ما أجمل الواقعية السحرية بالأدب اللاتيني و خاصةً الأمريكي الجنوبي الذي جعل من الخيال سحرًا ملموسًا يغير من مرارة الواقع بشيء من الأماني المعقولة الملامسة للأرض لتكون بحق واقعيةً ساحرة تتراقص مع حلو الكلمات و التشبيهات و من رواد هذا المجال كاتبًا كبيرًا من جواتيمالا تلك الأرض المجهولة ثقافةً و معرفةً لمدة طويلة إلى أن جاء هذا الحكاء الأوحد يزيح أتربة التجاهل من على تراث بلده الغني ليكون فائز جواتيمالا الأوحد بجائزة نوبل للآداب ميغل أنخل أستورياس في العام 1967. ولد ميغل أنخل أستورياس يوم 19 أكتوبر من العام 1899 بجواتيمالا سيتي العاصمة الجواتيمالاية ، عاش أستورياس طفولته و مراهقته بمسقط رأسه في ظل حكم الديكتاتور إسترادا كابريرا و ذاق أستورياس مرارة الفقر في ظل حكم هذا الديكتاتور و على الرغم من ذلك حصل على البكالوريا من المدرسة العليا و ألتحق بجامعة سان كارلوس لدراسة الحقوق و التي حصل على درجتها في العام 1923 و في نفس العام صدر له بحثًا بعنوان (المشكلة الاجتماعية للهنود الحمر) حيث تحدث عن الهنود السكان الأصليين لأمريكا اللاتينية. ساهم أستورياس في تأسيس الجامعة الشعبية لجواتيمالا لمنح الغير قادرين فرص التعليم خاصة الذين لم يستطيعوا الإلتحاق بالجامعة الوطنية بجواتيمالا ليساهم في نشر التعليم لغير القادرين ليكون بحق دون إشارة لذلك في كتب التاريخ و الأدب أن أستورياس رائدًا للتعليم المجاني بجواتيمالا. في العام 1923 سافر أستورياس إلى أوروبا بادئًا جولته بلندن لدراسة الاقتصاد و لكن لم يمكث بها سوى أشهرًا معدودة لينتقل إلى باريس لدراسة القانون الدولي العام و إذ بدراسة علم السلالات تخطفه من دراسة القانون في السوربون و تعرف على أستاذه الروحي و الجامعي جورج راينود الفرنسي المتخصص في دراسة ديانات المايا و قام أستورياس بترجمة الكتاب المقدس لشعوب المايا بعنوان (أساطير من جواتيمالا) و صدر بالإسبانية العام 1930 بمدريد و ترجم للفرنسية مع مقدمة بقلم الشاعر الفرنسي بول فاليري الذي أعجب بهذه الأشعار و الحكايات و الأحلام ناصحًا أستورياس بأن يعود لوطنه الأم ليغترف منها المزيد حتى لا يصبح مجرد مقلدًا بباريس. إستمرت رحلة باريس عشر سنوات من العام 1923 حتى العام 1933 و أثناء تلك السنوات عمل محررًا ببعض الصحف اللاتينية و تنقل كصحفي رحالة ما بين أوروبا و الشرق الأوسط و اليونان و مصر و في العام 1928 عاد لجواتيمالا ليقوم بإلقاء محاضرات بالجامعة الشعبية التي وضع لمساته الأدبية الوطنية في تأسيسها و كانت عنوان المحاضرات التي ألقاها (العمارة في حياتنا العصرية) و بعدها عاد لباريس و كان إصدار كتابه (أساطير من جواتيمالا) في العام 1930 ثم حصول كتابه على جائزة (سيلا مونسيجير) التي تمنح للكتب الأمريكية و الإسبانية المنشورة بفرنسا في العام 1931. عند عودة أستورياس لبلاده نضح على قريحته الأدبية قريحتي الشعر و الرواية و صدر في العام 1933 رواية بعنوان (الرئيس) تسخر من النظام الديكتاتوري للرئيس الجواتيمالي (جورجيه أوبيكو) و تعرض أستورياس للإعتقال بسبب هذه الرواية ليأتي العام 1944 حاملاً مفاجأة الإطاحة بأوبيكو ليحل محله الرئيس الجديد البروفيسور (خوان خوسيه أريفالو ) الذي عوض أعوام الإعتقال لأستورياس بتعيينه مُلحقًا ثقافيًا لسفارة جواتيمالا بالمكسيك و يأتي العام 1946 كاسرًا قيود الرقابة على رواية (الرئيس) لتكون بين أيدي القراء. صدر لأستورياس دواوين شعرية و هي: - رسائل هندية. - سهرة الربيع المضيئة. و قام في هذه الفترة ما بين الثلاثينات و الأربعينات بإصدار مسرحيتان هما: - سولونا. - محكمة الحدود. عُين أستورياس مُلحقًا ثقافيًا بالسفارة الجواتيمالية بالأرجنتين في العام 1947 و ظل بهذا المنصب حتى العام 1949 و نشر في عامه الأخير بالأرجنتين مجموعته الشعرية التي كتب فيها قصائد لمدة ثلاثون عامًا من العام 1918 حتى العام 1948 بعنوان (معبد لارك) و في العام 1950 صدر له الطبعة الثانية من روايته (الرئيس) التي لاقت قبولاً كبيرًا و أصبحت الماركة المسجلة باسمه. جاء نظام الرئيس الجواتيمالي (خاكوبو أربينييز) الذي حل محل نظام الرئيس (خوان خوسيه أريفالو) و لكن سقط النظام في العام 1954 ليتم نفي أستورياس الذي وقف بجانب الحكومة الوطنية إلى بلد زوجته الأرجنتين و ظل بها حتى العام 1962 و كتب أستورياس الثلاثية الشهيرة بعنوان (شركة الموز) التي إنقسمت إلى: - العاصفة 1950. - البابا الأخضر 1954. - عيون المدفونين 1960. هذه الثلاثية عبارة عن صرخة في وجه إستغلال جهد عمال مزارع الموز في الأراضي المنخفضة بجواتيمالا و كتب في العام 1956 رواية بعنوان (عطلة نهاية الأسبوع في جواتيمالا) و التي روى فيها قصة إجتياح مشاة القوات الأمريكية جواتيمالا في العام 1954 و سقوط أربينييز. نُشر لأستورياس في العام 1953 رواية عن حضارة المايا بعنوان (رجل الذرة) و التي يمتزج فيها الواقع بالخيال مع عبق أساطير المايا الزاخرة بالكثير و الكثير. ظل أستورياس بالأرجنتين ثمان سنوات حتى العام 1962 و تم طرده من بيونس أيرس لتأييده فيدل كاسترو صاحب المباديء الشيوعية مما جعل الخوف يتسرب لدولة الأرجنتين ذات التوجه الرأسمالي من أستورياس لتقوم بطرده من بيونس أيرس ليرحل إلى فرنسا التي روته من علمها و أدبها و جمالها الساحر و إستقبلته فرنسا بحفاوة كبيرة و قبل تركه للأرجنتين كانت له جوالات متعددة يلقي فيها بمحاضرات عن أرائه السياسية و الأدبية بالصين و الاتحاد السوفيتي و الهند و دول أمريكا اللاتينية متجرعًا مرارة التدخل الأمريكي بإقصاء الحكومة الوطنية كما حدث لبابلو نيرودا شاعر شيلي الذي صُدم بإقصاء الحكومة الوطنية لشيلي برئاسة السلفادور ألليندي في العام 1973. على الرغم من صعوبة تلك المرحلة بأوجاعها إلا أن تلك الأوجاع ساهمت في تدفق روايات أستورياس الخالدة و هي: - اللص الذي لم يكن يؤمن بالسماء 1963. - الخلاسية 1963. - رُمة الشحاذ 1966. - توروتمبو 1966. - مرآة ليداسول 1967. - حكايات الرجل الذي يملك كل شيء ، كل شيء 1967. هذه الأعمال مناجاة سحرية لجمال جواتيمالا مع تضفيرة رائعة بين الواقعية و السريالية في أدب أستورياس حيث المزج بين المدرسة الفرنسية و اللاتينية في بوتقة واحدة. حصل ميغل أنخل أستورياس على جائزة لينين للسلام من الاتحاد السوفيتي العام 1966 و جاء العام 1967 ليحمل مفاجأة رائعة تعويضًا عن سنوات الغربة و تقديرًا لأدب أستورياس الذي أوصل جواتيمالا للعالمية بمنح الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للآداب له و ذلك: (لإنجازه الأدبي الخالد في التعبير عن الجذور الهندية القومية لأراضي أمريكا اللاتينية و خاصةً الأراضي الجواتيمالية). إحتفت فرنسا بهذا القرار و هذا التكريم بتصفيق كبير و تم إجراء مقابلة تليفزيونية معه لعالمية أدبه المكرم و جاءت رحمات الوطن في نفس العام بتعيين أستورياس سفيرًا لجواتيمالا بباريس من قِبل حكومة (مندس مونتينيجرو) و نظم معرضًا بالقصر الكبير بباريس عن تراث المايا بالتعاون مع وزير الثقافة الفرنسية أندريه مالرو أستاذه الروحي و الأدبي و تلقى تقديرًا من جامعة السوربون العام 1968. شارك أستورياس في آخر حياته في مؤتمر السلام في هلسنكي وفي محادثات جامعة داكارعن الزنوج وأمريكا اللاتينية، وكان يصرّ على ضرورة خلق تفاهم دولي حول شرعية الثقافات الخلاسية. توفي أستورياس يوم 9 يونيه من العام 1974 بمدريد و هو في قمة توهج نشاطه الأدبي بعد أن وهب مخطوطاته للمكتبة الوطنية بباريس التي أقامت له حفلاً مهيبًا يتلائم مع قامته الأدبية المهيبة.