بقلم : أحمد أبو رتيمة حين يقص القرآن علينا قصة المواجهة بين فرعون وموسى ويفرد لها أكبر مساحة بين القصص القرآني فإنه لا يفعل ذلك عبثاً وتسليةً ولا ليخبرنا بشأن قوم مضوا ودفنوا في بطن التاريخ، بل لأن فرعون موجود في كل زمان ومكان، والذي يخبرنا القرآن عنه هو نموذج يتكرر دائماً فهو مثل الطغيان والاستعلاء في الأرض لذا فإن القرآن تعمد إسقاط التفاصيل الظرفية في قصة فرعون فلم يخبرنا عن اسمه ولا تاريخ حكمه ولا الأسرة التي ينتسب إليها كشأنه في بقية القصص القرآني التي تركز دائماً على موطن العبرة المجردة وتسقط تفاصيل الزمان والمكان.. من المواقف التي يخلدها القرآن في المواجهة بين فرعون وموسى والتي تظهر من خلالها نفسية الطاغية هو قول فرعون لموسى رداً على عرض موسى لرسالته "ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين".. هنا يواجه فرعون-الطاغوت-سطوع حجة موسى وقوة موقفه الأخلاقي- بحرف التركيز في اتجاه آخر..فهو لا يجد جواباً مباشراً على أدلة موسى الباهرة في قضية توحيد الله عز وجل وربوبيته فيشخصن النقاش ويظهر منته على موسى في ماضيه بأنه هو الذي رباه وأسكنه في قصره وتفضل عليه، كما يبرز ملفات الماضي في وجه موسى فيذكره بسابقة له حين قتل قبطياً ليضعف ثقته بنفسه: "ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين".. وهذا هو نفس الأسلوب الذي يكرره الطغاة دائماً في مواجهة أصحاب المبادئ لحرف التركيز عن المسألة الأساسية، ولإضعاف ثقة الدعاة بمواقفهم فربما مَنًّ الحاكم الظالم على معارضيه بأنه هو الذي وظفهم في وظائف الدولة، وأن راتبهم الذي يعتاشون منه تفضل منه، أو أنه هو الذي منحهم عفواً رئاسياً، أو أنه هو الذي منحهم ترخيصاً لمزاولة أنشطتهم السياسية والاجتماعية، كما أنه قد يحتفظ ببعض مواطن الزلل التي تسيء لهؤلاء الدعاة في الدرج ليشهرها في وجوههم متى يشاء ويجعلها سيفاً مسلطاً عليهم لإضعاف موقفهم الأخلاقي.. لكن الدعاة يجب أن يكونوا متيقظين لهذا الأسلوب الفرعوني فلا تهتز ثقتهم بأنفسهم ولا يضعفوا في الاستمساك بمبادئهم بقوة أمام هذه الضغوط النفسية، وأن تكون لهم أسوة حسنة في جواب موسى على فرعون.. رد موسى على معايرة فرعون له بقتل القبطي قاطعاً عليه الطريق لينهي النقاش: "فعلتها إذاً وأنا من الضالين".. وهذا هو الجواب الذي ينبغي أن يستحضره أصحاب المبادئ في مواجهة الطاغوت..ألا يسمحوا بحرف الأنظار عن المسألة الأساسية وأن يجاهدوا لإبقاء التركيز منصباً على جوهر المسألة، وألا يسمحوا باستغلال ماضيهم ليكون سيفاً مسلطاً على رقابهم فيكبلهم عن المضي بقوة للصدع بمبادئهم سواءً تضمن هذا الماضي زلات حقيقية وقع فيها أصحاب الدعوة في ساعة ضعف بشري أو اجتهاد خاطئ، أو أنها لم تكن زلات ولكن تبريرها يحتاج إلى وقت وجهد يقتطع على حساب المسألة الأساسية.. المسألة الأساسية هي الحاضر وهي أن هناك مبدأً أعرضه عليك فإن أردت أن تحاورني فحاورني في صلب القضية ولا تحرف النقاش إلى غيره، أما الماضي فليس عندي سوى جواب واحد عليه وهو "فعلتها إذاً وأنا من الضالين"..ما الضير أن أكون ضالاً في الماضي ثم يهب لي ربي حكماً وعلماً..هل ينتقص ضلال الماضي من حكم وعلم الحاضر!! اللافت أن موسى عليه السلام اعتمد أسلوب إغلاق ملفات الماضي لإبقاء التركيز على الحاضر في مواضع أخرى، فهو أيضاً حين سأله فرعون "فما بال القرون الأولى" لم يجبه إن كانوا صالحين أو غير ذلك، إنما أغلق الملف برمته حتى لا ينحرف التركيز عن القضية الحاضرة "قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى".. أما مَنُّ فرعون على موسى بتربيته وإسكانه في قصره فقد رد عليه موسى رداً لافتاً وهو نكرانه لذاته وتوجيه دفة النقاش نحو الشأن العام الذي يجاهد صاحب المبدأ في سبيله، فالقضية ليست أن تكون قد أنعمت على شخصي، بل كيف تتعامل مع الشعب كله..ما قيمة أن تكون قد أحسنت لشخصي بينما تمارس القتل والاستعباد بحق عموم الشعب.. قال موسى لفرعون: "وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل".. ربما تكون قد ربيتني وليداً ولبثت في قصرك من عمري سنين ولكنك في المقابل عبدت بني إسرائيل.. والداعية لا تهمه مصلحته الشخصية بقدر ما يهمه إنقاذ الناس "أن أرسل معي بني إسرائيل".صاحب المبدأ هو ذلك الذي يعيش من أجل الآخرين وليس من أجل نفسه..ومن البدهي أن هناك طبقة تتنعم بالامتيازات والعطايا في ظل حكم أي طاغية في الدنيا لكن هذا لا يعطيه الشرعية لأن العبرة هي في العدل وسيادة القانون على عموم الناس. إن على أصحاب المبادئ أن يستحضروا فطنة موسى وثقته بنفسه في مواجهة ألاعيب الفراعين في كل زمان.. والله أعلم..