لم يكن عادل منصور رجلا خارقا كما تصنع الأساطير، لكنه كان من أولئك الذين يزرعون الخير بلا ضجيج، ويمضون في طرق الحياة بخطى واثقة، كأنهم على موعد دائم مع النقاء. كان يعمل موظفا بسيطا في المجلس المحلي، لكن بابه لم يغلق يوما في وجه سائل، وصوته لم يرتفع إلا لينصر مظلوما أو يواسي محتاجا. كان الناس إذا ذكروا اسمه ابتسموا، وإذا اختلفوا حول أي شيء اتفقوا على شيء واحد: أن عادل رجل "نظيف القلب". كان يحب بلده كما يحب الإنسان بيته الأول؛ ينتمي إليها بصدق لا يتفاخر به، ويؤمن أن الوطنية ليست في الخطب، بل في العمل الصامت. وفي كل مشروع تطوعي، أو حملة خيرية، أو مبادرة شبابية، تجد ظله هناك، يخطط ويعمل ويبتسم، حتى صارت صورته على مواقع التواصل رمزا للأمل في زمن غلب عليه الكلام الفارغ. لكن حين يسطع الضوء طويلا، تستيقظ الظلال. في أحد المكاتب الكئيبة، جلس زميله رؤوف يراقب اسمه يتردد في كل مكان، بينما يغلي في صدره شيء يشبه الحقد. قال في نفسه: "هو إيه اللي مخليه ملاك كده؟ لازم الناس تعرف حقيقته." ومن هنا بدأت الحكاية المظلمة. اتصل بشاب يدعى سامح، من أولئك الذين يصنعون شهرتهم على الضجيج. أغراه بالمال، واتفقا على خطة..حملة تشويه متقنة، تغلف الكذب ببعض "الأسئلة البريئة". وفي صباح رمادي، انطلقت أول تدوينة: "هل يعلم الناس كيف تصرف تبرعات مبادرة عادل منصور؟" ثم تبعتها أخرى، فثالثة، فموجة كاملة من الاتهامات المبهمة والصور المفبركة. وخلال أيام قليلة، انقلبت مواقع التواصل إلى ساحة اتهام. الكلمات التي كانت تمدحه بالأمس، صارت سهاما تمزقه اليوم. عاد عادل إلى بيته مثقلا بالخذلان. جلست زوجته "منى" إلى جواره، تمسك يده كأنها تخشى أن يسقط منها. قالت: "الناس اللي عرفاك مش ممكن تصدق الكلام ده." لكنه أجاب بصوت مبحوح: "يا منى… في الزمن ده، الصورة أهم من الحقيقة، والكلمة الكاذبة بتجري أسرع من الصادق." تسلل الحزن إلى بيته كما يتسلل الغبار من شقوق النوافذ. امتنع عن الذهاب للعمل، ورفض الرد على المكالمات، واختفى وجهه عن الناس. كان يسير ليلا في الشوارع التي كان يملؤها يوما بالحيوية، كأنه يبحث عن نفسه في عيون المارة فلا يجدها. لكن ابنه خالد، الصحفي الصغير الذي ورث عن أبيه إصراره على الحق، لم يحتمل هذا السقوط. جلس في غرفته ليلا يجمع الخيوط، يتتبع المنشورات، ويفتح أرشيف الصور، حتى وجد الحقيقة: رسائل، تسجيلات، تحويلات بنكية… كل شيء يدين رؤوف وسامح معا. وفي ليلة صافية، نشر خالد تحقيقه للعامة. الفيديو انتشر كالنور في العتمة، والحقائق انفجرت كالرصاص. الناس التي صدقت الكذب بالأمس، أعادت نشر الحقيقة اليوم وهي تعتذر. وسامح ظهر في بث مباشر يعترف بخطئه، ورؤوف فر من البلدة في صمت. وفي صباح جديد، وقف عادل على منصة الاحتفال السنوي للمجلس. وجوه كثيرة تنظر إليه بخجل وامتنان. رفع رأسه وقال: "اللي يصدق إشاعة، بيحكم بالإعدام على سمعة إنسان. السوشيال ميديا مش لعبة… دي سلاح. ممكن تبني بيه وطن، وممكن تقتل بيه الطيبين." ساد الصمت، ثم تعالت التصفيقات. كانت تصفيقات تشبه الاعتذار، وتشبه الغفران أيضا. عاد عادل إلى بيته تلك الليلة، رفع بصره إلى السماء، وهمس: "اللهم احفظ الطيبين من ظلال الطيبة، وازرع في قلوب الناس بصرا يرى الحقيقة قبل أن يسمع الكذب." ثم ابتسم أخيرا، كمن عاد إلى مكانه الطبيعي… إلى النور