عشرات الألوف من أطفال أمريكا الوسطى يطرقون أبواب الولاياتالمتحدة كل عام أملا فى أن تفتح لهم ليبدأوا حياة جديدة بعيدا عن الفقر. وجدوا فى بلادهم من يحرضهم على الرحيل وعصابات تهريب بشر ومخدرات تنشر شائعات عن سهولة الرحلة إلى أمريكا وعن طيبة الأمريكيين وحسن معاملتهم للأطفال. تحصل هذه العصابات على مبلغ قبل القيام بالرحلة ملتزمة تسليم الطفل إلى عملاء على الناحية الأخرى من الحدود. هذه الصفقة لا تكتمل أحيانا، إذ قد تكتشف العصابة فى الطفل ذكاء ودهاء يفيدها فى مهام أخرى وبخاصة تهريب المخدرات فتدبر أمر اختطافه واختفائه، أو قد لا يكون مطيعا فينتهى به الأمر قتيلا فى حفرة بعد جولة من التعذيب والتجويع وهتك العرض. أما من يقدر له أن يعبر الحدود فسوف يصل منهكا ومريضا وفى حاجة عاجلة إلى «تدخل إنسانى»، وعد بتقديمه الرئيس أوباما، وهو الوعد الذى يضع الرئيس أوباما فى موقف الضعف أمام معارضيه فى الكونجرس، وبخاصة أمام التيار المتعصب المنتصب تشددا وكراهية ضد الهجرة بصفة عامة والهجرة من دول أمريكا الوسطى بشكل خاص. أكثر هؤلاء الأطفال لو لم تتح لهم فرصة الهجرة إلى أمريكا لانتهوا أطفال شوارع فى هندوراس والسلفادور وجواتيمالا وكوستاريكا، أو وقعوا فى حبائل عصابات تهريب المخدرات، أو أصبحوا أرقاما فى سوق النخاسة. ومع ذلك فهناك فى أوساط الكونجرس وصحف اليمين الأمريكى من يردد باقتناع أن حكومات أمريكا الوسطى متورطة فى هذه الهجرات الجماعية بعد أن اكتظت شوارع العواصم بالأطفال الفقراء الذين راحوا يرتكبون جرائم شتى، بينما الشرطة والأهل غير مبالين أو لعلهم متواطئون ومتضامنون. تبالغ الجماعات المحافظة الأمريكية فى سرد أسباب هجرة الأطفال من أمريكا الجنوبية إلى الولاياتالمتحدة. صحيح أن هناك فقرا شديدا وبخاصة فى دول أمريكا الوسطى، وصحيح أيضا أن حالة العنف المنتشرة فى جميع المدن تزداد وحشية وتزداد الأخطار التى يتعرض لها الأطفال. وقد تلعب الحكومات دورا فى تشجيع بعض الأطفال على الهجرة إلى أمريكا، ولاشك أيضا أن نشاط عصابات الجريمة المنظمة وتهريب المخدرات قد تضاعف فى الآونة الأخيرة إلى حد الحاجة إلى تجنيد عدد متزايد من الأطفال. ولكن الصحيح أيضا، هو أن الحكومة الأمريكية قد درجت عبر السنين على إبراز محاسن الهجرة إليها والحياة فيها، فضلا عن أنها دأبت على تسهيل إجراءات إقامة المهاجرين والسماح بين الحين والآخر لأعداد كبيرة من المهاجرين غير الشرعيين بتقنين أوضاع إقامتهم والاستقرار كمواطنين. أما الرأى العام الأمريكى فمنقسم، بين غالبية غير مبالية، وأقليتين احداهما مؤيدة بحماسة السماح بدخول الاطفال المهاجرين والأخرى معارضة بقسوة وضراوة. المؤيدون مستندون إلى أن أمريكا تقليديا وتاريخيا جعلت من الهجرة إليها حقا عالميا لكل شعوب العالم، ولا يحق للجيل الراهن من الأمريكيين التنكر لهذا الحق التاريخى. رفعوا على مدى تاريخهم شعارات من قبيل «أمريكا بلد الفرص، ومن حق جميع الناس أن تجرب فرصتها لتحقيق الحلم فى الرخاء». ومازال الاقتناع قويا لدى فئات معينة فى الشعب الأمريكى بضرورة الاستمرار فى تشجيع الهجرة. ففى مؤتمر عقد أخيرا فى نيويورك تحت عنوان «أرضنا هى أرضكم» للرد على حملة الكراهية التى دشنها اليمينيون ضد الأطفال المهاجرين من أمريكا الوسطى، قال الوزير المختص بشئون المهاجرين فى حكومة نيويورك، متفاخرا ومعترفا بأنانيته، «إن هؤلاء الوافدين الجدد