كانت قدماي قد تورمتا من الوقوف لأكثر من ثلاثة عشر ساعة قضيتها مع الآلاف واقفا في ساحة المحافظة بمدينة المنصورة فقد بدأنا التجمع صباحا في تمام العاشرة بعد أن قطعنا المدينة عرضا ، وتحت إلحاح البعض رحنا نقطع المدينة مرة آخري ولكن هذه المرة طولا والمسيرة كل ساعة تزداد حشدا والحناجر قد بحت لليوم ( مش عارف كام ) علي التوالي ...بدأنا في الخامس والعشرين من يناير صباحا ثم القبض علينا نهاية اليوم والترحيل لمعسكر فرق الأمن المركزي بسندوب . عدد غفير من الشباب الغض الجميل الذي فاجأنا نحن المخضرمون ( وش السجون ) ، حاولنا أنا ومصطفي خليل أن نمثل عليهم دور الكبار ففاجئونا بسخرية حارة وحارقة من الموقف كله استفزت شاويش غبي برأس كبيرة كبهيمة قائلا بجلافة :" إنتوا بتغنوا وتضحكوا علي إيه ؟ اليوم التالي عرض مسائي علي النيابة والباقي غنا ء ونكت ، اليوم الثالث صباحا توتر ...إيه الموضوع ؟ لا زيارات ..لامحامين .. قرار النيابة مجهول . علي فكرة ياشباب شكلها كده مش هتعدي علي خير ، غالبا مش طالعين ... شوية وجوم وسكون ثم انفجار هستيري في الضحك والغناء بصوت عالي ... بدأ الزعيق من بره ... "إسكت ياض إنت وهوا" ولا من مجيب ، قرب منتصف الليل حركة غير عادية خارج غرفة الحجز ثم مفتاح في الباب يدور وصمت رهيب يبدو أنها حملة تأديب ... تظهر رأس البهيمة اقصد الشاويش " ياللا يابني أنت وهوه كل واحد يشتال حاجته وييجي بره " سألنا نحن العليمون ببواطن الأمور : فيه إيه ؟ قلنا : ترحيل على المعتقل إن شاء الله ... شوية إجراءات وحملنا في السيارات لتنطلق بنا نحو باب المعسكر ثم وقوف وأمر بالنزول ... خير ؟ إمشوا روحوا ... معقولة . كان هناك بعضا من الأهالي في إنتظارنا خارجا ... لم يسعفنا الوقت كي نتبادل العناوين أو أرقام هواتفنا المحمولة ... علي أية حال خير النهارده الخميس سهرة سعيدة بين أحضان الأهل . الجمعة 28 صباحا ... الاستيقاظ متأخرا قبل صلاة الجمعة التي ستكون في جامع السلام اليوم ... يدوب لحقنا الصلاة بالعافية وبعد الصلاة كان السلام والكلام والحب والغرام والهيام والوصال وزغاريد تزين الجو وتجوب شوارع المنصورة وعند المرور بتقاطع شارعي البوتيكات وبورسعيد ينتاب الشباب بعض التوتر لدي سماعهم ولولة سيارات الشرطة وهي تمرق مسرعة من خلفنا وكأنها هاربة من شيء ما ، كان هناك لحظتها ثلاثة من الشيوخ يتوكئون علي بعضهم البعض تجلل رؤوسهم تيجان بيضاء ، كانوا يصرخون في الشباب " ماتخافوش ... إثبت ياإبني إنت وهو " نزلت كلماتهم علي قلوب الجميع بردا وسلاما وطمأنينة كانت المرة الأولي والأخيرة التي أراهم فيها ... هل كانوا حقيقة أم خيال ؟! تمر الأيام 29 ، 30 ، 31يناير و1فبراير ، الملل يتسرب إلينا يوميا وكل غد تتوالي جماهير شعبنا الصابر المناضل الجميل شحنا رصيدا معنويا ( كل ضهر) ... كنا نسأل بعضنا بعضا يوميا : تفتكر فيه حد نازل بكره ؟ لأ ... ماافتكرش ، ولاتكاد تمر صلاة الظهر حتي تهل علينا في ميدان المحافظة الجحافل تلو الجحافل ... لاملل ولاكلل، كالمعتاد يوم الثلاثاء نغادر في حدود الثامنة مساء بعد أن فعل فينا البرد والجوع فعلهما وبعد أن نتبادل الترددات الجديدة لقناة الجزيرة فالسهرة صباحي أمام التليفزيون لاسيما وقد ترددت الأنباء ( سوف يلقي بيانا الليلة) ... كويس إنه بالليل متأخر علشان نلحق نشوفه ...فيما بعد تساءلنا لماذا بياناته آخر الليل ؟ المهم تسأل أحدنا : تتوقع هيقول إيه ؟ غالبا هيقول إنه ماشي ... معقولة ؟ وليه لأ .... عموما هنشوف . يهل بطلعته الكئيبة وشفته السفلي المدلاة كأبرهة الأشرم ... هكذا هو يذكرني ، حديث ممجوج بائس ممل مقرف ، ترفع الجموع في التحرير أحذيتها قبل إنتهاء الخطاب ...