بقلم د. سوسن ناجى رضوان التحيز ضد المرأة أ- في التراث " ولا يزال نفر من علماء الدين يكرهون المرأة ، ويحملونها مسئولية خروج آدم من الجنة ، كما زعم اليهود في كتبهم ، ويرون إمساك النساء في البيوت حتى يتوفاهن الموت " الشيخ محمد الغزالي (45) " إن التصدي الجذري لقضية المرأة ، يضع الفكر النقدي مرة واحدة في مواجهة التراث السلفي برمته ، وهذا ما أدخل قضية المرأة وتحررها في عصمة الرقابة ، ووضعها تحت حراسة " التابو " ، وجعل تناولها بالتحليل العلمي الصريح . وبأدة لغوية محددة ، مباشرة ، أمر يوازي التعدي على المقدسات ، وخرقا لقواعد التحليل والتحريم الأزلية ، التي جعلت المرأة "حرمة" ، في حمى سلفية دينية تضرب على العقل والجسد ستائر خيام الجاهلية" (28) . ومن الغريب - الجدير بالذكر - أن المرأة في العصر الجاهلي ، وفي عصر الرسول الكريم سيدنا محمد e كانت تحظى بمكانة ووجود وكرامة أفضل من العصور التي تلت تلك الفترة ... " فالثقافة العربية الخالصة - خاصة في القرن الأول الهجري - قد تحمل جوانب ليست قليلة من التحيز ضد المرأة ، لكن ليس منها إلزام المرأة الصمت " (29) ، وهذا في حد ذاته يشهد للمرأة بالحضور ، والقدرة على المشاركة ، والشاهد على هذا آثارها في الشعر والحكاية ، والخبر ... " إن هذه الثقافة ينقل الجاحظ منها خطبا لنساء في القرن الأول ، وينقل منها ابن عبد ربه في " العقد الفريد " خطبا مختلفة لنساء أيدن عليا، أو وفدن على معاوية ، وقد حملت هذه الثقافة في القرن الثالث الهجري كتابا اسمه "بلاغات النساء " ، وبغض النظر عن مضمون بعض نصوص الكتاب ، وبغض النظر عن مدى كون هذه النصوص حقيقة قالتها النساء ، أو أنها منحولة وضعت على ألسنتهن ، إن الذي يعنينا في هذا المجال هو أن هذه الثقافة التي يوجد فيها كل هذا لا تشير أنها ثقافة تريد إلزام المرأة الصمت"!(29) . وفي عصر النبوة ، شعرت النساء - قديما - بالغبن اللغوي - تجاه الخطاب القرآني ، وأهمية حضورهن كنساء فيه - وذلك حين تعجبت " بعض النساء من أن القرآن الكريم يوجه خطابه للذكور دون الإناث ، وورد في طبقات ابن سعد كلامهن الذي توجهن به للرجال قائلات : أسلمنا كما أسلمتم ، وفعلنا كما فعلتم ، فتُذكرون في القرآن ولا نُذكر . وروى أن أم سلمة قالت للنبي e : يا رسول الله يُذكر الرجال ولا نُذكر . وروى أن نساءه قلن له : لماذا يُذكر المؤمنون ولا تُذكر المؤمنات ؟ " ، كما روى أن سلامة حاضنة إبراهيم بن النبي ، قالت للنبي : إنك تبشر الرجال بكل خير ولا تبشر النساء ، قال : أو صويحباتك دسسنك لهذا ؟ قالت : أجل هن أمرنني " (30) . وقد استجاب " سبحانه وتعالى " لهذا المطلب النسائي ، فجاء قوله تعالى : " إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما " ( سورة الأحزاب - 35) . وتشيع روح الإنصاف في القرآن الكريم - وتتكرر - بين الذكر والأنثى ، في سور كثيرة ، لتصل بكون الاثنين وحدة واحدة ، بعضهم من بعض ، يقول جل وعلىّ : " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض " ( سورة آل عمران - 195) ، بل إنهما - أيضا - خلقا من نفس واحدة ، يقول : " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا وجعل بينكم مودة ورحمة " (سورة الروم - 2) ، كما أن الكرامة والاستحسان عند الله لا تنبع من الذكورة ، أو الأنوثة ، لكنها تنبع من التقوى، يقول تعالى : " أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " ( سورة الحجرات - 13) . وصيغة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، هنا تضم كل صيغ المشاركة ، في الحياة العامة ، وفي الثواب ، والعقاب ؛ الأمر الذي لا يتناقض والآية الكريمة : " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم " ( البقرة – 228) ؛ لأن المبدا هنا هو المساواة : " ولهن مثل الذي عليهن " ، أما علو الدرجة ، فقد جاء لتعزيز مبدأ الانفاق عند الذكر الذي يرث ضعف نصيب الأنثى - وفي الوقت نفسه ربما أتى كصياغة تتواكب والمناخ الاجتماعي العام - في مثل هذه الفترة المبكرة من عمر التاريخ - حتى يمكن أن تُقبل من الرجال آنذاك ، أي في فترة حاسمة - مبكرة - كانت توأد فيها البنات ، وتستعبد المرأة ، وهذا الاستعباد لم يكن في بلاد العرب فحسب ، وإنما في آثينا وبيزنطة وفارس ... ولكن رغم هذا الوأد ، وذلك الاستعباد - للمرأة - والذي حاول الإسلام أن يقضي عليه ، إلا أن مساحة من المكاشفة ، والحضور ، توافرت للمرأة عبر هذه الحقبة ، وظهرت في سجع الكهان - في العصر الجاهلي- كما ظهرت في الشعر والحكاية والخبر ، الأمر الذي حول صمت المرأة إلى صوت ناطق ، كما اشار إلى نوعية هذه الثقافة ، في عدم إلزامها المرأة الصمت على عكس الثقافة والتي ظهرت مع انتهاء العصر الإسلامي وتحول الحكم فيها من خلافة راشدة إلى ملك عضوض ، مما أسهم في سيادة الاستبداد وحرمان المرأة من كل حقوقها .. ورغم كل الانفتاح الذي عاشه العصر العباسي ، ورغم أن الحضارة الإسلامية بلغت أوج ازدهارها ، إلا أن " مسار المرأة منذ الجاهلية تعرض - بالتحديد - لضربة شديدة في العصر العباسي ، بسبب نظامه الإقطاعي ، الذي عزل المرأة في المنزل وحولها إلى كائن استهلاكي - خاصة في الطبقات البرجوازية - (31) . أو بمعنى آخر اعتبرها عورة ، فحرمها من الاختلاط بالرجال ، وألزمها الصمت ، في صورة سدت عليها منافذ الإبداع.. وهذا النظام - الإقطاعي - احتضنه فيما بعد العثمانيون محولين إياه إلى نظام حياة ، أسهم في قهر المرأة اقتصاديا ، واجتماعيا ، وثقافيا ؛ مما عرض الحضارة العربية الإسلامية إلى مزيد من الأزمات التي أذنت بالإنحطاط .. إن إلزام المرأة الصمت - عبر هذه الحضارة المتألقة - مؤشر وداعٍ من دواعي سقوطها ؛ لأنه ينافي ما أقره الرسول الكريم e في سيرته من معاملة ، ومشورة ، ومشاركة للمرأة في الحياة العامة . فالمرأة " في عهد الرسول كانت تشترك معه في الحرب ، لا لمداواة الجرحي فحسب ولكن مشاركة حرب بالسيف ، كما كان الأمر مع أم عمارة التي حارب دون الرسول في " أحد " ، وظلت تحارب ، واشتركت في أشد المعارك بأسا مع مسيلمة ، وقطعت ذراعها ، وخاضت " أم حرام " الحرب مع الأسطول الذي نزل قبرص ، وماتت بها ، وهذه الحرية مكنت السيدة " عائشة " من أن تكون المحدثة الأولى ، وجعلتها ترد أحاديث عن عمر بن الخطاب ، وتقدم توجيهات إلى أبي هريرة ، ثم أرادت - عندما نشبت الفتنة - أن تُصلح فريقي علي ومعاوية فقادت جيشا فيه " الزبير " و" طلحة " وكبار الصحابة الذين كانوا يأتمرون بأمرها " (32) . " ويجب ألا ننسى أن أم المؤمنين الرصينة " أم سلمة " كانت هي التي أشارت على الرسول بما يفعل عندما تردد الصحابة لأول مرة في الاستجابة لأمره في الحديبية . وطبق الرسول ما أشارت به فانجلت المحنة " (32) . وبدل أن كان العصر العباسي مرشحا لأن يحتضن المكاسب التي ورثتها المرأة ، والتي أحرزتها منذ الجاهلية ، وحتى صدر الإسلام مضيفا إليها محصلة تطوره الحضاري والتجاري ، مكونا بذلك رصيدا يصلح أن يكون ركيزة لإنطلاقها ، هبط بمكانة المرأة عن طريق " شق العالم النسوي إلى عبيد وحرائر ، بإحالته الغالبية منهن إلى العبودية عن طريق البيع والشراء ، بينما حجبت الحرائر ، وتم عزلهن عن الحياة العامة " في مقابل ارتفاع شمس الجواري اللاتي اندمجن في البنية العليا للطبقة التجارية العباسية"(33) - خاصة بعد استفحال دورهن السياسي - غير أن صعود المرأة/ الجارية إلى مستوى ممارسة الحكم - ولو بشكل غير معلن - إلى جانب مساهمتها في النشاط