يمثلون أهمية لنا ولاقتصادنا، هم عمالتنا، وهم الذين يقيمون المشروعات والاستثمارات الجديدة. نريد أن يقيم المهاجرون فى مدينة نيويورك، ونعرف أيضا أن ولاية نيويورك تريدهم عندها». يتصدى لهذا التيار الداعم لفتح أبواب الهجرة أمام الأجانب، تيار معاد للهجرة وللأجانب عموما. كانت مثيرة للانتباه القسوة التى اتسمت بها مقالات الصحف اليمينية وتصريحات قادة الكونجرس المتطرفين فى عدائهم للهجرة، قيل ومازال يتردد فى هذه المقالات والتصريحات إن هؤلاء المهاجرين يحملون جراثيم وفيروسات تنشر الأمراض والأوبئة. بل راحوا، وأقصد أعداء الهجرة، يستغلون حوادث منفردة تؤكد ما يسعون لنشره بين المواطنين. قالوا إن طفلا من بين 52 ألف طفل مهاجر ثبت انه مصاب بإنفلونزا الخنازير. أعادوا بقصص من هذا النوع إلى ذاكرة الأمريكيين كارثة عام 1918 عندما انتشر فى أوروبا وأمريكا وباء الإنفلونزا بسبب الهجرة من إسبانيا. معروف أيضا أن منظمة كو كلوكس كلان الأمريكية والإرهابية المعادية للزنوج والأجانب ومثيلاتها من المنظمات العنصرية كانت تطارد المهاجرين الايطاليين وتحرق ممتلكاتهم بحجة أنهم ينشرون شلل الأطفال، والأيرلنديين لأنهم كانوا السبب فى انتشار وباء الكوليرا والألمان لأنهم يحملون جرثومة خبيثة للقضاء على الشعب الأمريكى. أما الخياطون اليهود القادمون من شرق أوروبا فهؤلاء نشروا مرض السل فى أنحاء نيويورك. يبرر بعض المعارضين بوحشية للهجرة من أمريكا اللاتينية، وبخاصة هجرة الأطفال، موقفهم بأنهم يخشون أن ينقل الأطفال أمراضا وأوبئة منتشرة فى بلادهم إلى الولاياتالمتحدة. فى الوقت نفسه يعتقد المواطنون المؤيدون للسماح بدخول الأطفال إلى أمريكا أن المشكلة فى رأيهم تكمن فى تقصير الرئيس أوباما فى الواجب الملقى على عاتقه وهو حماية أرواح هؤلاء الأطفال ورعايتهم وضمان حقهم فى حياة آمنة وسليمة فى الولاياتالمتحدة. يؤكدون أن هؤلاء الأطفال إذا اغلقت أمامهم حدود أمريكا فسوف تتسلمهم عصابات الرقيق والمخدرات، أو فى أفضل الأحوال يعودون إلى بلادهم ليسكنوا شوارعها ويخالفوا القانون والأمن، ولن تستطيع الحكومات أن تفعل شيئا، فهى لا تملك موازنات كافية لرعاية أطفال الشوارع، حتى بعد ان حصلت من حكومة أوباما ووكالة المعونة الأمريكية على وعود بمنح مساعدات لهذا الغرض. لا حل ممكنا للمشكلة إلا بالقضاء على الفقر فى دول أمريكا الوسطى وتحقيق درجة عالية من العدالة الاجتماعية وتقليم أظافر القوى المفترسة الخارجية والمحلية التى اعتادت نهب ثروات هذه البلاد. خلاصة القول لا حل ممكنا إلا على يد أمريكا التى استفادت أكثر من أى دولة أخرى فى العالم من ثروات شعوب أمريكا الوسطى، ولا حل ممكنا إلا ويبدأ بتسهيل هجرة هؤلاء الأطفال ورعايتهم وصنع مستقبل جديد لهم. أطفال الشوارع فى مصر لا يهاجرون بسبب جغرافية المكان، إنما يهاجر هؤلاء الذين تلقوا نصيبا من التعليم والخبرة. بمعنى آخر لا حل ممكنا لأطفال الشوارع فى مصر ينتظرهم أو يأتيهم من خارج الحدود، بل لا حل ممكنا خارج اطار شبكة برامج للحد من الفقر ورفع مستوى المعيشة فى الريف المصرى وتطوير العشوائيات فى اسرع وقت ممكن. المشكلة مرشحة للتفاقم مع استمرار فشل الدولة وتقصير منظمات المجتمع المدنى وتجاهل المواطنين لها. الأطفال يكبرون والأسفلت يعلمهم القسوة ويكسبهم مهارات وسلوكيات تؤذى المجتمع وتهدد الاستقرار. عندئذ الصدام واقع لا محالة ولن ينفع الندم.