كشرت الحكومة عن أنيابها وأعلنت مؤخراً على لسان الدكتور محب الرافعى وزير التربية والتعليم عن حصر مراكز أو ما يطلق عليها «سناتر» الدروس الخصوصية تمهيداً لإغلاقها، وأعلنت عدة محافظات عن إغلاق عدد من المراكز، إلا أنه على ما يبدو فإن هذه الحرب الشرسة التى أعلنتها الحكومة لم تؤثر فى المراكز التى بدأت العمل منذ بداية الشهر الماضى، وبمجرد الانتهاء من الإجازة الصيفية بالنسبة للقائمين عليها وبدأ العمل يجرى على قدم وساق فيها، فهل تفلح تهديدات الحكومة -هذه المرة- فى إغلاق هذه المراكز التى أعلنت الحرب عليها مراراً من قبل؟ وهل تنجح فى القضاء على شبح الدروس الخصوصية الذى يلتهم ما يقرب من 22 مليار جنيه سنوياً تقطعها الأسر المصرية من قوت يومها ليحصل عليها المعلمون الذين حاولت الحكومة جاهدة تحسين أوضاعهم بتطبيق الكادر عليهم، ومع ذلك فما زالت الكارثة مستمرة وما زالت الحرب مستعرة بين الحكومة والمعلمين بسبب قرار إغلاق هذه المراكز. منذ سنوات طويلة تعتبر الدروس الخصوصية آفة التعليم فى مصر، حيث تحول معها التعليم إلى مهنة دون كرامة، فالمعلم الذى يمد يده إلى تلاميذه ليأخذ منهم الأموال ويتناول «الشاى والكيك» فى منازلهم، يكون قد فقد هيبته تماماً وأصبح لا يستطيع عقاب طالب يمنحه راتباً شهرياً، ودفع التعليم كله ثمن هذا الوضع المعكوس، حيث أصبح الطالب هو صاحب اليد العليا والمعلم هو صاحب اليد السفلى، وبالتالى ضاعت هيبة المعلم وانهارت العملية التعليمية كلها، ومن ثم بدأت الحكومات المتعاقبة تتحدث عن ضرورة القضاء على الدروس الخصوصية وتحسين أحوال المعلمين كوسيلة للقضاء عليها، إلا أنه رغم تطبيق نظام الكادر على المعلمين وزيادة رواتبهم كثيراً عن ذى قبل فظاهرة الدروس الخصوصية ما زالت مستمرة، تمثل تحديا للحكومة وأولياء الأمور على السواء، فالآباء يضطرون إلى استقطاع مبالغ كبيرة من دخولهم تختلف من أسرة إلى أخرى حسب المراحل التعليمية لأبنائهم، ومحل إقامتهم، وفى النهاية تجد الأسر المصرية نفسها مضطرة لدفع حوالى 22 مليار جنيه يتم توفيرها على حساب الحاجات الأساسية من طعام وشراب وعلاج، أما الحكومة فتعلن كل عام الحرب على هذه الظاهرة التى أفسدت التعليم، مرة بالتهديد بتعيين شرطة لمكافحة الدروس الخصوصية، واخرى بإغلاق المراكز وهو ما فعله الدكتور محمود أبو النصر الوزير السابق، واتبعه أيضا الدكتور محب الرافعى وزير التعليم الحالى، الذى أعلن منذ أيام قليلة عن رصد وزارته ل1628 مركزا للدروس الخصوصية، وصرح الوزير بأنه سيتم إغلاق هذه المراكز لمحاربة الدروس الخصوصية، كما أعلنت الوزارة أن الحرب ستتم أيضا من خلال المجموعات المدرسية، وكانت الوزارة رصدت 452 مركزاً فى محافظة القاهرة لتحتل المركز الأول بين المحافظات المختلفة من حيث عدد المراكز الموجودة بها، فى حين رصدت 227 مركزاً فى محافظة بنى سويف، و111 فى المنيا و193 فى كفر الشيخ، و126 فى القليوبية، وخصصت الوزارة خطاً ساخناً لتلقى بلاغات المواطنين ضد هذه المراكز، وأكد اللواء عمر الدسوقى رئيس الإدارة