في موكب الليل الكبير تتجلى عيون الأزقة وسواقي المدينة، تتلاحم أقدام المريدين في كتلة بشرية تزدحم بالأماني والدعوات، وتحت ظلال الماضي العريق ينبثق مولد السيد البدوي كعودة إلى زمن تموج فيه الروح بصخب الإيمان. لكن، خلف البهجة والصخب، تستيقظ أسئلة تكاد لا تسمع بين طبل الذِكر وترداد الأهازيج: من هؤلاء "المجاذيب"؟ ولماذا يثير وجودهم زوبعة الجدل في الزوايا الدينية والاجتماعية؟ وهل هم – كما يدعي البعض – ظل على هامش ذلك التجمع العظيم، أم أنهم في عمق ما يسميه البعض "معادلا روحيا" للمجتمع؟ إن الحديث اليوم عن هذا الجدل لا يقتصر على نبش ما قيل أو ترجحه، بل هو رحلة في قلب الرغبة الروحية، في فلك العقيدة والتجربة الصوفية، وفي حقل الصراع بين التقليد والتجديد، بين الموروث والتأويل، بين الجماعة والفرد ففي ظلال مولد السيد البدوي نغوص فى عبقرية الارتباط الشعبي ؛فإذا رجعنا إلى التاريخ، فإن مولد السيد البدوي لم يكن مجرد مناسبة سنوية بل منصة تجمع بين الدين والتصوف والتراث الشعبي، بين الأسواق والبيوت والحارات، بين الأغاني والذكر، بين الحلوى والضيافة. في كتاب اقتصاديات مولد السيد البدوي في ضوء الأنثروبولوجيا الاقتصادية نجد أن المولد يمتد أيضا في أبعاده الاقتصادية، حيث تنتعش المهن الشعبية، تنتعش الخيام، تتلون الأجواء بالأطعمة والهدايا، وتدخل الموالد في شبكة علاقات مادية وروحية في آن معا. وليس من قبيل المصادفة أن المدينة التي يحتضنها المولد، طنطا، تحولت عند البعض إلى مسرح يتماهى فيه الواقع بالمقدس، حيث تشتغل التجهيزات الأمنية والمرورية، وتتصاعد الأصوات في الاحتفالات، وتتلاقى عشرات القرى والمدن في هذا الموقع الفريد. فالإعلامي عمرو أديب وصف هذا التجمع بأنه "ظاهرة غريبة" تتخطى الفهم الاعتيادي، ويذكر أن أعداد الزائرين قد تصل إلى ملايين – وهو ما يثير الدهشة والتساؤل. في هذا المشهد، يكون مولد السيد البدوي مرآة لمصر العميقة..حيث تتداخل الروح بالإيقاع الشعبي، وتضيء الرحلة الروحية صدى الألفة بين الإنسان والمكان، بين الانتماء للجذور وبين الحنين إلى الكرامة الإلهية. والسؤال الذى يطرح نفسه :من هم "المجاذيب"؟ المجاذيب – بهذا اللفظ – يشير إلى فئة من الأشخاص الذين يعتقد أنهم وصلوا إلى حالات من التصوف التي تتجاوز العادة، إلى نوع من الانفعال الروحي أو الوجد الذي قد يدفع إلى سلوكات غير نمطية..الاضطراب، الصراخ، الدوار، الانبطاح أو التمايل، وربما الامتثال لدعوة داخلية تعبّر عن قرب من العالم الآخر. هم أشبه بمنارة متهدّجة في البحر العميق، يرى ضوؤها للبعض ويخشاها آخرون. فتاريخيا، في الطرق الصوفية، يشار إلى حالات العشق المقدس أو الغيبة أو الفناء في الله بأنها من تجليات "الولاية" أو "الكمال"، لكنها أيضا كثيرا ما كانت تثير الشكوك والاتهامات ب "الجهالة" أو "الابتداع". بين أولياء الله ومجاهري التصوف، كان ثمة خط رفيع بين الكرامة والمبالغة، بين النبوة الزائفة والولاء الخالص لله. ففي السياق المعاصر، يظهر المجاذب أمام أعين الجماهير في الموالد وكأنهم صورة ظلية لتلك الرحلة الصوفية القصوى؛ قد ينظر إليهم بعين الإعجاب لدى مريد أو بحذر شديد من بعض المتشككين أو العلماء. وفي السنوات الأخيرة، ومع تضخم الجدل حول الممارسات في الموالد، أصبح وجود المجاذيب موضوعا مشحونا رمزيا: هل هم تجسد العشق الإلهي أم قصور في الفهم والتأثير الجماهيري؟ فما يُثار هذه الأيام حولهم هو مزيج من الانبهار والرفض..هناك من يرى في المجاذب صورًا حيّة لروحٍ لم تُقيدها الأجساد، دعواتٍ شفوية تتلوها الصلوات، وتجليات في الفناء لا يدركها إلا ذوى القلوب.