بقلم د. خالد تركي الكرمل فينا نسيمٌ عطِرٌ وفخرٌ نضِرٌ نحمله في أفئدتنا ونحن في الكرمل قلبٌ نابضٌ نحميه برمش أعيُننا ونضعه في أهدابنا بعد أن نقفل عليه جفوننا لينام مرتاحًا ويستيقظ ملتاحًا وحارسًا أمينًا على سلامتنا وسلامة أهلنا الكرام.. لذلك لا يمكن لنفوسنا أن تُسرَّ حين يحترق جبلنا، ولا يمكن للغبطة أن تسكننا بخراب كرملنا، فبحريقه يحترق حارسنا الأمين..وتحترق بيوتنا وأحراشنا وهواؤنا ويتكسَّر فرع شجرة الزَّيتون الذي نجلس عليه ونأكل من خيره ونستظلُّ به هربًا من لهب أشعَّة الشَّمس، ويتقطَّعُ قلب وأوصال أشجار الصَّنوبر الفوَّاح والسَّرو اللوَّاح النَّاطح للسَّحاب، ونخسر حاضننا وراعينا. ولا نرضى بحريق كرملنا، مهجة قلبنا، حتَّى لو كان الكرمل وديعةً عند غيرنا، أو أمانة عند الذين لا يصونون الأمانة، كما لا نرضى بوأد بناتنا أو سَبْيها، كما أنَّنا لا نرقص على خراب بيوتنا وأحراشنا وأشجارنا. غالبًا ما كان والديَّ يصطحباننا للتَّنزُّه على سفوح جبال الكرمل في جميع مناطقه من مرج ابن عامر شرقًا، منطقة المحرقة ودالية الكرمل، إلى شاطئ البحر، في مدينة حيفا، أنف الغزال، من منطقة خليجه شمالاً حتى قرى السَّاحل جنوبًا، المهجَّرة منها والصَّامدة والرَّابضة. وقبل أن نجلس للرَّاحة بين أشجاره لنأكل وجباتنا، تعلَّمنا أنْ ننظِّف "منطقتنا"، من حولنا قبل أن نجلس حول مائدتنا وأنْ نضع النِّفايات في موضعِها، شرط أنْ لا نترك المكان، لاحقًا، دون التَّأكُّد من نظافته، ومن خلود النَّار إلى سباتها الأبدي، بعد أن نغطِّيها بالحجارة ونرويها بالماء حتَّى يغلبها النُّعاس فتُغمض عينيْها لتنام. وحين أكلت ألسنة اللهب أحراش كرملنا في الأسبوع المنصرم وحصدت الأبرياء من الشَّجر والحجر والبشر وحتى المطر لم يأتِ لإسعافه ولم تنفعه صلوات الاستسقاء، ولم تسعفه تمنِّياتي حين تمنَّيتُ قائلاً للنَّار ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بردًا وسلامًا..﴾ على كرملنا وعلى حجارته وأشجاره وأزهاره وأحراشه وبشره وحيواناته ومائه وهوائه وترابه، شعرتُ، كما غيري، أنَّ شيئًا يحرق داخلي، ويأكل كبدي، ولن أُزاود على أحد في حرقته على دمار أحراشنا، خصوصًا بعد أن حاول بعضهم من أبناء جلدتي المعتادين على دسِّ السُّمِّ في الدَّسم، ومن العنصريِّين المنفلتين والسَّائبين اتِّهام أهل البيت بكارثتهم.. شاهدنا الحرائق والدَّمار والخراب وسحب الدُّخان تغتصب الأرض والسَّماء، حين حجبت السُّحب القاتمة وجه الشَّمس عن مشاهدة ما يُصيب أرضنا من دمار، حتَّى ظنَّ بعضُنا أَنَّنا في أشهر الصَّيف الحارقة. كذلك شاهدنا عجز الآليَّات والتَّجهيزات التِّقنيَّة الرَّفيعة المستوى عن إخماد النَّار، وشاهدنا كيف أتت المساعدات من كلِّ صوب وحدب لنجدة كرملنا الصَّافي، شاهدنا رفاق النَّخوة من عمَّان والقاهرة واستانبول ورام الله وموسكو..