أدور في الشقة كالمجنون ، لامفر من النزول ... في هذا الوقت إنها تكاد تكون الواحدة صباحا ، نعم تخيلت حالة الغضب الممسوس تجتاح كل الآخرين ، لابد أنهم كلهم في طريقهم الآن إلي نفس المكان ساحة المحافظة أو ساحة الحرية والتحرير ولكن خاب ظني عند الوصول فالمكان قفر ومظلم وخال علي غير العادة ، من بعيد لمحت بضعة عشرات حول نصب الجندي المجهول ، تخيلتهم الرفاق ، ترجلت من سيارتي واتجهت نحوهم أبثهم شكواي وغرور وعناد الطاغية وكان رد الفعل منهم غير معتاد ، انتبهت فإذا الوجوه غير الوجوه ، وجوه غير مألوفة ملابسهم لاتشي بطبيعتهم ، ليسوا متشردين ولكن وجوههم تشبه وجوه الخنازير وألفاظهم ( كمنقوع البرك ) وكانت الردود ( زغدا ودفعا وشدا وجذبا ) والشرر يتطاير من عيونهم ، لمحت من بعيد صديقي المحامي الناصري الشاب" شريف معاطي" ، أشرت إليه من بعيد مستنجدا ، فلوح لي وهو يهرول نحو سيارته صارخا : اخلع ... فهمت الإشارة سريعا فهرولت أنا الآخر نحو سيارتي هاربا وهم يلاحقونني : أنت رايح فين ؟ وعندما وصلت البيت حاولت النوم كمدا فقد أجهضت هبة الشعب المصري بخطاب " المحيا والممات " وأدركت أن المغضوب عليه لن يترك مصر إلا بعد أن ينشر بين ربوعها الخراب . في صباح اليوم التالي كانت الفضائيات تبث عبر موجات الأثير أخبار زحف البغال والحمير علي ميدان التحرير فيما عرف "بموقعة الجمل " ... يالله ماهذه المفارقه العجيبة ، حضر إلي ذهني مشهد جمال عبد الناصر وهو يكلف م. محمود يونس بالتخطيط لموقعة تأميم القناة ... بص يامحمود وأنا بأخطب في المنشية هأقول كلمة ديليسبس ، إذا سمعتها تتتحرك ... وإذا ماسمعتاهش ياريس ؟ مفيش كما كنت ويتأجل التنفيذ ليوم تاني ... ردد عبد الناصر كلمة ديليسبس في خطابه ستة عشر مرة حتي يضمن إن محمود يونس سمع وبدأ التنفيذ ... هل كان خطاب مبارك كلمة السر حتي تنطلق جحافل البلطجية تفتك بأشراف أبناء مصر ؟ نعم والدليل علي ذلك أن مبارك قتل ..هو وليس أحد غيره ..في ثمانية عشر يوما فقط ألفا من الشهداء ومثلهم من المفقودين نحسبهم جميعا من الشهداء أيضا ، فضلا عن أربعة آلاف مصاب بينما إسرائيل المجرمة قتلت 800 فلسطيني فقط في عدوانها الغاشم الذي شنته علي غزة لمدة شهر كامل مستعملة أسلحة محرمة دوليا كالفوسفور الأبيض . وبشار الأسد قتل من شعبه ألفين في أربعة أشهر . مبارك قاتل وسفاح ، وفي ليلة واحدة وساعة واحدة ابتلعت أمواج البحر ألف ويزيد من المصريين وبدلا من أن يطل علي شعبه متشحا بالسواد ومعلنا الحداد ذهب هو ونجليه بحثا عن قليل من الترفيه مع فريق الكورة لأنه ببساطة ناكر للجميل ... جميل الشعب المصري الذي غفر له أخطائه وخطاياه طيلة ثلاثين عاما ( ومفيش فايدة ) ليس هذا فقط فحسني مبارك بطل حرب أكتوبر والضربة الجوية (!!!) قام بحبس قائده والعقل المدبر للحرب ووضعه قيد الإقامة الجبرية وسرق موقعه وجهده .. الفريق سعد الدين الشاذلي ..والذي شاءت إرادة الله أن يرحل عن دنيانا يوم 11 فبراير في جنازة مهيبة شيعه فيها كل أبناء وطنه بينما مبارك هاربا في شرم الشيخ أو وراء القضبان وهذا مصير كل نذل ، ويتمارض في محبسه ( علي مين ) .. آمال كنت هتحكمنا إزاي ؟ ويقضي الجلسة كلها نائما أو متظاهرا بالنوم مغمضا عينيه لايريد رؤية الحقيقة لأنه جبان . وحتي آخر لحظة يصر أثما علي إجرامه ، طوال عمره لم يحترم قانون ولا دستور ولا عرف ولا قانون ولا دين ، قرر التخلي عن العزبة التي تركها له أبوه للمجلس العسكري خلافا لما نص عليه الدستور .. دستور 71الذي تلاعب به ليأتي بالمحروس وريثا .. الذي كان يلزمه بالتخلي عن السلطة التي اغتصبها لرئيس مجلس الشعب أو رئيس المحكمة الدستورية العليا ، لكنه كان يعلم يقينا أن مجلس شعبه باطلا ولقيطا فضلا عن صفقة تم عقدها مع رجال المجلس العسكري الذي سلمه ( مفتاح ) البلاد ، إنها جريمة آخري وكبري ...جريمة إنتهاك الدستور حتي آخر لحظة مع سبق الإصرار. إذا افلت المجرم ناكر الجميل الندل الجبان بجرمه نتيجة آلاعيب المحامين ... فهل يفلت من حكم التاريخ أو عدالة الديان ؟ !.