فى زمن تتوالى فيه التصريحات كالمطر، جوفاء لا تُروى ظمأ العقول، خرج علينا رئيس مجلس الوزراء يعلن بمنتهى الثقة أن "نظام الدراسة في الصف الأول الثانوي اختيارى"؛ لكأنه يمنح المواطن رفاهية القرار، ويضع أمام ولي الأمر خيارات ناضجة، وكأننا نعيش فى دولة تحتفى بالعقل وتقدس حرية الاختيار! لكن ما إن جف حبر التصريح، حتى داهمنا الواقع كعادته بالصفعة الأولى. فوزير التربية والتعليم، رفيقه فى المنظومة، يوجه تعليماته إلى وكلاء الوزارة: "فعِّلوا البكالوريا، ادفعوا بها إلى الأمام، وادفنوا الثانوية العامة القديمة تحت أقدام الإدارات". وهنا يبدأ سيناريو الضغط والترهيب: وكلاء الوزارات أو بالأحرى مديرى المديريات يضغطون على المديرين، والمديرون يلوحون بالعصا لمن دونه، والضحية الأخيرة هو مدير المدرسة، ليتحول إلى مطية تقدم للأهالى وكأنه صاحب القرار الوحيد. فمن يختار "البكالوريا"، تفتح له أبواب الجنة التربوية(الصفوف الأمامية، أفضل المعلمين، التابلت، والنجاح المضمون. أما من تمسك بالثانوية العامة فله "جهنم" التعليم( ينقل إلى مدرسة أخرى، يحرم من التابلت، يلقى فى ذيل الفصل، ويسند إليه أسوأ المدرسين). وبعض المديرين لم يخجل من العبث المفضوح: "اللى يختار البكالوريا هياخد يوم إجازة أسبوعيا!"، وكأن التعليم بات رشوة، لا رسالة. هذا ليس تعليما، بل بازار رخيص، تشترى فيه خيارات الطلاب كما تشترى أصوات الناخبين فى بعض الأزمنة الرديئة. لقد بلغ الغضب ذروته بين أولياء الأمور، وهم يرون العقد الاجتماعى يسحق تحت أقدام البيروقراطية، ويشاهدون أبناءهم ألعوبة بين تصريحات من فوق وواقع من تحت. فهل نحن أمام دولة مؤسسات، أم دولة تصاريح؟ ولنا أن نسأل، بكل براءة مصدومة: لماذا هذه البلبلة؟! من المسئول عن هذا التخبط؟! من المستفيد من خلق حالة التوهان المتعمد هذه؟! وإذا كانت الحكومة جادة، وإن كانت الوزارة تخطط بصدق، فلماذا لا تصدر قرارا رسميا واحدا وواضحا: إما أن نذهب جميعا إلى البكالوريا، أو نبقى فى الثانوية العامة؟ أما أن تفتح بابا تقول فيه "لكم حرية الاختيار"، ثم تدفع الجميع دفعا إلى باب آخر، فهذا قمة العبث، ولا يليق بدولة كبيرة بحجم مصر. ما يحدث مهزلة لا تحتمل الصمت. نحن لا نتحدث عن مناهج أو امتحانات فقط، بل عن جيل بأكمله يربى على الازدواجية، على أن الحقيقة ليست فيما يقال، بل فيما يفعل، على أن الدولة تعلن شيئا وتمارس نقيضه. ومن خلال منبرى هذا ؛ أناشد فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، التدخل الفورى فى هذا الملف. إما بكالوريا أو ثانوية عامة. قولا واحدا لا لبس فيه. لقد تعبنا من التوهان، تعبنا من ازدواجية الخطاب، ومن حروب الكواليس التى يدفع ثمنها طليعة هذا الوطن وهم طلابه. أيها المسئولون لمصرنا الحبيبة ؛اتركوا لنا وطنا يحترم عقولنا، وقرارا يحترم أبناءنا، وتعليما لا يشترى ولا يباع.