لم تُعرف بعد المدة الزمنية التي سيستغرقها الإعلام العربي لاستحداث جائزة مخصصة لأفضل قبلة في الأعمال الدرامية العربية، عملا بالسنة السنوية لشبكة تلفزيون «أم تي في» الأمريكية، التي أطلقت شرارتها عام 1992 ، بمنح الجائزة لبطلي فيلم « My Girl» الطفلين : Anna Chlumsky- Macaulay Culkin كأفضل أداء نجح بفك الطوق القانوني ليحكم رباط العهد بين القبلات والبنية العضوية للنص السينمائي ضمن آلية التفوق الميكانيكي الذي بمقدوره تغيير اتجاه القوة المؤثرة دون الانفلات من زمام الجاذبية. يعني لو عدت لكل المشاهد التي فازت بهذه الجائزة منذ انطلاقتها وحتى آخرها عن فيلم «The Fault In Our Stars»، لن تجد قبلة واحدة لم توظف لتخدم السياق الفني والعاطفي الذي يشحن الأداء وينبثق من صلبه فيحكم اللحمة بين قرونه الاستشعارية برأس أخطبوطية. وبما أنها بدأت بوادر التحمئة الدرامية في عالمنا العربي لتهيئة المشاهد لمشاهد ساخنة وجريئة توشك على خوض غمار صناعة القبلة في العمل الدرامي، فلا بد من أخذ الأمر على محمل الجد، لأن الفنان العربي يقع فريسة سهلة للتقليد الأعمى للأعمال الدرامية التركية، التي اقتحمت الفضائيات العربية بسلال من الشفاه الوردية والملاعق الوسطى بين الشفتين، لتثير غرائز مكبوتة في كواليس الدراما العربية، التي تشن حربا مضمرة قوامها التحدي للأعراف الاجتماعية وللمشاهد الذي يتقبل القبلات بروح رياضية طالما أنها مستوردة وليست صناعة محلية. صناعة القُبلة عندما يستنكر الفنان العربي هذا التناقض فإن الحق كل الحق معه، وعندما يتساءل آخر: «مهند أحسن مني بشو»؟ وتقول أخرى: «في بلادنا من هن أكثر جاذبية من فاطمة غول» .. لن نعترض، لأننا لطالما انتظرنا ملاحم درامية عربية تخترق التابوهات، وتغوص عميقا في القضايا المحرمة والمسكوت عنها بإطار فني ورؤية راقية وإنتاج لائق، لأننا نملك طاقات إبداعية هائلة سبقت الغزو الدرامي التركي بكثير، لتسجل بصمتها الإبداعية في أعمال عظيمة ك»قصر الشوق» و»ليالي الحلمية» و»نهاية رجل شجاع» و»ملوك الطوائف» و»الزير سالم» و»لو» وغيرها، وأخيرا «تشيللو» و»العراب» أروع ملاحم الدراما الاجتماعية في تاريخ الفن العربي. ولكن !صناعة القبلة هي التحدي الحقيقي لشرعنتها، والقفز من فوق كل الأسلاك الشائكة التي تعترضها، بل إننا قد نباركها ونطالب بتخصيص جائزة سنوية لها في حالة واحدة فقط، عندما تكون الرحلة إلى القبلة أجمل بكثير من القبلة نفسها، فتحضيرها في مختبر السياق الدرامي وتأجيج حمحمتها قبل إضرامها هو مربط الصناعة. رُخصة «بوس» ما يميز الدراما التركية هو الفنية العالية للاشتغال على المشهد قبل الوصول للقفلة، وقد يستغرق هذا أكثر من حلقة، بل قل حلقات، تكون القبلة فيها نتيجة حاسمة لكل ما سبقها من غليان يؤدي إليها، لتأتي مبررة ومقنعة، مستنفذة لكل المشحون العاطفي في النص، مما يجعلها ضرورة عاطفية، وحكاية متممة للحكاية الناقصة، فإن تم استثناؤها تخلخلت أواصر القصة، وتقطعت أنفاس التصاعد النفسي وبتر حبل الصرة بينها وبين رحم الحكاية برمتها. «تشيللو» الذي يتكئ على قصة فيلمIndecent Proposal-1994 ، وقع في محظور إقحام مشهد ساخن لقبلة مكممة، بين بطلي العمل، فافتعل ما لا محل له من الإعراب، على طريقة «شم ولا تذوق»، بحركة سخيفة «بايخة»، نيئة لم تنضج بما يكفي لاستمالتك وإقناع عاطفتك بها، أو تهيئتك وشحذ مخيلتك، فجاءت كالصفعة المتلكئة. يا عمي، إن أردتم أن (تبوسوا فبوسوا)، «مني وعلي» لا مانع لدي، ولكن كل ما نطلبه منكم احترام عاطفة المشاهد وذائقته، والوفاء للرسالة الفنية والأداء البعيد عن الابتذال والانجراف وراء الإثارة بلا دواع إبداعية حقيقية، حينها سندخل النار وقد شهدت علينا أعيننا، بنفس راضية مرضية، طالما أننا انتصرنا للفن، على اعتباره أسمى درجة في سلم الأخلاقيات، وأرقى المظاهر الحضارية للحرية عبر التاريخ. «حارة اليهود» و«نجمة داود» عداك عن البلاهة التي تسم أداء منة شلبي في «حارة اليهود»، فإن العمل لا يقل حمقا وغباوة، وهذا لا ينأى به عن الخطورة، لأن في التفاهة خطرا يفوق خطر الخبث والوقار في دراما تصهر الوعي الجمعي، وتحرف الموروث القيمي عن مساره لتزج به في»بدروم» الظرف السياسي. هناك رسائل مشفرة في مسلسل حارة اليهود، وعمليات غسيل أدمغة، ومحو ذاكرة جمعية، تضعه في قفص الإتهام، لأن الهدف هو إلغاء القيمة الوطنية للنضال ضد الاحتلال الاسرائيلي، وحصرها في عمليات إرهابية للإخوان المسلمين، وتوجيه أصابع الاتهام لهم بفكفكة الالتحام العضوي للمجتمع المصري الذي يضم «موزاييكا» من الطوائف، أما الجندي المصري الذي افتعله العمل كأسير في سجون اسرائيل، أتى ليطبطب على المشاعر القومية لا أكثر، وليبعد الشبهة عن الهدف الرئيس:عقد قران بزواج عرفي بين «نجمة داود» و«حارة اليهود» المصرية. العمل فارغ، كجوقة نحاسية، لا يحمل مضمونا إبداعيا ولا وطنيا، كل ما هنالك، أنه وضع «أبارتهايد» دراميا بين فئات المجتمع، وشيد جدارا برلينيا قسم مصر إلى جغرافيتين سياسيتين إحداهما تنتصر لليهودي المصري وتضمه إلى نسيجها الإجتماعي والسكاني، بينما تقوم الأخرى بفرض عزلة إجبارية واجتثاث جراحي للإخواني على اعتباره العدو الأول للمصريين، فأية جريمة درامية؟ وأية عنصرية؟ وأية طامة يا الله؟ ملحمة «العراب» يعود حاتم علي، ب «العراب– نادي الشرق» بنسخته العربية، التي تستحق البطولة المطلقة عن جميع الفئات التنافسية من نص وإخراج وإنتاج وأداء ملحمي يبرع بإحاكة شبكة من الانشطارات العنقودية والعلاقات المتداخلة والمتفرعة من نواة واحدة، تنفلت من عقالها لترتد إليها، بقوة دفع عكسية ومقادير سرعة محسوبة بالملميتر، وميزان حرارة يجس درجة غليان المشهد، بدقة، ويقلب ساعته الرملية على وقع رفع الستارة وإسدالها والمراوحة بين الانفعالات ضمن إيقاع حركي متوازن، يشد الحبل ويرخيه، فيدير البكرة بخاصرة ثابتة وقوام عضلي رشيق. «العراب» لا يبدأ من ساعة الصفر، إنما يطلق صافرة النهاية ليلتف إلى الوراء بحركة نصف دائرية، يعرض المشاهد التي لم نرها، دون أن يقع في فخ «الفلاش باك»، الذي يبتر الخيط الدرامي، ليلعب المسلسل على وتر الذاكرة ليس ضمن استحضارها إنما بإعادة صياغتها من جديد.. يشدك إلى الخلف، كي تمضي قدما نحو الوراء. براعة ملحمية تليق بالدراما الحاتمية... ولم نزل بعد في آخر الطريق إلى صفر البداية التي تبشر بأجزاء لاحقة تلمح إلى اختطاف «آل باتشينو» من معطف باسل الخياط ! مصر خارج السيطرة نيللي كريم في مسلسل «تحت السيطرة» ليست البطلة المطلقة، ولكنها العنصر البطولي الذي لا يمكن للعمل أن يكون بطلا بدونه. المسلسل يعالج فكرة الإدمان، في سياق متحلل من التزويق والمبالغة، أو من البهدلة الاستعراضية والشحتفة السوداء، وإن جاء متأخرا عن موعد إحكام السيطرة، فالأهم أنه جاء كمرآة لواقع الحال في المجتمع المصري الذي يعج بالمدمنين من الطبقات كافة، والشرائح العمرية، والفئات الجنسية، ولا غرابة أن فرادته في عدم إثارته للصدمة، طالما أن الواقع أصلا أكثر سوداوية، ومأساوية قد تسعفها الدراما الفنية بقولبة الكارثة برؤية إبداعية مشفوعة بالبعد الإنساني والإطار التلفزيوني الذي ينتشل هذه القضايا من سلة المهملات الحكومية، ويضعها في بؤرة الضوء. المسلسل يعيدك إلى برنامج «من تحت الكوبري» وقد استضاف قبل أشهر قليلة أحد المدمنين الذي لجأ إلى أكثر من مركز لعلاج الإدمان في مصر، فرفضوا علاجه لعدم توافر مكان شاغر وعجز المراكز عن استقبال المزيد في ظل تفاقم الأعداد وشح الإمكانيات، فهل لك أن تتخيل هول الكارثة.. حينها لا داعي لأن تسأل: متى تخرج مصر عن السيطرة؟ اختبار الشجاعة طوني خليفة المذيع الأول في العالم العربي، ماذا يريد بعد؟ في برنامجه «بدون ماكياج» يسعى خليفة لاختبار شجاعة الضيف، بأسلوب يخلو من الشجاعة، حيث يسجل لضيوفه قبل البرنامج لقطات محرجة، يسألهم خلال الحلقة إن كانوا يوافقون على عرضها أم لا، فإن رفضوا تساءل عن الشجاعة.. يا للخزي! أين الأمانة، وآداب الضيافة، احترام الخصوصية، والالتزام بالمصداقية والثقة بين الضيف والمضيف، هل أصبح العمل الإعلامي مجرد مصيدة رخيصة، وبحث عن فرائس مخدوعة؟ أية مهنية وأية جرأة وأي جبن لصوصي واختراقي لا يمكن وصفه سوى ب «الهاكرز التخريبي»، الذي يشوه التحقيق الإعلامي والصحافي ويضعه في خانة الجاسوسية والقرصنة.. ولن أزيد!