تحل في الثاني من نوفمبر من كل عام ذكرى وعد بلفور المشؤوم، ذلك الوعد الذي شكل نقطة تحول مأساوية في تاريخ المنطقة العربية، وخصوصا في فلسطين. ففي عام 1917، أصدر وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر جيمس بلفور رسالة إلى اللورد روتشيلد، أحد زعماء الحركة الصهيونية، تتعهد فيها الحكومة البريطانية ب"إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين". كان هذا الوعد بمثابة منح من لا يملك لمن لا يستحق، إذ تجاهل الوجود التاريخي للشعب الفلسطيني على أرضه، وفتح الباب أمام مشروع استعماري استيطاني ما زال يلقي بظلاله حتى اليوم. فلم يكن وعد بلفور مجرد تصريح سياسي، بل كان مخططا استعماريا متكاملا خطط له بعناية من قبل القوى الاستعمارية الغربية. فقد أرادت بريطانيا، القوة العظمى حينها، أن تقيم كيانا غريبا في قلب المشرق العربي ليكون أداة لتفكيك المنطقة وضمان تبعيتها السياسية والاقتصادية. وبعد أكثر من ثلاثة عقود على صدور الوعد، جاء عام 1948 ليشهد نكبة فلسطين، عندما تمّ الإعلان عن قيام ما يسمّى ب"دولة إسرائيل"، وتشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين من أراضيهم وقراهم. وما يجري اليوم في المنطقة العربية يعيد إلى الأذهان ذلك المخطط القديم، ولكن بأدوات جديدة. فبعد أكثر من قرن على وعد بلفور، ما زالت القضية الفلسطينية تتعرض لمحاولات تصفية ممنهجة، سواء عبر العدوان العسكري المستمر على غزة والضفة الغربية، أو عبر سياسات التطبيع العلني مع الاحتلال التي انتهجتها بعض الأنظمة العربية مؤخرا. فبينما يعيش الفلسطينيون تحت حصار خانق وعدوان متكرر، نجد بعض العواصم العربية تستقبل المسؤولين الإسرائيليين وتفتح لهم الأبواب السياسية والاقتصادية. وهنا تتجلى المفارقة المؤلمة: فبدلا من أن توحد الجهود لإنهاء الاحتلال، تتسابق بعض الأنظمة على كسب رضا القوى الداعمة له، وكأن وعد بلفور لم يكن كافيا في زرع الجرح، حتى جاءت هذه السياسات لتعمق النزيف. ورغم ما تواجهه فلسطين من حروب، حصار، استيطان، وتهويد للقدس، إلا أن روح المقاومة لا تزال حية. فالشعب الفلسطيني، جيلا بعد جيل، أثبت أن الأرض لا تنسى، وأن الهوية لا تباع، وأن الاحتلال مهما طال فمصيره الزوال. ما يحدث اليوم في غزة من صمود أسطوري أمام آلة الحرب الإسرائيلية يعيد التأكيد على أن هذا الشعب لم ولن يقبل بالاستسلام، وأن الوعود الزائفة والمشاريع التصفوية لن تغيّر من حقيقة التاريخ والجغرافيا. #فى _النهاية_بقى_أن_أقول ؛ يظل وعد بلفور رمزا للظلم التاريخي الذي وقع على الأمة العربية، وبالأخص على الشعب الفلسطيني. لكن هذه الذكرى ليست فقط مناسبة للحزن، بل هي دعوة للتأمل والعمل: لتوحيد الصفوف، واستعادة الوعي، ومواجهة مشاريع التطبيع والانقسام التي تهدف إلى تكريس الهيمنة الصهيونية. فما لم يتحقق خلال أكثر من مئة عام من محاولات التهويد والتطبيع، لن يتحقق أبدا، لأن الشعوب لا تموت، والحق لا يسقط بالتقادم.