لم تهدد بحرق جسدها .. فإيمانها يمنعها من الانتحار، ولم تفكر في الهجرة.. فانتماؤها يملي عليها إفادة الوطن رغم مؤهلاتها العلمية التي توفر لها حياة كريمة في الخارج، ولم تستسلم .. فإرادتها الفولاذية أقوى من أية إعاقة.. ولكن من يضمن أن تظل صفاء على موقفها وعزيمتها في ظل إصرار المسئولين على حرمانها من تحقيق حلمها المشروع في الحصول على فرصة عمل..؟! لم تكن صفاء ،إبنة عم إبراهيم البدرى، تتخيل أنه سيأتى اليوم الذي تحصل فيه على درجة الدكتوراه فى علم الاجتماع من جامعة أشود الأمريكية رغم إعاقتها البصرية، فمنذ حصولها على الثانوية العامة وعلى مدار 15 عاما من المعاناة، كانت صفاء نموذجا للصبر والمثابرة والرغبة فى تحقيق الذات وتحدي الإعاقة، أنفقت كل أموالها التي ورثتها عن والدها على البحث العلمي والدراسة أملا في تحقيق حلمها الذي بات حلم الأسرة كلها..اضطرت لبيع شقتهم الفاخرة بالمعادي والانتقال للزاوية الحمراء للانتفاع بثمنها في دراستها على أمل تعويض والدتها وشقيقتها الوحيدة بوضع أفضل .. ولكن وبعد حصولها على الدكتوراه فوجئت بالجامعات المصرية ترفض تعيينها بحجة الإعاقة، وعندما طالبت بتطبيق نسبة ال 5% المخصصة لذوى الإحتياجات الخاصة زاد إصرارهم على الرفض، ليصبح مصير شهادتي الماجستير والدكتوراه فقط.. التعليق على جدران غرفتها. ومثلما كانت الدكتورة صفاء طموحة ومحبة للحياة.. رافضة الخضوع لإعاقتها البصرية، كان الحديث معها شيقا للغاية حمل دلالات كثيرة أبرزها محاولاتها المثيرة للإعجاب لإظهار نفسها وكأنها مبصرة.. فهي التي تحضر واجب الضيافة وتقدمه بنفسها.. تعتمد في حديثها على وصف الأشخاص والأماكن والأشياء كأنها تراها.. تتحرك فى المكان دون مساعدة من والدتها العجوز، التي تتحدث عن ابنتها بكل تباهٍ وفخر.. تقول صفاء : الحمد لله على ما ابتلانى به الله من فقد للبصر، والحمد لله أيضا على ما عوضني به من صبر وحب للحياة وسعى نحو تحقيق الذات والرغبة في التسلح بالعلم والمعرفة ، والأهم ما وهبني من نعمة تحمل المسئولية وعدم التواكل والاعتماد على الآخرين، فأنا أفعل كل شئ بنفسى.. أطبخ الطعام، وأنظف الشقة، وأقوم بكى ملابسى، وأمشى وحدي فى شوارع الحى الذى أقيم فيه ( الزاوية الحمراء )، وأذهب إلى محلات وسط البلد ودورالسينما مع صديقاتى، وأختار ملابسى بنفسى.. استوقفتني جملتها الأخيرة فقاطعتها متسائلا : كيف تختارين ملابسك بموديلاتها وألوانها وأنت لا ترينها .. وهي كما أراها تناسبك تماما؟ أجابت باسمة: من رحمة ربنا أنه أعطانا نحن المكفوفين نعمة أخرى لا أستطيع أن أصفها لك وهى الإحساس بأى شئ ألمسه، فبمجرد أن تلمس أصابعي الملابس أستطيع أن أعرف خاماتها وأحدد فى نفس الوقت الموديل.. وبالطبع أستطيع بسهولة اختيار ما يناسبني منها، وكثيرا ما يثنى الآخرون على ذوقي فى إختيار ملابسى . وبسؤالها عن الأسباب التى أدت إلى فقدانها للبصر قالت : كنت مبصرة وأمارس حياتى بشكل طبيعى حتى منتصف العام الأول الثانوى، وقتها شعرت بأوجاع فى العينين تطورت سريعا حتى وصلت إلى حد فقد البصر تماما، وقد شخص كبار أطباء العيون حالتى بأنها التهاب شبكى تلونى أدى إلى ضمور العصب البصرى. ولأن شقيقتى الكبرى كانت كفيفة هى الأخرى، فقد قمت بإجراء تحاليل للوقوف على تدخل الوراثة فى حالتي وجاءت نتيجة التحاليل سلبية مؤكدة على أن هذا المرض غير وراثى، بعدها رضيت بقضاء ربنا وأنهيت دراستى فى الجامعة وقررت أن أكمل الدراسات العليا حتى حصلت على درجة الدكتوراه فى علم الاجتماع. وقبل أن أسألها عن اختيارها لهذا التخصص بالذات تابعت : إختيارى لهذا التخصص من البداية كان سببه تعدد علاقاتى الاجتماعية على كافة المستويات، وحب الناس ورغبتي الشديدة فى دراسة ميولهم المزاجية حتى أتمكن من التعامل معهم . وماذا بعد حصولك على الدكتوراه.. لماذا لم تفكري فى العمل ؟ في هذه اللحظة وقبل أن أتم سؤالي اختفى كل هذا التفاؤل والمرح والإصرار الذي تنطق به ملامحها.. ليعتريها حزن مشوب بغضب بدا واضحا أنها لم تفلح في كتمانه.. وقالت وهي تجتهد لاستعادة بسمتها المشرقة: بالطبع فكرت فى العمل ولكن للأسف الشديد لم يستجب أحد لطلبى سواء بالحكومة أوالجامعات الخاصة، وعندما طالبت بتطبيق نسبة ال 5% المخصصة لذوى الإحتياجات الخاصة لم أحظ بأية استجابة، وبالتأكيد سبب لى ذلك إحباطا شديدا بلغ درجة الصدمة النفسية، فكيف لى وأنا عمرى 31 سنة وحاصلة على دكتوراه فى علم الاجتماع من كبرى الجامعات الأمريكية.. يتنصل جميع المسئولين بالجامعات المصرية والمراكز الحقوقية من مساعدتى وتوظيفى لإكمال مسيرة حياتى والإنفاق على نفسى وعلى والدتى وشقيقتى الكبرى التى لم تتزوج رغم تعديها سن الأربعين.. واستطردت: لقد أنفقت كل ما عندى على الدراسات العليا والبحث العلمى والسفر لأمريكا للحصول على الدكتوراه وإكمال مشواري العلمي، والآن أصبح مصير شهادات الماجستير والدكتوراه فقط.. التعليق على جدران غرفتى. وإن كانت د. صفاء تتميز عن كل فتاة بتفوقها وقوة شخصيتها وإصرارها على النجاح فهي لا تختلف عن بقية البنات في حلمها بالزواج، ولكن يبدو أن ظروف إعاقتها مثلما كانت عائقا في حصولها على فرصة عمل تليق بمؤهلاتها العلمية، فقد مثلت عائقا أيضا يمنع عنها حلمها المشروع بالحب والزواج.. عن ظروف ارتباطها الذي لم يتم حكت : تقدم لخطبتى شباب كثيرون ولكني لم أرتح لأحد منهم لأسباب عديدة.. وأتذكر أن أحدهم فكر فى خطبتى لمجرد أنه رآنى ولم يكن يعرف بأننى كفيفة، وعندما علم بهذا الأمر من أحد الأصدقاء تراجع عن الفكرة ، وهذا فى حد ذاته تفكير غير سوي.. فالأهم من وجهة نظري هوالخلق والدين والعلم وحسن المظهر .. ولكن مع الأسف يبدو أن مثل هذه الأمور لم تعد تمثل معايير الاختيار لدى الشباب في هذه الأيام.