أتابع باهتمام أداء الرئيس السيسى السياسى على الصعيد العربى والإقليمى والعالمى، وتلفتنى البراعة فى الأداء خاصة فى حالات تتكاثر فيها الألغام والعقبات، فإذا بالرجل يتحرك وسط هذه الظروف غير المواتية ببراعة وثقة. واستطاع «السيسى» أن يعيد مصر - بدرجة كبيرة - إلى موقعها الطبيعى فى هذه الساحات جميعاً، كدولة محورية، ورقم لا يمكن تجاهله عند الحديث عن خطط المستقبل لهذه المنطقة الحيوية، وأن يتعامل مع الدول الكبرى والعظمى بالكبرياء الوطنى الذى يعرف لغة المصالح المتبادلة التى تحكم العلاقات بين الدول بغير تفريط فى الثوابت الوطنية وبغير شعور الاستعلاء عند التعامل مع دول صغيرة أو شعور بالدونية عند التعامل مع الدول العظمى. هذا التوازن الرائع فى السياسة الخارجية التى يمسك السيسى بزمامها استعاد لمصر مكانتها الطبيعية فى زمن قياسى. جاءت رحلة الرئيس السيسى إلى ألمانيا، وسط جو ملبد بغيوم كثيفة ومؤامرات عديدة تحاول أن تجعل من هذه الزيارة شركاً يسقط فيه الرجل، فهو بمنطق قوى معادية تملك نفوذاً قوياً فى ألمانيا عليه أن يختار بين أمرين أحلاهما مر، الاختيار الأول الذى روج له البعض هو الاعتذار عن عدم إتمام الزيارة، لتنطلق أبواق القوى المعادية معلنة بشماتة خوف الرجل من مواجهة تضعه فى حالة من الحرج والارتباك، أما الاحتمال الثانى فهو قبول الرجل بالتحدى وقراره بإتمام الزيارة وعندها سيواجه مظاهرات احتجاج يتصور منظموها أنها ستكون الأكبر والأكثر تأثيراً، فضلاً عن مواقف لمسئولين ألمان ومؤسسات ألمانية تعلن عن رفضها لسياسات الرجل وتستفزه. وسط هذه الأجواء أتم السيسى زيارته وتعامل مع هذه الأجواء المشحونة برباطة جأش منقطعة النظير وتعامل مع القيادات الألمانية بندية، ورد على ما أثير من نقد بطريقة موضوعية، وبادل هذه القيادات نقداً بنقد فى إطار من الاحترام والندية. مولد برلين؟! رغم هذه النتائج الإيجابية شعرت بغصة وكنت أتابع بعض الفضائيات المصرية محاولاً أن أتغلب على مشاعر غيظ مكتوم وأنا أشاهد تجمعاً لبعض الفنانين والإعلاميين يتغامزون ويتمايلون وهم يرددون بعض الأغنيات والهتافات المؤيدة للرئيس السيسى، كان المشهد أقرب ما يكون إلى حشود الموالد، ولا أشك مطلقاً فى أن الكثيرين ممن شاركوا فى هذا المولد فعل ذلك باقتناع حقيقى بأنه يناصر الرجل فى مواجهة الهجمة الإعلامية الشرسة التى سبقت زيارته، لكن الأمر المؤكد أن هذا الأسلوب فى التأييد أضر بالمشهد الرائع لأداء الرجل. أولاً: أعطى هذا المشهد للقوى المعادية للزيارة فرصة ذهبية لتقديم هذه المشاهد للشعب الألمانى ومعه شعوب الدول الأوروبية باعتباره دليلاً على أن نظام الحكم فى مصر نظام شمولى يعتمد على قوة السلطة فى تعبئة الجماهير لتبدى تأييدها لهذه السلطة. ثانياً: فى المجتمعات الأوروبية يعتمد التأييد والمعارضة على بيانات ومواقف واضحة ومنطقية وليس على هتافات تردد شعارات عامة. دعاوى التعبير عن مواقف الرئيس أعلم أن ما تم لم تتدخل الرئاسة فيه سواء بالإعداد أو التنفيذ، وأعتقد أن كثيرين مثلى يعرفون براءة الرئاسة مما تم، لكن الواقع أن الأغلبية الساحقة من المصريين يتصورون أن الرئاسة هى التى رعت هذه التظاهرة أو على الأقل لم تبد اعتراضاً على تنظيمها. أما الجانب الأسوأ فهو اقتناع الجماهير بأن بعض من تصدروا المشهد فى هذه التظاهرة هم الشخصيات الأكثر قرباً من