فشل بالمحلة بالقبض على قطب و أعوانه ثم إعدامه في العام 1966 ليكون الخصام مزدوجًا لمرشداها الديني و الفكري. تتوالى الأيام بثبات أحداثها في إنتظار مجرات تحرك الراكد و الساكن لتغيير مسار التاريخ و هذا ما حدث بوفاة ناصر في العام 1970 و تولي السادات الأمور و القضاء على مراكز القوة في 15 مايو من العام 1971 ليُعيد الأحزاب و الجماعات الدينية من جديد مع خروج جماعات تكفيرية من جلباب الإخوان عبر 38 جماعة لتتم الصفقة ما بين السادت و الإخوان من أجل ضرب الشيوعيون و اليساريون و الناصريون لتأتي الرياح بما لا تشتهي السفن بتعاون اليسار مع اليمين في صفقة شيطانية و البنا متأرجحًا ما بين إنصاف التاريخ و نكرانه له حسب الصراع الدائر بين السادات و أصحاب الصفقة الملتهبة. تطول ألسنة الصفقة الرئيس أنور السادات في العام 1981 يوم نصر أكتوبر و البنا لازال متأرجحًا بين شقي التاريخ لتستمر الأزمة في عهد مبارك الذي كرر أخطاء السادات بسماحه بوجود مدارس تابعة للإخوان كما حدث في الجامعة في السبعينات بظهور أجيال تنضح شرًا و دمويةً في مستهل حياتهم لنصل لما نحن فيه الآن و ترفض الأقدار معانقة التاريخ للبنا ليظل مبتعدًا عن الخلود و التأريخ له ثمار ما طرحه و جناه عبر تلاميذه حيًا و ميتًا.