تلك الدُّول التي تكنُّ لها الدَّولة المحروقة العداء والتَّحريض والدُّونيَّة. زد على ذلك أنَّ أصحاب العزَّة والكرامة من أبناء شعبنا هبُّوا لنجدة من هم بحاجة إلى المساعدة في هذه الظُّروف الكئيبة التي حلَّت بنا. هذه الصُّورة التي حاولوا تشويهها بأنَّ شابَّين عربِيَّين هما سبب هذه المجزرة التي حلَّت بكرملنا، وحين نشر ذلك الصَّحفيّ المأفون صور الجثث المحروقة على مواقع الإنترنت المختلفة والموقَّعة باسم "ياسر كاسر" حاول العنصريُّون ربطه بالعرب، واتِّهام العرب بالشَّماتة بالمصاب الأليم والجلل، ناسين أنَّنا نشأنا وتربَّينا على الحديث النَّبوي الشَّريف: "إِيَّاكَ وَالمُثْلَى وَلَوْ بِالكَلْبِ العَقُورِ" فكم بالحري هؤلاء أبناء آدم الموتى حرقًا.. لكنَّ الحقيقة بانت سريعًا، وحين بان الحقُّ لم ترمش جفون جوقة التَّحريض في تلك الإذاعة، ولم يبدوا أسفًا لتقييمهم. ونحن نعلم أنَّ حبل الكذب قصير، وإن أتاك منه الخلاص مرَّة فإنَّ هذه الدَّاهية لن تهديك كلَّ مرَّةٍ، فكما جاء في رواية الكاتب عبد الرَّحمان منيف سيرة مدينة (ص 198):"الكَذِبُ أَبٌ لِكُلِّ المَعَاصِي وَمَنْ يَكْذِبُ يَفْعَلُ كُلَّ شَيْءٍ". وحين شاهد بروميثيوس، محبُّ البشر، بشاعة الدَّمار والخراب، ندم على فِعلته حين أهدى البشريَّة النَّار بعد أن سرقها من قمَّة الأوليمبوس، وأغضب كبير الآلهة زيوس، وتمنَّى لو أنَّ عِقاب الجوِّ نهش كبده كاملاً وأراحه من رؤية المنظر المُخيف والمُهيب وفداحة الكارثة التي ألَمَّت بجبلنا. لقد أكلت الحرائق الأخضر واليابس، كما أكلت كلُّ من زحف على أربعته أو قدميه في تلك الأيام الجسام، وبهذا سنفتقد ظلال الأشجار، سنشتاق للصَّنوبر والسَّرو والبلُّوط والزَّعرور، كما سنشتاق لتنشُّق رائحة أزهار كرملنا العطِرة، من الزَّعتر البلديّ والقندول وعصا الرَّاعي والزُّوفا وتفَّاح الجنِّ والبرقوق.. لا تبكوا كرملنا، لأنَّ الشِّدَّة المهزومة لن تناله منه وسيقوم من جديد ليبعثَ فينا الحياة والتَّجديد. وإذا حاول بعضهم طمس معالم قرانا المهجَّرة، فإنَّ هذه النِّيران أحيت قرية عين حوض وأعادتها إلى الخارطة، خارطتها الطَّبيعيَّة على سفوحه الشَّامخة، بعد أن حاولوا دفن معالمها وتفاصيلها. عين حوض هي عين حوض العربيَّة الأصيلة والأبيَّة الصَّامدة والرَّاسخة في قلوبنا والرَّابضة والقابضة على قلوبهم.. لا أريد استباق الحوادث، لكنَّ النيران التي نهشت كبد كرملنا، أعادت حسابات آرس إله الحرب وكلِّ من كان يخطِّطُ لحرب قادمة لإعادة هيبته، "ودفشت" الحرب القادمة القادمة حسب تخطيطاتهم إلى أمد بعيد، علَّهم يستيقظون من سباتهم ليروا أن خيار السَّلام هو المنقذ الوحيد. وَرُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَة..