من الأحاديث الشهيرة التى يعتمد عليها دعاة العنف والإرهاب، الحديث الذى جاء بمسند الإمام أحمد عن ابن عمر (رضى) أن النبى (ص) قال: «بُعثت بين يدى الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله وحده لا شريك الله، وجُعل رزقى تحت ظل رمحى، وجُعل الصغار على من خالف أمرى، ومن تشبه بقوم فهو منهم»، هذا الحديث، بغض النظر عن الكلام الكثير الذى قيل فى سنده، إلا أن متنه (أى نصه ومضمونه) يتناقض، بل يتصادم، مع الكثير من الآيات القرآنية، المكية والمدنية، وهو ما يجعلنا نرده ونتوقف عن قبوله والرضا به.. خذ مثلا قول المولى تعالى: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» (الأنبياء: 107)، وقوله: «ويوم نبعث فى كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين» (النحل: 89)، وغير ذلك من الآيات.. وخذ أيضا قول النبى (ص): «إنما أنا رحمة مهداة».. فكيف يتفق هذا مع السيف والرمح، خاصة ونحن نتحدث عن دعوة الآخرين (بالحكمة والموعظة الحسنة)، وإقامة الحجة على المخالفين لدين الله (بالإقناع والمناقشة والحوار والجدال بالتى هى أحسن)، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له (طواعية واختياراً، ودون شبهة إكراه)؟! إن جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية والحنابلة يقولون إن العلة التى تبيح للمسلمين قتال أعدائهم هى الحرابة- أى المحاربة- والمقاتلة والاعتداء، وليس مجرد الكفر، بينما يرى الشافعى فى أحد قوليه أن علة القتال هى الكفر. ورأىُ الجمهور هو الراجح بناء على الآيات المحكمات التى ذكرناها فى مقالنا الفائت.. وقد أورد فيصل مولوى فى كتابه «المسلم مواطناً فى أوروبا» أدلة أخرى من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التى تمنع قتل كثير من الكفار لأنهم لم يحاربوا أو لعدم قدرتهم على القتال.. وقد استدل أيضا بوصية أبى بكر لجيشه وهى ألا يتعرضوا لمن حبسوا أنفسهم فى الصوامع، وألا يقتلوا امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما، وبما ذكره البيهقى عن جابر أنه قال: «كانوا لا يقتلون تجار المشركين»، وعن عمر بن الخطاب أنه قال: «اتقوا الله فى الفلاحين فلا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب».. إن الأصل فى العلاقة بين المسلمين وغيرهم ليست الحرب، ولا يكون الكافر حربياً إلا إذا أعلن هو (أو دولته) الحرب على المسلمين، أو إذا أعلن المسلمون الحرب عليه أو على دولته لأسباب مشروعة، وعند ذلك فقط يمكن أن نطبق فى معاملته أحكام الحرب. وفى كتابه (الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية)، يعلق الريسونى على آية (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) [المائدة: 13]، بأنها تتضمن دعوة صريحة للعفو والصفح عن الأعداء والخصوم فيما يصدر منهم من إساءات وأذيات، وهذا وذاك من الفضائل الخلقية الكلية، التى تصلح للأفراد والجماعات وفى جميع الأحوال والمجالات، وهى محتاج إليها مع المخالفين والأعداء أكثر مما يُحتاج إليها مع الإخوة والأصدقاء.. ولكنها على كل حال عامة فى هؤلاء وهؤلاء، بل إن هذه الآية وأمثالها إنما نزلت فى الأعداء والمناوئين لرسول الله (ص).. على الرغم من ذلك وُجد من العلماء- سلفا وخلفا- من يقول بنسخها أو بتخصيصها، كما أن عددا من المفسرين يحكون ذلك دون إنكار أو تفنيد، كما عند البيضاوى فى الآية المذكورة، وأن العفو والصفح مرتبط بالذين تابوا وآمنوا أو عاهدوا والتزموا «الجزية».. وقد حُكى عن قتادة (أحد مفسرى التابعين) أن هذه الآية منسوخة، نسختها آية براءة: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون» (التوبة: 29)، إلا أن الطبرى رفض القول بالنسخ، وقال: والذى قاله قتادة مدفوع إمكانه.. وليس فى هذه الآية دلالة على الأمر بنفى معانى الصفح والعفو عن اليهود.. لذا نقول إذا كانت كتب التراث مليئة بفكرة قتال أهل الكفر لمجرد علة الكفر، رغم مخالفتها وعدم اتفاقها مع المحكم من الآيات فى كتاب الله، فكيف بمن يتعامل مع نصوص القرآن والسنة دون أن تتوافر له الأدوات اللازمة لذلك، فيقع فى أخطاء وخطايا كبيرة فى الفهم والتطبيق، تصل إلى استحلال الكثير من الدماء؟!.. انظر إلى جماعات التكفير والعنف والإرهاب (داعش، والقاعدة، ومن لف لفهما) وما تقوم به من ممارسات.. هذه الجماعات تنظر إلى أنظمة الحكم العربية ومؤسساتها، من جيش وشرطة وقضاء وإعلام، على أنها كافرة، وتعتبر مجتمعاتها- كما كان يصفها سيد قطب منذ أكثر من خمسين عاما- مجتمعات جاهلية.. نحن فى الواقع أمام جماعات تريد فرض سيطرتها بالسلاح على مجتمعاتنا وإخضاعها قسرا لفكرها، وإلا فالقتال والموت والفناء.. وهذا يلقى على أهل الفكر الصحيح والفهم السليم تبعة كبيرة ومسؤولية ضخمة فى توضيح وتبيان أوجه الخطل والخلل فيما وقع فيه هؤلاء، فقد أصبحنا بالنسبة لهم كفاراً وأعداء، ولم تعد المسألة خلافا فكريا أو سياسيا، بل أضحت حرب وجود.. وللأسف، هذا الفكر ينتشر كما النار فى الهشيم، ويجد له أنصارا لدى الكثيرين من الشباب الذين لا يملكون علما، ولا فهما، ولا فقها.. ومن ثم فإن تحصين شبابنا من الوقوع فى براثن هذا الفكر هو واجب الوقت، حتى لا يُستدرجوا للانضمام والقتال فى صف هذه الجماعات.. وغنىٌّ عن البيان أن تماهى جماعة الإخوان مع فصائل العنف والإرهاب، وسعادتها الكبرى بما ترتكبه من جرائم فى حق الشعوب والأوطان، علاوة على مشاركتها فى أعمال التخريب والحرق والتدمير، فضلا عن ارتمائها واستجدائها لأمريكا وتابعيها فى محاولة لتركيع مصر، وإضعاف مؤسساتها، والرهان على زعزعة أمنها واستقرارها.. أقول كل ذلك يمثل- فى ميزان القيم الإسلامية والوطنية- خيانة عظمى.