ظلت أفريقيا مسرحاً أساسياً في نصه الشعري، فشكلت فيه محنة الإنسان الأفريقي وصراعه ضد الرّق والاستعمار ونضاله التحرري، فقال عنه الناقد المصري الدكتور محمود أمين العالم: «لقد أخذ الشاعر يلونها (أفريقيا) بلون مشاعره، ويوحد تاريخه بتاريخها، ويخلع عليها مأساته الخاصة، ويبصر من خلالها خلاصه المنشود.. ويتخلص من أزماته الباطنية ويخلع عليها صراعه النفسي المرير». وبالفعل كانت أفريقيا أهم الموضوعات التي تناولتها قصائده، وألف عدة دواوين في هذا المضمار منها ديوان «أغاني أفريقيا» الصادر في عام 1955، و«عاشق من أفريقيا» وصدر في عام 1964م، و«اذكريني يا أفريقيا» ونشر في عام 1965، وديوان «أحزان أفريقيا» الصادر في عام 1966، حتى أصبح «صوت أفريقيا وشاعرها». إنه الشاعر السودانى الكبير محمد الفيتورى الذى وافته المنية منذ أيام فى أحد مستشفيات الرباط بالمغرب التى كان يقيم فيها مع أسرته فى سنوات عمره الأخيرة عن عمر ناهز 78 عاماً، بعد صراع طويل مع المرض، وعدة شائعات بوفاته، كانت أسرة الشاعر تخرج كل مرة لتنفيها، أما اليوم فالخبر جد حقيقى. وإن كانت أفريقيا أصابت كبد الألم عند الفيتورى، فإنها لم تكن وحدها همه الوحيد، ولكن كان للهّم العربي أيضاً مكانة في أعماله من خلال تناوله للقضايا العربية، خاصة القضية الفلسطينية، فقد تنقل الفيتوري بين العديد من بلدان الوطن العربي ومدنه من الإسكندرية وحتى الخرطوم ومن بيروت ودمشق حتى بني غازي وطرابلس، وكتب العديد من القصائد المهمة التي جعلته واحداً من كبار الشعراء العرب المعاصرين لدى هذا الوطن الملكوم بقضاياه، فهو يقول: لقد صبغوا وجهك العربي آه... يا وطني لكأنك، والموت والضحكات الدميمة حولك، لم تتشح بالحضارة يوماً ولم تلد الشمس والأنبياء مثلت البشرة السمراء فى حياة الفيتورى قصة مؤلمة لم يستطع تجاوزها فى طفولته ولا حتى شبابه، فذكر كثيرون من المقربين منه أن لون بشرته تسبب له فى عوائق نفسية طاردته منذ الطفولة، بل أن الشاعر نفسه أعلن ذلك، حيث يقول فى أحد حواراته: «فأبي سوداني أسود وأمي ليبية ابنة واحد من أكبر تجار الرقيق في ليبيا في بداية القرن، وكانت جدتي من أمي جارية جميلة سوداء تزوجها جدي وأعتقها، وفي حضن هذه الجدة تربيت مدة من حياتي متشبعاً بتاريخ النخاسة». لذلك سوف نجده يكتب عن الحرية والانعتاق ومناهضة القيود والاستبداد والاعتزاز بالوطن منذ بداياته الشعرية.. حيث يقول فى إحدى قصائده: قلها لا تجبن.. لا تجبن قلها في وجه البشرية.. أنا زنجي.. وأبي زنجي الجد وأمي زنجية.. أنا أسود.. أسود لكني حر أمتلك الحرية.. أرضي أفريقية. وفي سنة 1955، نشر الشاعر مجموعته الشعرية الأولى «أغاني أفريقيا» حيث اضطلع مجموعة من رجالات النقد والفكر السياسي العربي بتناولها وعرضها، ومن أبرزهم أحمد رشدي صالح وكامل الشناوي وزكريا الحجاوي وأنيس منصور ورجاء النقاش، الذين اعتبروه من الشعراء العرب المعاصرين يعيش حالة انكسار من جراء موضوعاته «الأفريقية»، كما أنه لقى تشجيعاً من سلامة موسى وفتحي غانم، وهو شاعر بارز يعد من رواد الشعر الحر الحديث، وتم تدريس بعض أعماله ضمن مناهج آداب اللغة العربية في مصر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كما