في يومٍ تشرئب فيه أعناق الأمة، وتهفو الأرواح إلى السماء، يقف الحجاج على صعيد عرفات يرفعون أكف الضراعة، بثيابٍ بيضاء كأنهم خرجوا من الدنيا طلاب رحمة، ويقفون بين يدي الله خاشعين، تائبين، باكين. وفي الوقت نفسه، يقف أهل غزة على صعيد أرضهم الجريحة، بثيابٍ ممزقة من القصف، بقلوبٍ صابرة على الألم، ينظرون إلى السماء لا ليمطرهم الغيث، بل لينزل عليهم الفرج والنصر أو الشهادة. في عرفة: يتجرد الحاج من لباس الدنيا، ويلبس الإحرام. وفي غزة: جُرّد الصابر من ماله وبيته وثيابه، وألبس ثوب الكرامة والعزة. في عرفة: يُفطر الحاج يوم الوقوف، لأن الرحمة تمطر من فوقهم. وفي غزة: يُفطر الصابر على القصف، ويصوم على الشوق إلى لقمة، واليقين بنصر الله. في عرفة: يُستجاب الدعاء، وتُصفد الشياطين، ويُباهي الله بأهل الموقف ملائكته. وفي غزة: يُسجّل التاريخ صبرًا أسطوريًا، وتُباهي الأرض أهلها في مواجهة الظلم. في عرفات: من وقف مخلصًا غُفرت ذنوبه. وفي غزة: من ثبت صادقًا، رُفعت منزلته في عليين. الحج ركن الإسلام، لا يُبطل، ولا يُنقض، ولا يُنافسه مقام. والصبر على الجهاد والمحن مقام الأنبياء، لا يُنكَر، ولا يُجهَل، ولا يُستخف به. كلٌ في ميدانه عظيم: الحاج جاهد نفسه، وهزم شهوته، وجاء لله تائبًا. والغزي جاهد عدوه، وهزم يأسه، وثبت لله صابرًا. فلا يُقال: أيّهما أعظم؟ بل يُقال: ما أعظم الله الذي جمع بين هذا وذاك! ربّ موقفٍ في عرفة يُبدّل صاحبه من أهل النار إلى أهل الجنة، وربّ صبرٍ في غزة يرفع صاحبه من مقام الدنيا إلى منازل الشهداء. فيا حاج بيت الله، لا تحزن إن فاتك نصرة غزة، فقد نصرتَ الإسلام بحجك. ويا صابر غزة، لا تأسَ إن فاتك الحج، فقد أقمت مقامًا تهتز له السماء. اللهم تقبل من الحجاج حجهم، وتقبل من أهل غزة صبرهم وثباتهم، وابعث من بين المقامين نصرًا يعمّ الأرض،