كانت السماء يومها ثقيلة بالغيوم، كأنها تحمل في صدرها سرا من الحزن. خرج عبدالرحمن، الغلام الصغير، إلى الحقل في أطراف إيتاي البارود، يرافقه حماره الرمادي، صديقه الصامت الذي يعرف نداءه أكثر مما يعرفه البشر. كان يحمل دلوا صغيرا وبعض أدوات الزراعة، يساعد أباه كما يفعل كل يوم، بعفوية لا تعرف الكلل، وبابتسامة تتسع للعالم كله. كانت الأرض خضراء يانعة، والريح تمر على وجهها بخفة كأنها تمسح عنها تعب الصيف. رفع عبدالرحمن رأسه نحو السماء الملبدة وقال ببراءة خالصة: "يا رب، خلي المطر خير مش غضب." ضحك أحد الرجال العاملين معه وقال: "ده مطر رحمة يا ولد، إن شاء الله." لكن السماء لم تكن على عهدها تلك المرة. دوى الرعد فجأة، وانشق الأفق بخط من نور ناري، كأن السماء صاحت من ألم دفين. لحظة واحدة فقط، لا تزيد على رمشة عين، وكانت الصاعقة قد اختارت مكانها. سقط عبدالرحمن إلى جوار حماره، بلا صوت.وحين هدأ المطر، وخرج الناس يبحثون في الحقل، وجدوه مسجى على التراب، ويده الصغيرة ما تزال ممسكة بالحبل، كأنه يأبى أن يفلت رفيقه حتى بعد الرحيل. وجهه ساكن، وفيه ملامح دهشة هادئة، كأنه لم يمت، بل عاد إلى حضن السماء التي طالما رفع إليها دعاءه الصغير. بكت النساء على أطراف الحقل، وقال شيخ من القرية بصوت متهدّج: "مات وهو بيزرع… في حضن الأرض اللي حبها." وفي المساء، ظل المطر ينهمر كأنه يغسل الحزن عن القرية.السماء بكت عبدالرحمن، والأرض احتضنته في صمت كريم، فيما دفنوا حماره إلى جواره، ليكملا معا رحلة الراحة بعد عناء الحياة. ومنذ ذلك اليوم، كلما لمع البرق فوق القرية، يقول الناس:"السماء لسه فاكرة الغلام اللي راح فيها نور."