ما أفدح الخسارة التي يخسرها من ابتعد عن القرآن الكريم، وما أقسى المعاناة التي يعانيها ذلك الذي هجر كتاب الله سبحانه ولم يعد متواصلا معه، وهى خسارة لا يستشعرها إلا أصحاب القلوب الحية، التي لا تزال تنبض بالإيمان، إذ القرآن منهاج الحياة، ومصباح الظلام، ومنير البصائر، ودليل التائه إلى دار السلام. وأصحاب القرآن الذين يعلمون معانيه ومقاصده ويقتربون منه، ويتواصلون معه، ويتلونه آناء الليل وأطراف النهار، هم الذين قد أعربوا عن هدف ظاهر واضح لحياتهم، وسبيل مستقيم معلوم لمستقبلهم، ورجاء يسعون إليه نصب أعينهم، كما وصفهم الله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ».. وهم أكثر الناس فهما لمنهج الإسلام، وأكثر الناس إدراكًا لمعنى الحياة، ولمعاني الآيات التي أمر الله سبحانه أن تتدبر وتتفهم: «كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ».. وكثير من المسلمين هجروا القرآن وبعدوا عنه، فجف نبع الخير الذي كانت ترتوى منه قلوبهم، وتركوا أنفسهم لماديات الحياة، يتقلبون بين براثنها القاتلة، فتلقي ببعضهم يومًا على جنب وآخرون على وجوههم، يكادون لا يفيقون من غيبتهم التي تتناقص معها أعمارهم كل يوم وساعة. وكثير من الناس اكتفى بسماع بعض آياته أثناء سفره وأثناء بداية يومه، والبعض اكتفى بسماع آياته أثناء مروره بالطريق أو وجوده في موقف عابر ! آخرون صاروا لا يستمعونه إلا في الجنائز والمآتم وساعات المصاب. قال سبحانه: «وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا»، وقال سبحانه: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُون».. واليهود قد ورثوا التوراة عن أسلافهم، ولم يلتزموا بما أُخذ عليهم فيها من عهود، على الرغم من قراءتهم لها، قال القرطبي في تفسيره: «وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. فقد روى الدارمي في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «سَيَبْلَى الْقُرْآنُ فِي صُدُورِ أَقْوَامٍ كَمَا يَبْلَى الثَّوْبُ، فَيَتَهَافَتُ، يَقْرَءُونَهُ لَا يَجِدُونَ لَهُ شَهْوَةً وَلَا لَذَّةً، يَلْبَسُونَ جُلُودَ الضَّأْنِ عَلَى قُلُوبِ الذِّئَابِ، أَعْمَالُهُمْ طَمَعٌ لَا يُخَالِطُهُ خَوْفٌ، إِنْ قَصَّرُوا، قَالُوا: سَنَبْلُغُ، وَإِنْ أَسَاءُوا، قَالُوا: سَيُغْفَرُ لَنَا، إِنَّا لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا». إننا في حاجة ماسة لمصالحة مع كتاب الله سبحانه، نستغفر الله سبحانه فيها عن تقصيرنا تجاه القرآن العظيم، ونندم ونتوب من هجره، ونؤوب ونعود إليه، نقرؤه فلا نفتر عنه، ونتدبره فلا نغفل عن معانيه، ونطبقه فلا ننكص عن تطبيق أمره ونهيه، نعود إلى نوره العميم، ونحيا بمنهاجه القويم.