يقولون إن الناس ثلاثة: حازم وأحزم منه وأخرق..الأول يحسن التعامل مع الأزمات والمشاكل حين تداهمه فى داره.. والثانى يذهب إليها فى مكان نشوئها ويتعامل معها فلا تصل إلى داره إلا و هى بقايا أزمة.. أما الثالث فيجلس إلى أن تأتيه الأزمة فى غرفه نومه ولا يلبث إلا أن يفرك جفونه سائلا عما يجرى حوله !!؟؟وأعتقد أن الصنف الثالث هو ما يحدث فى مصر بوجه عام بدأ من السنوات الأولى لحكم (الضباط الأحرار) وحتى يومنا هذا... رغم أن المدرسة الاستباقية ذات طبيعة استراتيجية عسكرية بالأساس.. ومع ذلك فكل ما حدث فى مصر بدأ من اليوم المشئوم 23/7/52م وحتى يومنا هذا ينتمى إلى منهج (عيشنى النهاردة).. خذ مثلا على ذلك (مجانية التعليم) والتوسع فى التعليم الجامعى المجانى دون أى نظر لمستقبل سوق العمل وربط كل ذلك باحتياجات التنمية.. (البكباشى خالد الذكر) كل ما كان يعنيه هو هتاف الهتافين وصرخات العامة والبسطاء وهو يلوح لهم بذراعه فتعتريهم رعشه واختلاجه تاريخية.. ! يرصد الأستاذ الدكتور صالح بدير، عميد طب قصر العينى الأسبق، ذلك فى مقالة كتبها بالأهرام 11/7/2002م ويذكر عددًا من الكوارث التى حاقت بالوطن جراء التوسع فى التعليم الجامعى المجانى رغم أنه ليس له نظير فى الدنيا كلها.. علماً بأن المتفوق كانت الدولة قبل (دنيا الضباط الأحرار) كانت تتكفل بالإنفاق عليه.. وكان هذا فى حد ذاته دافعًا قويًا للتفوق (حرصًا على المجانية) التى كان يتحصل عليها فعلا بمجهوده وقدراته وليس اعتباطا ودهولة.. زادت نسبة الالتحاق بالتعليم العالى فيما يشبه الانفجار وزادت نسبة البطالة المتعلمة (أخطر أنواع البطالة) وزادت نسبة البطالة المقنعة ثانى أخطر أنواع البطالة.. ازدادت بعنف وإلى درجة خانقة حدة التنافس على الدرجات والتقديرات لأنها أساس التعيين والتوظف فظهرت أمراض تعليمية تنفرد بها مصر مثل: مكتب التنسيق الدروس الخصوصية الغش المجاملة والمحاباة.. أدى اجتماع التنافس الشديد والبيروقراطية وسرعة الحراك الاجتماعى إلى ظهور بعض أنواع خطيرة من الفساد والتزوير والسرقات العلمية.. تدنت قيمة الشهادة الجامعية لانخفاض مستوى الخريجين فضعفت الأجور.. أيضا تراجعت ثقافة الجدارة والتميز وهما أساسا الترقى والتقدم فى الجامعات.. أصبح بقاء عضو هيئة التدريس طول حياته الجامعية فى جامعة واحدة طالبًا ثم معيدًا فمدرسا فأستاذا لا يحدث هذا إلا فى مصر !! أصبح ذلك أمرًا يعوق التنافس ويمنع ضخ الدماء الجديدة فى عروق التعليم المترهل ودعوة إلى الكسل والتراخي.. ورغم أن كل ذلك كان متوقعًا بكل الحسابات الاستراتيجية كنتيجة منطقية لهذا القرار الذى اتخذه خالدا الذكر (جمال وأنور) ورغم أن أصوات التحذير كانت تعلو وتنبه.. إلا أن (الضباط الأحرار) اللى كانوا بيحبوا مصر!! لم يستمعوا إليه.. لم يستمعوا أبدا لأى نصيحة استراتيجية فى أى مجال من مجالات التقدم بهذا الوطن. ورغم أن الحديث فى هذا المقال عن سيناء ووضعها فى المستقبل الاستراتيجى للوطن.. سأستأذنكم فى استطراد قصير حول هذا المعنى (الاستراتيجى والمستقبل) وأضرب لكم مثلا ببلد (اصطناعي) وليس (أصلى) بلغة الشارع.. وهى دولة إسرائيل، فبمجرد الإعلان عن الدولة عام 48 بدأ تنظيم مشروع اسمه (آورت 2005) والذى كان يهدف إلى ربط التعليم بسوق العمل حتى لا يكون التعليم مجرد طحن فى قارورة فارغة إنما يسير ضمن منظومة متكاملة تبصر الحاضر وتستشرف المستقبل.. وفى عام 1994 عقد اجتماع فى مدينة حيفا ضم250 خبيرًا من كبار المهنيين والباحثين وأساتذة الجامعات وخبراء أجانب .. كان الداعى لهذا الاجتماع شخصية مهمة فى الأوساط العلمية والسياسية فى إسرائيل معروفا باهتمامه بعلم (المستقبليات) يدعى (صامويل نيمان) وعمل إلى جانبه أحد أبرز علماء الإدارة فى إسرائيل ويدعى (آم مازور) كان الهدف من هذا الاجتماع هو وضع تصور لصورة إسرائيل بعد 25 عاما.. كل ذلك تم فى معهد (التخنيون) وهو من أكبر عشرة معاهد للبحث العلمى فى العالم.. ! وفى عام 1997 صدر العمل كاملا فى 18 مجلدًا بعنوان (لنحول الحلم إلى حقيقة) لنا أن نتخيل لو كان (الضباط الأحرار) قد فعلوا ذلك عام 1952م بعنوان (مصر 2002م) يشمل التعليم والصناعة فقط وطبيعى أنه كان سيتسع ليشمل الصحة والإسكان وكل لوازم العمران وضمنوها موضوعنا.. (سيناء).. لكم أن تتخيلوا كيف كان مفترضًا أن يكون حالنا الآن إذا ما كان قد حدث ذلك وكيف كان سيكون اليوم حال سيناء (شرايينا المفتوحة على الرمال الفارغة).