وهناك من يخشى أن تصبح هذه الممارسات موطئا للاختلال، وربما الانزلاق في البدع، أو استغلال النفوس البسيطة. ففي فضاء الإعلام، تحدث البعض عن ما شاهده من "التمسح بالضريح" أو "طلب الغوث من المتوفى" كصور تثير الدهشة والاتهام. وقد نشرت صور لأموال تلقى داخل الضريح على الأرض، ما أثار استياء كثير من الناس والنشطاء. وأحيانا، يذكر أن بعض المتابعين يجوبون المولد بمظاهرٍ غير اعتيادية، ربما يحاولون لفت الأنظار أو إثبات قدرة على التماهي مع المشهد الروحي. إذن، المجاذيب اليوم هم مآزِيق النقاش بين من يراهم موازين المجتمع الروحية، ومن يراهم ظلالا هجينة لا تستقر في فلك الدين المستنير. فإذا احتكمنا إلى رؤية أدبية روحانية، فإن المجاذيب ليست شذوذا كاملا، بل هم حروف هامسة في قصيدة الجماعة، هم نبضات تسمع عند طرف المعادلة الروحية. هم أولئك الذين لم يكملوا البناء بالطريقة المعتادة، لكنهم أحيانا يمثلون الزاوية التي تسقط فيها الفكرة الكبيرة على الأرض المهشمة. يمكننا أن نتخيل المجتمع كآلة ضخمة مكونة من طبقات..العادات، الفقه، الجماعة، الصوفية، والعشق. المجاذب في هذا التخيل هو الوصلة التي تربط الباطن بالظاهر، وهو الذي قد يردد ما لا يسمع في الحلقات العادية، وهو من يحمل في صموده تجربة شذوذ تقترب من الحد الأقصى للامكان الروحي. من جهة أخرى، هم قد يلمسون آثار الألم العميق، أو المأزق النفسي، وقد يعبرون عن وجع أو حاجة لم تعبّر عنها الألفاظ. في بعض الحالات، يُستخدم وجودهم كمنبه للمجتمع، ليتساءل: هل نحن نعبر حقا عن لُحمة الروح في حياتنا اليومية؟ هل نترك للمعنى أن يختبرنا في الهشاشة؟ حين نراهم "موازين المجتمع" بالمعنى الرمزي، نعترف بأن كل مجتمع له أبناؤه الهامشيون الذين يذكروننا بحدود قدرتنا وبامتدادنا. هم كتلة صمت تمثل شريحة من التجربة الروحية التي لم تحدّد بعد. لكن الاعتراف الرمزي لا يبرئ من النقد الواجب: أولًا، ينبغي التفريق بين التعبير الروحي المشروع وبين ما يستغل باسم الدين للكسب أو الشهرة. ثانيا، على الجماعة الدينية أن تهتم بصيانة تأويل رشيد، وأن لا تترك المجال للفوضى أو الانزلاق. ثالثا، ليس كل من "تنقل في وجدانه تصرّفا غريبا" هو ولي، ولا كل تجربة هي كرامة. في النهاية بقى أن اقول؛إن الجدل حول مولد السيد البدوي والمجاذيب ليس نزاعا سطحيا بين مؤيد ومعارض، بل هو صراع دماثة بين الروح والتقليد، بين التجربة والمراقبة، بين الحب والإفراط، بين الانضباط والحرية. في هذا المولد، تتقاطع آمال العائدين من القرى والمدن، ويعاد بناء صورة الإنسان أمام الوجود.. ضعيف، محتاج، هامس، عاشق. يا سادة ؛ المجاذيب يذكروننا بأن الحضارة الروحية لا تقاس فقط بانضباط الجماعة، بل أيضا بقدرتنا على احتواء المختلف، على استيعاب الوجع، وعلى أن نميز بين من ينقب عن الله بصدق ومن يختبئ وراء الدين للتفنن في الإبهار. هم ليسوا بالضرورة أبطالا مقدسين، ولا خرافة تافهة، بل هؤلاء الظلال التي قد يشرق منها ضوء ما في لحظة هدوء. وإذا كان لنا أن نخرج من هذا الجدل بوصية، فهي أن لا ننتزع من المولد بعده الروحي، ولا نضيع فيه بعده الجماعي — وأن نعلي أعلى أنساق العقل والحس في تعاملنا مع من يختلف معنا في طريقة التعبير، مع الحفاظ على الحدود، وعلى العقيدة، وعلى الرحمة. فالمولد، في جوهرة فهمه الأعمق، ليس عرضا للشهرة، ولا منصة للتجاوز، بل منصة لتجديد العهد مع الله، ومع النفس، ومع الجموع — في حضورٍ يتسامى فوق القشور، ويعيد صياغة الحكاية بين الإنسان والوجود.