يبدو أن الإعلامي محمد علي خير قرر أن يكتب للتاريخ... ولكن بحبر الخفة، لا بحبر المعرفة؛ وبانفعال اللحظة، لا برويّة من يملك أدوات الكلام. فخرج علينا بعبارة جارحة تقول إن رئيسا "مسح اسم مصر" وأطلق عليها اسما "بلا معنى"، متجاهلا سياقا تاريخيا شديد التعقيد، ومستخدما لغة تهين أكثر مما تحلل، وتختزل أكثر مما تنير. إن تحويل فكرة الوحدة العربية-بكل ما حملته من أحلام وأخطاء-إلى مجرد "مسح اسم مصر" هو اختزال فادح، لا يصدر عن قارئ للتاريخ بل عن متعجل في الحكم. كان اسم الجمهورية العربية المتحدة مشروعا سياسيا ضخما، اتفق عليه برضا الدولتين، وحمل حينها معنى لا يمكن إنكاره: حلم العرب بوحدة تكسر حدود الاستعمار وتجمع ما فرقته خطوط الاحتلال. قد يختلف المرء مع المشروع، قد يراه فاشلا أو ساذجا، لكن تحقيره بهذه الصورة لا يستقيم مع من يدعي قراءة التاريخ أو مخاطبة الرأي العام. ثم يذهب الكاتب إلى مقارنة هذا الحدث الجلل-تجربة وحدوية غير مسبوقة-بمسألة تغيير اسم قناة تلفزيونية! وكأن التاريخ يساوي اسم محطة، أو كأن سيادة الدول تقاس بمستوى الحساسية من تعديل شعار إعلامي. هذه مقارنة لا تليق بعقل يحترم ذاته قبل أن يحترم جمهوره. إن من يضع إمكانيات الإعلام في كفة، وتوازنات التاريخ في كفة أخرى، ثم يقارن، لا يفعل إلا أنه يسطح وعينا ويتلاعب بميزان المعرفة. وأما استدعاء سؤال: "تفتكروا لو زمان كان في سوشيال ميديا؟"، فهو ليس إلا محاولة للهروب من النقاش الحقيقي. فالمشكلة لم تكن يوما في وجود النقد أو غيابه، بل في جوهر القرار السياسي نفسه..سياقه، دوافعه، نتائجه، لا عدد التعليقات عليه لو كان هناك فيسبوك. فالتاريخ لا يُكتب ب"لو"، وإنما بما حدث بالفعل، وبما نملك من تحليل ورؤية، لا بما نلقيه على قارعة الرأي العام ليثير ضجيجا ثم يمر. إن خطابا بهذه الطريقة لا يقدم وعيا جديدا، بل يصنع خصومة مفتعلة بين الماضي والحاضر، ويخلق صراعا وهميا بين اسم مصر وتاريخها، بينما الحقيقة أن مصر لا تمسح باسم، ولا تختزل في قرار، ولا تتغير بهوية عابرة. مصر أكبر من كل ذلك، وستظل أكبر من كل من يتجرأ على تلخيص تاريخها بمنطق العناوين السريعة. إننا في عصرٍ يحتاج إلى إعلاميين يملكون عمق الفكرة قبل سخونة الجملة، وفهم التاريخ قبل السخرية منه، واحترام وعي الناس قبل اللعب على أوتار انفعالاتهم. فمن يكتب للتاريخ يجب أن يقرأه أولا.