أزمة جديدة تدخلها وزارة الثقافة بسبب تصريحات وزير الثقافة الكاتب الصحفي «حلمي النمنم» والتي قال فيها إن مصر دولة علمانية بالفطرة خلال حواره مع الزميل حمدي رزق على فضائية «صدى البلد»، وهو ما جعل اصحاب الدعوة السلفية يطالبونه بالاعتذار، وذهب آخرون بالامر الى أن «النمنم» خرج عن الدين بسبب هذا التصريح.. وبعيداً عن الخلاف ومدى تطوره، ومدى صحة نظر الطرفين فإن الدولة المصرية لم تعد تحتمل أي خلافات او انقسامات خاصة المرتبطة بالدين.. وبالتالي اي وزير في الحكومة عليه الا يصدر أزمات للدولة والقيادة السياسية ونحن جميعاً وقبلنا رئيس الدولة «عبد الفتاح السيسي» في حل منها، لأننا الآن نواجه حرباً مع تيارات ارهابية، والجيش والشرطة يبذلون جهوداً ضخمة للقضاء عليها.. وبالتالي غير مقبول ان يخرج أي وزير وفي مقدمتهم وزير الثقافة بالحديث عن امور لن نجني من ورائها سوى تعب القلوب ومهاترات من هنا، ومزايدات من هناك وآخرها البيان الذي صدر عن الدعوة السلفية والذي اعلنوا فيه رفضهم للتصريحات.. ثم خرج المثقفون واعلنوا عن دعمهم للوزير في تصريحاته.. وفجأة وجدنا انفسنا في أزمة جديدة.. ذكرتنا بالازمة التي صنعها الدكتور جابر عصفور مع الأزهر الشريف بسبب عرض فيلم النبي نوح في دور العرض المصرية.. وظلت الحرب مشتعلة بين الطرفين ووصلت الي مقالات كتبها الوزير الأسبق في جريدة «الأهرام»، ورد عليها الازهر عن طريق أحد علمائه.. ووقتها لم تكن مصر أيضاً في حاجة الى تصدير أزمة جديدة في ظل وجود تربص بمصر منذ اندلاع ثورة 30 يونية المجيدة والتي اعادت الى مصر نسائم الحرية، وأنقذتها من حكم الاخوان الفاشي. وزير الثقافة حلمي النمنم مطالب بأمور أخرى لإنقاذ الثقافة المصرية من التآكل والانهيار في صورة دعم كل مبدع حقيقي والوزارة تمتلك هيئات كثيرة وكبيرة تستطيع أن تعيد لمصر ريادتها الثقافية.. في الغناء لدينا الاوبرا وقصور الثقافة، وفي المسرح والشعر والادب لدينا قصور الثقافة التي تحولت في السنوات الاخيرة الى قبور وليس قصوراً، وأصبحت كياناً طارداً للابداع، وليس مؤسسة هدفها دعم اصحاب المواهب الحقيقية في شتى ربوع مصر من جنوبها الى شمالها ومن شرقها الى غربها.. فالفكر الديني المتطرف يا معالي وزير الثقافة لم تشهده مصر الا بعد أن تراجع دور قصور الثقافة باعتبارها الحضانة التي اعدتها الدولة لجذب المبدع الصغير، والوقوف بجواره الى أن يصبح مغنياً أو ممثلاً أو مؤلفاً أو مخرجاً مسرحياً أو شاعراً أو ملحناً، فهذه القصور والبيوت التي أنشأتها الدولة وكلفتها الملايين قدمت آلاف المبدعين. الآن لم تعد تقدم هذه الاماكن مبدعاً حقيقياً واحداً، واكتفت بشىء واحد هو تقديم بعض عروض فرق الفنون الشعبية وبعض العروض المسرحية التي أصبحت تقدم لمجرد تسوية الميزانية وليس أكثر لأن كل قصر ثقافة لديه بند مالي لصالح أحد الانشطة التي يقدمها، وعليه ان ينفقها قبل مرور السنة المالية. ونظراً لأن الدولة ممثلة في كل وزراء الثقافة السابقين أهملوا تلك الاماكن وجروا خلف الموضة التي ابتكرها البعض مثل مركز الهناجر للفنون ومركز الإبداع صحيح هذه الاماكن نجحت فنياً وقدمت مبدعين حقيقيين لكن على وزير الثقافة أن يراعي أن كل قصر ثقافة يجب أن يكون مركزاً للابداع يقدم فنانين في شتى مجالات الفن.. انشغال وزراء الثقافة السابقين بالاماكن التي تحظى بالاهتمام الاعلامي خلف وراءه ازمة كبيرة وضخمة الا وهي أن كل شباب مصر في المحافظات والمدن أصبح هدفاً للتيارات الدينية المتشددة، وبالفعل استقطبوا مئات من الشباب.. الأصل في الحكاية ليس أن مصر علمانية أو دينية، الأصل هو أن ننشئ شباباً متعلماً مثقفاً يعي قيمة الوطن، وينشغل بموهبته وكيفية تنميتها وصقلها، أهم كبار فناني مصر جاءوا من الأقاليم. أم كلثوم وعبد الحليم ورياض السنباطي وسيد درويش وغيرهم الآن كل شباب مصر من شتي المحافظات يتركون مدنهم الى القاهرة يبحثون عن مركز الابداع المقام بأرض الاوبرا لأنهم كلما يشاهدون محطة تليفزيونية أو يقرأون خبراً في جريدة يجدون الفنان خريج هذا الكيان، والبعض الآخر يذهبون الى الاوبرا يسألون عن سليم سحاب وصلاح غباشي، لأنهم يريدون الغناء بعد أن أغلقت قصور الثقافة أبوابها في وجوههم، الأصل في الحكاية ان توفر وزارة الثقافة البيئة المناسبة للابداع، وأن يطوف الوزير كل قصور الثقافة المنتشرة في كل مدن مصر لكي يقف على مشاكلها ويقوم بحلها، كذلك يعيد لقيادات قصور الثقافة الفكر الذي من أجله تم تأسيسها، فهي لم تخلق لكي تصبح مكاناً يلتقي فيه مجموعة من المواطنين، كل فناني الاقاليم يتمنون أن تعود قصور الثقافة الى فكرها عندما كان يطلق عليها الثقافة الجماهيرية.. فاللعب في جينات هذا الكيان لم ينتج عنه سوى تدمير عقول شبابنا الذي أصبح هدفاً للفكر الارهابي المتطرف بالدرجة التي جعلت من بعضهم مشروعاً لارهابي جديد، في ظل تخلي الدولة عنه.. الأهم بالنسبة لنا كمصريين ليس أن تكون مصر علمانية أو دينية، الأهم ان يكون شباب هذا الوطن مدركاً لحجم الاخطار التي نتعرض لها. ولو نجحنا في هذا لن ننقذه فقط من الفكر المتطرف لكننا سوف ننقذه من سينما وأغاني الهلس التي جعلته ايضاً مشروعاً انسانياً فاشلاً يبحث عن المزاج في كل خطوة يخطوها.