لا شك أن أول سؤال يشغل بال الصائم في رمضان متى يبدأ الصيام، ومتى ينتهي منه ويحلُّ له الإفطار. والمتعارف عليه، والسائد الذي يكاد يلقى إجماعًا، لا خلاف حوله أو عليه، أن بداية الإمساك عن الطعام والشراب وكافة المفطرات تأتي مع أذان الفجر، وأن اللحظة التي يجوز للصائم فيها أن يتحلل من إمساكه ويفطر فيها هي لحظة آذان المغرب.. وهذا كلام سليم واعتباره من القواعد الراسخة أوجد حالة من الراحة والتوافق بين عموم المسلمين. لكن عند البحث والدراسة، تجد أن المسألة فيها كلام آخر يستحق النظر والتقدير لوجاهته واستناده إلى حجج معقولة ومنطقية، إضافة إلى صدوره من ثقات أهل سبق وفضل وعلم ودراية. وهذا يتصل بالتحديد في الشِق المتعلق بالإمساك عن تناول الطعام والشراب وكافة المفطرات، وهل هذا مرتبط بشكل قطعي بسماع آذان الفجر، بحيث لا يصح تجاوز الإمساك والحظر إلى ما بعد الآذان ولو بدقيقة واحدة أو دقائق معدودات؟ فمثلا إذا أكل الشخص أو شرب بعد سماعه أذان الفجر فما حُكم صيامه؟ رأي الجمهور، بما فيهم بالطبع الأئمة الأربعة، يذهب إلى امتناع السحور بطلوع الفجر، استنادا إلى قوله تعالى "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". وقول النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه البخاري في (الصوم): "إن بلالاً يؤذّن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر".. ولهذا كان ينبغي للمؤذنين أن يتحرُّوا في أذان الصبح، ولا يؤذنوا حتى يتبين لهم الصبح، أو يتيقنوا طلوعه بالساعات المضبوطة، لئلا يضيقوا على الناس فيحرموهم مما أحل الله لهم، ويحلوا لهم صلاة الصبح قبل وقتها، وهو مخالف للشرع. و قد فهم البعض من قوله تعالى في سورة البقرة : "فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" أنها تفيد جواز الأكل إلى أن يتبين الفجر الصادق وليس مجرد الأذان. أغلب الظن أن الأمر في وقت الفجر، ليس بالدقيقة والثانية، كما عليه الناس اليوم، ففي الأمر سعة ومرونة وسماحة، كما كان عليه الكثير من السلف الصالح من الصحابة والتابعين. فعن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا سمع أحدكم النداء، والإناء على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه" (رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي ). وفي ذات السياق قال ابن كثير في تفسيره: "وقد روي عن طائفة كثيرة من السلف: أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر، روي مثل هذا عن أبي بكر، وعمر، وعلى، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعن طائفة كثيرة من التابعين، منهم محمد بن علي بن الحسين، وأبو مجلز، وإبراهيم النخعي، وأبو الضحى، وأبو وائل وغيره من أصحاب ابن مسعود، وعطاء والحسن، والحكم بن عيينة، ومجاهد، وعروة بن الزبير،....."، أما فيما يتصل بما هو معتاد ومعمول به لدى كثير من المسلمين من الإمساك مدة قبل الفجر من قبيل الاحتياط، فقد اعتبره الحافظ بن حجر مخالفا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سجل ابن حجر اعتراضه على ذلك في ( فتح الباري) : (من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جُعلت علامة لتحريم الأكل والشرب على من يريد الصيام، زعما ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس. وقد جرَّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت - كما زعموا - فأخّروا الفطور وعجّلوا السحور، وخالفوا السنة، فلذلك قل عنهم الخير، وكثر الشر، والله المستعان). ولم تتوقف المسألة عند هذا الحد، بل هناك ما هو أكثر، فقد روي عن بعض السلف ومنهم حذيفة رضي الله عنه أنهم أباحوا الأكل حتى طلوع الشمس أي إلى ما بعد صلاة الفجر. وقد حُكي ذلك عن ابن مسعود أيضا. وقال ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود: وقد اختلف في هذه المسألة: فروى إسحاق بن راهويه عن وكيع أنه سمع الأعمش يقول "لولا الشهرة لصليت الغداة ثم تسحرت، ثم ذكر إسحاق عن أبي بكر الصديق وعلي وحذيفة نحو هذا " مما سبق يمكن بسهولة لأي صاحب عقل أن يستنتج أن المسألة من المختلف فيه بين الفقهاء والعلماء بحيث تخضع للقاعدة الذهبية ( لا إنكار في المسائل الخلافية)، إذ أنه لا يوجد وقت للإمساك عن الطعام مرتبط بأذان الفجر، خاصة أن التحديد بالساعة الفلكية المعاصرة للتقريب فقط وليس للتحديد, ولأن طلوع الفجر الصادق وظهور بياض النهار هو الحد الفاصل الذي يجب عنده الإمساك. أما الإمساك مدة من الزمن قبل الفجر بصفة دائمة كنوع من الاحتياط، لم يرد به نص من كتاب ولا سنة، بل هو أحد مظاهر التضييق والتشدد، وينافي ما جاء في السنة من استحباب تأخير السحور.