المركزية للأمن بالوزارة أن أعداد المراكز المبلغ عنها فى تزايد حيث تتلقى الوزارة بلاغات يومية بوجود مراكز للدروس الخصوصية، وأن الوزارة ستضع قواعد لغلق المراكز وإرسالها للمحافظات للبدء فى تطبيقها. تعليم ديليفرى مشكلة الدروس الخصوصية ليست فى المراكز التى تهدد الوزارة بإغلاقها كل عام، ولكن فى كونها منظومة متكاملة الأركان تحول معها التعليم إلى سلعة يتم توصيلها للمنازل «ديليفرى» حيث يتجول المعلمون معظم ساعات النهار على منازل طلابهم، يقومون بتوصيل الخدمة التعليمية إليهم، فى حين تحولت المدارس إلى «بورصة» يتم عقد الصفقات بين الطلبة ومدرسيهم فيها، وتحولت المنازل إلى قاعات للدرس بدون دفع مقابل مثلما يحدث فى المراكز، فهل ستغلق الوزارة المنازل فى وجه المدرسين؟ أم ستمنع أولياء الأمور من استقبال المعلمين والطلاب؟ إذن مشكلة الدروس الخصوصية ليست فى إغلاق المدارس أو فرض غرامات تصل إلى 5 آلاف جنيه على المراكز التى تدار دون ترخيص كما فعل محافظ المنوفية الدكتور أحمد شيرين فوزى، وإنما فى تحسين منظومة التعليم كلها كما قال الدكتور محمد الطيب الأستاذ بكلية التربية جامعة عين شمس وعضو المجالس القومية المتخصصة، مشيراً إلى أن الأمر يحتاج إلى تحسين أحوال المعلم مادياً بحيث لا يحتاج إلى الدروس الخصوصية لتحسين دخله، مع ضرورة الاهتمام بإعداد المعلم إعداداً جيداً فى كليات التربية، وتكريس فكرة أن التعليم رسالة يجب أن يقوم بها المعلم وليست وسيلة للربح المادى، كما أنه لابد من تغيير نظام التعليم المعتمد على التلقين والحفظ والذى يجعل التلميذ عاجزاً عن التحصيل دون معلم خصوصى، وزيادة عدد المدارس لضمان تقليل كثافة الفصول بما يضمن أداء أفضل للمعلم وفهم أفضل للتلميذ، وتنقية المناهج الدراسية من الحشو والاعتماد على الفهم وتشغيل عقل الطالب والاستنتاج والاهتمام بالبحث. المعجزة منذ سنوات طويلة والجميع يتحدث عن مشكلة الدروس الخصوصية والوزارة تعلن الحرب عليها والمحليات تساندها، ومع ذلك فالظاهرة مستمرة بل إنها فى تزايد مستمر، حتى إن جدران المنازل وأعمدة الانارة وأكشاك الكهرباء وأسوار المدارس والأندية الرياضية مليئة بأسماء مدرسين، فهذا معجزة الرياضيات، وهذا إمبراطور التاريخ، وذاك ملك الجغرافيا، وهناك عبقرى الفيزياء وملك الكيمياء والفريد فى الأحياء، وغيرها من الألقاب التى منحها كل منهم لنفسه، وراح يطبع مئات البوسترات ويعلقها فى الشوارع بعد أن كانت العملية تتم فى الخفاء، ولأن مدرسى الدروس الخصوصية أصبحوا أقوى من الوزارة فبمجرد إعلان محافظة الغربية عن تطبيق قرار وزير التعليم بإغلاق مراكز الدروس الخصوصية قام مدرسوها بتدشين حملة لجمع التوقيعات تحت عنوان «صرخة» لرفض قرار المحافظة، مؤكدين أن إغلاق هذه المراكز «خراب بيوت» لهم، وهددوا بالتصعيد والتظاهر فى حالة تنفيذ تلك القرارات التى وصفوها بالعنترية، كما قاموا بتشكيل جمعية للدفاع عن حقوق المعلمين، مشيرين إلى أن كل مهنة بها عمل عام وآخر خاص، فهناك عيادة طبيب ومكتب محامى أو مهندس، فلماذا يحرم المعلم من العمل الحر طالما أنه يدفع الضرائب والتأمينات ويفيد الطلاب والدولة؟ ومن هذا المنطلق زادت اعلانات مدرسى الدروس الخصوصية فى القاهرةوالمحافظات استعداداً للعام الدراسى، مما جعل الدكتور جلال مصطفى السعيد محافظ القاهرة يكلف رؤساء الأحياء بإزالة إعلانات الدروس الخصوصية الموجودة على أسوار المدارس، وتسجيل بيانات المدرسين من على الإعلانات وأرقام هواتفهم، وتحرير محاضر لهم لأنهم يضربون بالقانون عرض الحائط، ورغم قرارات المحافظين ووزارة التربية والتعليم فما زالت الاعلانات معلقة فى الشوارع تتحدى الحكومة وما زالت المراكز تعمل فى وضح النهار، والمجموعات التى يتم تشكيلها فى المدارس تعلن جميعها بدء العام الدراسى قبل موعده الفعلى بشهرين تقريباً حيث بدأ موسم الدروس الخصوصية فى أغسطس الماضى رغم أن العام الدراسى سيبدأ أواخر سبتمبر الجارى. وإذا كانت الدروس الخصوصية تتحدى الحكومة بهذا الشكل حتى إنها فرضت نفسها على اجتماع مجلس الوزراء الذى راح يبحث لها عن حل، فهل يمكن القضاء عليها؟ وهل ينجح قرار مجلس الوزراء بإنشاء مراكز تقوية حكومية كبديل عن مراكز الدروس الخصوصية؟ يجيب عن هذه التساؤلات الدكتور حسن شحاتة أستاذ المناهج وطرق التدريس بكلية التربية جامعة عين شمس، مشيراً إلى أن الإصلاح يجب أن يبدأ من الكليات بإعداد المعلم إعداداً جيداً، وإعادة الهيبة إليه وأن يكون دخله الشهرى دخلاً مجزياً بحيث لا يمد يده لطلابه ليأخذ منهم ما يكفيه، ومع الاهتمام بتغيير نظام التعليم كله والامتحانات التى جعلت الطالب لا يعرف سوى حفظ المنهج حتى ينتهى من الامتحان، وبعده ينسى كل شيء، فالتعليم يجب أن يكون من أجل الحياة وليس من أجل الامتحان. وعن مراكز الدروس التى ستنشأها الحكومة قال إنها ستزيد من حجم المشكلة لأنها ستكون بديلاً مقنناً للمراكز الحالية ولن تحل المشكلة، فمشكلة الدروس الخصوصية يجب أن يتم حلها حلاً شاملاً جذرياً يحدث نهضة حقيقية فى التعليم، أما الحلول الأخرى فستكون مجرد مسكنات وبدائل لا طائل منها. الدكتور كمال مغيث الخبير بالمركز القومى للبحوث التربوية يرى أن مشكلة الدروس الخصوصية لن تحل نظراً للحالة المتردية للمعلم مادياً، فمهما زادت الأجور لن تتواكب مع زيادة الأسعار، ومن ثم يلجأ المعلم للدروس الخصوصية لتوفير حياة كريمة له ولأسرته، ولذلك يجب أن تبحث الدولة عن بدائل لزيادة أجور المعلمين بما يتناسب مع ارتفاع الأسعار للقضاء على الدروس الخصوصية، وهذه هى الخطوة الأولى التى يجب أن تبدأ بها الحكومة، أما اللجوء لإنشاء مراكز بديلة للدروس الخصوصية تابعة للحكومة فلن تحل المشكلة بل ستزيدها تعقيداً. هكذا أجمع الخبراء أن مشكلة الدروس الخصوصية لن تحل بإغلاق المراكز أو إنشاء مراكز حكومية بديلة فالأمر يحتاج إلى حزمة متكاملة من الحلول الجذرية تتضمن تحسين أحوال المعلم والاهتمام بالمناهج الدراسية وتغيير نمط التعليم فى مصر، ودون هذه الحلول المتكاملة ستظل الدروس الخصوصية تستنزف دخل الأسرة المصرية، وتهدم العملية التعليمية برمتها.