الرئيس، وأنهم يعبرون فى كل ما يكتبون فى الصحف أو ينطقون به على شاشات الفضائيات إنما يعبرون عن توجهات وآراء الرئيس. ويعزز هذا الشعور أن الكثير من هؤلاء يحاولون فى كتاباتهم أو برامجهم التليفزيونية الإيحاء للقراء والمشاهدين بأنهم يعبرون عن رأى الرئيس، هذا الاقتناع الجماهيرى يخصم من رصيد التأييد الشعبى للرئيس كلما كتب هؤلاء أو أخذوا يصرخون بعباراتهم المتشنجة على شاشات التليفزيون ليعلنوا مواقفهم فى قضايا عديدة، وأكثرها مواقف مخزية ومرتبكة وتفوح منها روائح تشهير أو ابتزاز أو تأييد لأشخاص أو لدول أو لمؤسسات، وتعرف الجماهير أن هذه المواقف تحركها مصالح شخصية لهؤلاء، وهنا تتصور الجماهير أن هذه الشخصيات تفعل ذلك محتمية بموقعها الذى تتصور الجماهير أنه الأكثر قرباً من الرئاسة. مكتب إعلامى للرئاسة لقد آن الأوان لينشئ الرئيس السيسى مكتباً إعلامياً للرئاسة، ولا أعرف إن كان مثل هذا المكتب قائماً، وإن كنت أشك فى ذلك، لأن النماذج التى ذكرتها ما كانت لتحدث لو أن للرئيس مكتباً إعلامياً محترفاً. نحن نعيش ياسيادة الرئيس عصرالإعلام، وتأثير الإعلام لم يعد بحاجة إلى دلائل تؤكده، ولا أتصور بطبيعة الحال أن يتدخل هذا المكتب بأى صورة من الصور فى «توجيه» الإعلام الرسمى أو الإعلام الخاص، لكننى أريده «صوتاً» يقدم الموقف الرسمى للرئاسة سواء فى صورة بيانات تحدد موقف الرئاسة من موضوعات مثارة على الساحة الداخلية أو الخارجية، وفى حالة ادعاء أحد أنه يمثل الرئاسة تصريحاً أو تلميحاً يرد المكتب بأن أحداً لا يمثل الرئاسة ورأيها إلا هذا المكتب. وأتصور مثلاً فى حالة مظاهرة برلين أن يحدد المكتب تصوره للحملة الإعلامية التى تسبق وتتزامن مع رحلة الرئيس إلى ألمانيا. ولو أعلن مثل هذا المكتب أن مظاهرة التأييد التى يراها مناسبة ستقتصر مثلاً على ما يقوم به المصريون فى ألمانيا من تحركات تتناسب مع عقلية الشعب الألمانى وأنه - أى المكتب الإعلامى - لا يحبذ تظاهرات ساذجة كالتى حدثت، لو أن مكتباً إعلامياً بالرئاسة أعلن ذلك فإننى أؤكد أن هذه التظاهرات الساذجة وأمثالها سوف تتوقف، فالكثير ممن شاركوا تصوروا أن هذه هى رغبة الرئيس فاستجابوا لها، ولو علموا أن الرئيس لا يرحب بمثل هذه التصرفات ما شاركوا فيها، والمكتب الإعلامى المقترح - أراه ضرورة - فلم يعد التعامل مع الإعلام المؤثر، وقفاً على «حملات» موسمية أو التزاماً بنظريات إعلامية، بل أصبح الإعلام حركة نشطة تتابع كل ثانية وليس كل دقيقة حركة الأحداث المتسارعة داخلياً وإقليمياً ودولياً، ويضع الخبراء بمكاتب الإعلام المماثلة التصور الأمثل للتعامل مع المواقف التى تتغير وتتحرك بسرعة مذهلة. وأعود وأكرر أن مثل هذا المكتب مهمته تنحصر فى أنه الجهة المخولة بتقديم موقف الرئيس من كل حدث يحتاج إلى توضيح هذا الموقف، وفى نفس الوقت يقطع الطريق على أصوات بغير حصر كل منها يدعى تصريحاً أو تلميحاً بأنه يعبر عن وجهة نظر الرئيس. أما التدخل بأى صورة من الصور فى حرية الإعلام فأمر مرفوض تماماً. السيد الرئيس.. إذا كان مثل هذا المكتب موجوداً بالفعل فليعلن عن نفسه وإذا لم يكن موجوداً فأرجو أن يسارع الرئيس بإنشائه فلم تعد الظروف تحتمل أن تبقى الجماهير فى حالة شك كلما سمعت أو قرأت أو شاهدت من يصرح أو يلمح بأن ما يكتبه أو يقدمه عبر إذاعة أو شاشة تليفزيون هو التعبير عن اتجاهات وآراء الرئيس.