في وقت تنشغل فيه الإدارة الأميركية في التفتيش عن «الثغرات» التي تسببت ب«انتكاسة» الجيش العراقي في الرمادي، يواصل تنظيم داعش تنفيذ استراتيجية عسكرية - اقتصادية تهدف إلى تعزيز ملاءة خزينته وبالتالي قدرته على تمويل حرب طويلة الأمد في سورياوالعراق. في نطاق هذه الاستراتيجية، لم يعد خافيا على أحد تركيز «داعش» على احتلال المناطق الأثرية في سورياوالعراق. ويبدو أن احتلال هذه المناطق تحول إلى أولوية اقتصادية بعد أن قصف الطيران الحربي الأميركي معظم مصافي النفط التي يسيطر عليها التنظيم الإرهابي، والتي كانت مصدر دخله الأبرز، مما دفعه إلى تنويع مصادر دخله والاعتماد أكثر فأكثر على تجارة مصادر لا يستهدفها قصف الطيران الأميركي، أي المواقع الأثرية. في سوريا، وخلافا لتحركات فصائل المعارضة الأخرى، ركزت «داعش» على استكمال احتلال منطقة تدمر الغنية بالنفط والفوسفات.. وتحديدا بالآثار التاريخية بعد أن انفتحت شهية التنظيم على تجارة الآثار في أعقاب استيلائه على متحف الموصل في العراق. ولأن للاحتياجات المالية أحكامها، لم تتردد «داعش» في مخالفة تهجها المعادي لوجود آثار لحضارات غير إسلامية في مناطق احتلالها، ولا التخلي عن سمعتها كمجموعة متخصصة بنبش القبور، وتبني موقف واقعي يتمثل بالمتاجرة بالآثار عوض هدمها أو تحطيمها. واللافت في هذا السياق أن ممارسات «داعش» لا تخلو من حس تجاري مهني يسمح بالقول: بقدر ما هي مشروع سياسي فاشل تتصرف وكأنها مشروع تجاري ناجح. يؤكد هذه الظاهرة التجارية ل«داعش» ما نقله الكاتب الأميركي نيكولاس بيلهام، في نشرة «نيويورك ريفيو» (عدد 4 يونيو (حزيران) الحالي) عن مدير متحف بغداد، الذي التقاه قبل أسابيع معدودة، من أن شريط «الفيديو» الذي وزعته «داعش» عن عملية حرق متحف الموصل للآثار في فبراير (شباط) الماضي كان يهدف إلى تسويق قطع آثار الجناح الذي لم تحرقه وتحسين سعرها في السوق السوداء. ويضيف مدير متحف بغداد أن ما يفعله «الداعشيون» الآن في المواقع الأثرية العراقية التي احتلوها هو «الحفر لا الهدم». ويشهد على هذا التوجه التجاري المتزايد في ممارسات «داعش» ما نقله الكاتب الأميركي نفسه عن أحد «مستشاري» الحكومة العراقية (دون أن يسميه) من أنه يقدر مردود «دولة الخلافة» المزعومة من مبيعات الآثار الأشورية الثمينة «بمئات الملايين من الدولارات»، مما يجعل «داعش» أفضل التنظيمات الإرهابية تمويلا. إذا كان ثمة عبارتان رئيسيتان يمكن استخلاصهما من هذه التقارير فقد تكونا: - على الصعيد «الداعشي»، إدراك «دولة الخلافة المزعومة» صعوبة احتفاظها في القرن الحادي والعشرين «بأرثوذكسية» طروحاتها ونهجها على السواء. وكما اضطرت لأسباب مالية إلى التخلي عن حملتها العدوانية على الآثار غير الإسلامية، ستضطر أيضا للتخلي عن كثير من «مبادئها» ومفاهيمها المدنية المنافية لعصر تتعزز فيه حقوق الإنسان الفردية والجماعية... هذا إذا قيض للدولة الاستمرار لبعض الوقت في بلاد الشام، فعلى المدى الطويل لا تختلف «دولة» الخليفة أبو بكر البغدادي في الرقة عن دولة جوزيف ستالين في موسكو: عاشت مؤقتا على أمجادها العسكرية.. وقضت مختنقة بمبادئ تقدم ما تعتبره مصلحة الدولة على احتياجات أهلها.. - على الصعيد الأميركي، اعتبار تجفيف مصادر تمويل «داعش» أكثر إلحاحا من تدريب الجيش العراقي، وأسلم أيضا، بعد أن طرح انهيار الجيش في معركة الرمادي احتمال تحول حرب العراق إلى مواجهة «داعشية» - إيرانية»، مباشرة أو بالوكالة، إذا ما طالت وطغى طابعها المذهبي على ما عداه من معطيات. وغير خاف أن ضبط الولاياتالمتحدة لتجارة السوق السوداء بالآثار العراقية ليس صعبا بل مضمونا إذا واجهته بالجدية المطلوبة على اعتبار أن هذه السوق معروفة، وفي مقدمتها متاحف الدول الغربية وهواة جمع الآثار فيها، خصوصا أن استمرار هذه التجارة دون رادع أو رقيب من شأنه إضفاء المصداقية على من يدعي بأن الغرب هو الممول الأساسي ل«داعش» في تجارة النفط كما في تجارة التاريخ. نقلا عب صحيفة الشرق الاوسط