بقلم أحمد أبو رتيمة أثار اعتزام فضائيات عربية بث مسلسل يجسد شخصية عمر بن الخطاب وشخصيات الصحابة المبشرين بالجنة ضجةً هائلةً تراوحت بين الترحيب بهذا العمل الدرامي والإنكار الشديد عليه باعتبار هذا التجسيد مساً بمكانة الرموز والأعلام وإهانةً لهم.. تجسيد الرموز الدينية في المسلسلات سنة سبقت إليها الدراما الإيرانية التي أنتجت عدداً من المسلسلات جسدت فيها شخصيات الأنبياء كان أبرزها تجسيد شخصية يوسف عليه السلام وأبيه يعقوب بل وحتى تجسيد جبريل عليه السلام. لن أتناول هنا مسألة تجسيد أشخاص الصحابة والأنبياء من زاوية الإباحة أو التحريم، بل سأتناولها من ناحية فنية إخراجية بحتة، وهل تجسيد هذه الشخصيات يساهم في خدمة العمل الفني وإخراجه بطريقة أفضل أم أنه يؤثر سلباً على وصول فكرة العمل لقلب المشاهد وعقله. حين تصور شخصاً أو تنحته فإنك تضع له شكلاً محدداً ينطبع في مخيلة المشاهد وبذلك تحرم المشاهد من الفضاء الواسع الذي كان يتمتع به في تخيل هذه الشخصية فهو لن يكون قادراً بعد ذلك على تصور هذه الشخصية خارج حدود القالب الذي وضع له، وهذا ما نراه مثلاً في فيلم عمر المختار، فبمجرد ذكر اسم هذه الشخصية تتبادر إلى الذهن صورة الممثل الأمريكي أنتوني كوين الذي جسد دور عمر المختار في الفيلم المشهور فغطت شهرته على الصورة الحقيقية لعمر المختار، وحتى حين يرى أحدنا صورة عمر المختار الحقيقية فإنه سيجد صعوبةً في إحلالها في ذهنه محل صورة انتوني كويني المنطبعة في ذاكرته بعد أن ترسخت بالتكرار.. أما حين لا تظهر شخصية البطل في المسلسل فإن ذلك يحيطها بهالة من الأهمية ويساعد خفاؤها في شد ذهن المشاهد لمحاولة تخيلها وينطلق عنان فكره في كل اتجاه مما يساهم في إثراء خياله وتوسيع أفقه ويحافظ على بقاء فكره متحرراً من أية قوالب محددة لانطلاقته.. كذلك حين يحاول أحد الفنانين تصوير الجنة أو النار أو القبر فإنه مهما أوتي من سعة خيال وقدرة تصويرية فإنه في النهاية سيفرض على خيالك حدوداً لا تتجاوزها، وبذلك سيضر الفكرة من حيث ظن أنه سيخدمها، فهو مهما تفتق ذهنه عن رسم حيات ونيران وأهوال فإن خياله سيظل محدوداً وستظل الصورة الحقيقية للنار أعظم من ذلك، ومن شأن بقاء الصورة الحقيقية خافيةً أن يتيح المجال واسعاً أمام خيال الإنسان للذهاب إلى أبعد مدى يستطيع أن يذهب إليه.. لعلنا هنا نفهم جانباً من حكمة تحريم النحت والتصوير في الإسلام، فعدم نحت الأشياء يغذي خيالنا ويجعله أكثر خصوبةً ويحرره من التقييد والتأطير.. الروائي الكولومبي المشهورغاربرييل غارسيا ماركيز صاحب رواية مائة عام من العزلة ورواية الحب في زمن الكوليرا والحائز على جائزة نوبل في الآداب تفطن إلى أهمية هذا الجانب فرفض عروضاً لتحويل رواياته إلى أفلام سينمائية معللاً هذا الرفض بالقول:"أنا أفضل أن يتخيل قارئ كتابي الشخصيات كما يحلو له.أن يرسم ملامحها مثلما يريد .أما عندما يشاهد الرواية على الشاشة فإن الشخصيات ستصبح ذات أشكال محددة هي أشكال الممثلين وليست تلك الشخصيات التي يمكن أن يتخيلها المرء أثناء القراءة.. والله الهادي إلى سواء السبيل..