تغنى ببعض قصائده مغنّون كبار في السودان. ويعتبر الفيتوري وصديقاه الراحلان الدكتور جيلي عبدالرحمن والبروفيسور الرحل تاج السر الحسن، قد أحدثوا زلزالاً شعرياً في فترة الخمسينيات أثر على كثير من الشعراء العرب، فكان للفيتوري مدرسته الخاصة في كتابة القصيدة، حيث أعتبر جزءاً من الحركة الأدبية العربية المعاصرة، وكذلك من رواد الشعر الحر الحديث، ففي قصيدة «تحت الأمطار» نجده يتحرر من الأغراض القديمة للشعر كالوصف والغزل، ويهجر الأوزان والقافية، ليعبر عن وجدان وتجربة ذاتية يشعر بها وغالبًا ما يركّز شعره على الجوانب التأملية، ليعكس رؤيته الخاصة المجردة تجاه الأشياء من حوله مستخدماً أدوات البلاغة والفصاحة التقليدية والإبداعية، ففي قصيدة «معزوفة درويش متجول» يقول الفيتوري: في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق وزحمت براياتي وطبولي الآفاق عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق هو محمد مفتاح الفيتوري، ولد سنة 1930 في بلدة الجنينة الواقعة على حدود السودان الغربية.. كان أبوه صوفياً كبيراً وأحد رجالات الطريقة الشاذلية، في طفولته استقرت أسرته بمدينة الإسكندرية، حيث تابع دراسته الابتدائية والثانوية وعاش في مناخ ذي نفحة دينية إسلامية، وحفظ القرآن وانتقل إلى القاهرة، حيث تخرّج في كلية العلوم في «الأزهر الشريف»، وعمل محرراً أدبياً بالصحف المصرية والسودانية، وعُيّن خبيراً للإعلام بجامعة الدول العربية في القاهرة في الفترة ما بين 1968 و1970، ثم عمل مستشاراً ثقافياً في سفارة ليبيا بإيطاليا، كما عمل مستشاراً وسفيراً بالسفارة الليبية في بيروتبلبنان، ومستشاراً للشئون السياسية والإعلامية بسفارة ليبيا في المغرب. أسقطت عنه الحكومة السودانية في عام 1974 إبان عهد الرئيس جعفر نميري الجنسية السودانية وسحبت منه جواز السفر السوداني لمعارضته للنظام آنذاك وتبنّته الجماهيرية الليبية، وأصدرت له جواز سفر ليبيا وارتبط بعلاقة قوية بالعقيد معمر القذافي وبسقوط نظام القذافي سحبت منه السلطات الليبية الجديدة جواز السفر الليبي، فأقام بالمغرب مع زوجته المغربية «رجات» في ضاحية سيدي العابد، جنوب العاصمة المغربية الرباط. وفي عام 2014، عادت الحكومة السودانية ومنحته جواز سفر دبلوماسي. وللشاعر الكبير ضمن إنتاجه الأدبى 4 مسرحيات منها اثنتان مكتوبتان نثراً هما: «يوسف بن تاشفين»، و«والشاعر واللعبة»، ومسرحيتان شعريتان هما: «أحزان أفريقيا» (سولارا) «وثورة عمر المختار»، إضافة إلى 12 ديوان شعر نشرت فى ثلاث مجموعات شعرية: الأولى والثانية فى لبنان، والثالثة فى القاهرة منها: «سقوط دبشليم» وهى قصيدة طويلة مؤلفة من 30 مقطعاً والبطل والثورة والمشنقة وابتسمى حتى تمر الخيل وأقوال شاهد إثبات ومعزوفة لدرويش متجول ويأتى العاشقون إليك وقوس الليل قوس النهار وأغصان الليل عليك. وقد حصل الفيتورى على عدد من الأوسمة والجوائز منها: وسام الفاتح العظيم من الدرجة الأولى من ليبيا، ووسام التقدير الأدبى من العراق، والوسام الذهبى للعلوم والآداب من السودان، وجائزة كفافيس للشعر العربى، كما ترجمت بعض مختاراته الشعرية إلى الإيطالية على يد المستشرق الإيطالي جبريالي.