الاقتصادي والاجتماعي ، والثقافي .. " كل هذا لم يكن مدعاة لإحداث تغيير جذري لصالح النساء ، وذلك بحكم ارتباطه بالنظام المستبد " (33) . " وبذلك ساهم البعد التجاري في دفع أشكال التحرر النسائي باتجاه مقارب للعبثية ، حيث تسبب في تدهور مكانة المرأة - خاصة في ظل نظام الحريم - واصبحت الجواري مجرد أداة لتضخيم الأوهام الذكورية للرجل ... ودخل إذلال المرأة مرحلة تاريخية خطيرة ،في ظل التناقضات المحيطة"(34). وفي ضوء هذا التاريخ تبوأ الوعي الذكوري لرجال التراث رؤية مقتضاها إعلاء صوت الذكورة ، في مقابل الغض من صوت الأنوثة ، أو بالأحرى إلزامها بالصمت ؛ لأن كل أنثى في - رأي الميداني - : " تستعمل اللغة تصبح حمقاء " (35) ؛ لذا يُحذر ابن المقفع من الأخذ برأيهن، يقول : "إياك ومشاورة النساء ، فإن رأيهن إلى أفن ، وعزمهن إلى وهن ، وأكفف عليهن من أبصارهن بحجابك ، فإن ذلك أنعم لحالها ، وأرخى لبالها ، وأدوم لجمالها ، وإنما المرأة ريحانة وليست قهرمانة " (36) . كما يسلب الجاحظ - في كتابه البيان والتبيين - المرأة " البيان "، ويسمها " بالعى ، وكلما عرض للمرأة بحال - وذلك من خلال مبدأ المجاورة ومدخلا للنص - لابد أن يجد الحيوان قريبا من الجوار " (37) . ولا يختلف هذا التصور كثيرا عند فقهاء الإسلام ، وعلى رأسهم : ابن قيم الجوزية ( ولد في القرن السابع الهجري 691ه ) ، أحد كبار علماء التنوير ، في عمر الثقافة العربية ، والذي تتسرب آراؤه الشخصية في المرأة من خلال كتبه ، فتعكس رؤيته المنحازة والتي ترى المرأة نفسا ضعيفة ، وعقلا قاصرا ، وخلقا أقل عفافا ، يقول في كتابه " روضة المحبين ونزهة المشتاقين " : " لما كانت النفوس الضعيفة كنفوس النساء والصبيان لا تنقاد إلى أسباب اللذة العظمى ، إلا بإعطائها شيئا من لذة اللهو واللعب، بحيث لو فطمت عنه كل الفطام ، طلبت ما هو شر لها منه " (38) ، الأمر الذي جعله يستنكر على المرأة سلوك العفة ، بينما رآه : " ليس بعجيب من الرجل ، ولكنه من النساء أعجب " (39) . ومثل هذه الرؤى وغيرها - إلى المرأة - والتي تتسرب في كتب فقهاء ، وأصوليين ، وعلماء كلام ، دفعت أئمة آخرين - قدامى ومعاصرين- إلى اتخاذ موقف منحاز للمرأة للذود عنها ، واتهام المتحيزين ضدها بالتعصب ، أمثال : ابن حزم ( ولد في القرن الرابع الهجري ) ، ومحمد الغزالي ( ولد في القرن العشرين الميلادي ) . ويعد فكر " ابن حزم " بخروجه على مجموع الفقهاء المتعصبين ضد المرأة ، نوعا من الخروج على السائد ، من رؤى وأفكار معاصريه " المنتقصين المرأة حقها الشرعي ، معللا موقفهم من المرأة : " بأنه موقف المراءة ، وهو يرفض المراءاة ، ويرى أن ثمة تواطؤاً من طائفة المتعصبين المرائين على إخفائها " (40) ، ثم يكشف " ابن حزم " " اللثام عن ملمح لا موضوعية ، وتعصب ، وجماعة هؤلاء الفقهاء ، لتحيزهم ضد المرأة .. في مقابل إقراره مبدأ المساواة بين الجنسين ، كرؤية تضمنها حديثه عن عفة النساء " (41) ؛ يقول في كتابه " طوق الحمامة " : " وإني لأسمع كثيرا ممن يقول : الوفاء في قمع الشهوات في الرجال دون النساء ، فأطيل العجب من ذلك . وإن لي قولا لا أحول عنه : الرجال والنساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواء ... ولست أبعد أن يكون الصلاح في الرجال والنساء موجودا ... وأعوذ بالله أن أظن غير هذا ... والحقيقة ... أن الصالحة من النساء إذا ضُبطت انضبطت ، وإذا قطع عنها الذرائع أمسكت ... والصالحان من الرجال والنساء كالنار الكامنة في الماء ، لا تحرق من جاورها إلا بأن تُحرك .. "(42). ويتساءل الشيخ " محمد الغزالي " : " هل عُوملت المرأة في العالم الإسلامي ، وفق تعاليم الإسلام ؟ ما أظن ذلك وقع إلا لماما " (43) . ثم يمض