حدث شىء قريب من ذلك ولكن باجتهاد علماء نشأوا وتربوا فى (الحقبة الزاهية) الثلاثينيات والأربعينيات ..ففى عام 1960م اجتمع 3000عالم مصرى من خيرة العلماء وأنهوا دراسة موسوعية بطول وعرض سيناء استمرت 4 سنوات.. تضمنت الموسوعة مسحًا شاملاً لجميع جوانب الحياة فى سيناء: الجغرافيا والتاريخ والسكان والجيولوجيا والمناخ والحالة المساحية ومصادر المياه والزراعة والبترول والتعدين والمواصلات أشرف على هذه الدراسة المرعبة علامة من مجاهيل التاريخ الحديث فى مصر د .عبد الفتاح إسماعيل (1916م-1972م).. ورفعها إلى الجهات العليا.. لكن خالد الذكر كان مشغولا فى هذا الوقت بمعارك الزعامة فى اليمن والكونغو.. ثم إنه كان يريد تجميع البشر حوله لمعادلة كفة الجيش التى استحوذ عليها عبد الحكيم عامر.. وبالتالى كان تعمير سيناء وفرشها بالبشر والعمران ضارًا بقوته فى السلطة..
هناك حكايات فى تاريخ مصر الحديث أكثر خفة وخيبة وتفاهة من ذلك.. حيث لا مجال للحديث عن الاستراتيجية والتاريخ والأمن القومى والمستقبل.. هذه التفاهة والخفة لم تكن عند خالد الذكر ومن جاءوا بعده فقط .. بل سيحكى لنا التاريخ عن أسماء كثيرة فى الحركة السياسية المعاصرة قدرا هائلا من التفاهة والخفة لا يقل عنهم .. خاصة حين أسفرت عن نفسها الطموحات الشرسة لجيل السبعينيات فى الوجاهة والنفوذ والسطوة.. وسيستخدمون المقدس وغير المقدس (ليخدموا) على هذا الطموح المرضى.. وسينتهى الجميع إلى الدرك الأسفل من الفشل والحسرة .. ليصبحوا (أمثولة) يتعلم منها الأطفال كراهة وبشاعة توظيف (الأفكار الكبيرة ) لخدمة الطموحات والأحلام والعقد النفسية. ............ جمال حمدان العلامة والمفكر الاستراتيجى _الذى أنطق الجغرافيا بالتاريخ _ يقول إن غياب العمران عن سيناء ليس إهدارًا لإمكانية بقعة من أرض مصر فقط ولكنه إهمال لقلب مصر النابض لما تتمتع به من مميزات طبيعية. فلديها أطول ساحل فى البلاد بالنسبة إلى مساحتها وهى أقل صحارينا عزلة لكونها مدخل مصر الشرقى.. وفى جيولوجيتها الإقليمية تكاد سيناء تختزل جيولوجية مصر كلها تقريبًا. وهى أغزر مطرًا من الصحراويين الشرقية والغربية. الساحل الشمالى غنيًا بالزراعة.. والغربى نشيطا فى مجال التعدين.. والشرقى فى مجال الرعى والثروة الحيوانية.. وأن تكون قناة السويس مزدوجة ويتجمع العمران الكثيف حول ضفتيها وأن تكون هناك سلسلة من الأنفاق تحت القناة تحمل شرايين المواصلات البرية والحديدية. هذه الثروات الطبيعية تنتظر التخطيط الاستراتيجى الواعى الذى يطلق طاقات التعمير التى تحتاجها مصر على مستوى التنمية والأمن. ربط سيناء بالوطن الأب بديهية أولية للبقاء.. هكذا تحدث جمال حمدان. الشاعر عبد الرحمن الأبنودى الذى رحل عن عالمنا الأسبوع الماضى له قصيدة عامية يقول فى مطلعها: أمة بتتخابط أمة بتتعابط.. أمة ما لهاش ولا ظابط ولا رابط.. الله يجازيك يا عم عبد الناصر.. أما أنت خميت مصر دى خمة.. لسه اللى بيبيع أمته كسبان.. وكل يوم أطلع أنا الخسران..