تفاعل شعبنا كثيراً مع شخصية «عبده مشتاق» التي ابتدعها الثنائي الساخر أحمد رجب ومصطفي حسين.. فهي شخصية من يحلم بالمناصب الرفيعة.. وزيراً أو محافظاً ومن يسعي للتقرب ممن بيدهم القرار.. وأتذكر هنا أحد أساتذة الإعلام الذي كان يحلم بمنصب وزير الإعلام.. إذ كان هذا المنصب هو المركز الثاني- بعد رئيس الوزراء- لما له من سلطان وجاه.. وكان إذا ظهرت شائعة عن قرب أي تعديل وزاري.. كان ينشط فيكتب.. ويتصل بأصدقائه الصحفيين لينشروا عنه، أي شيء، علي أمل أن يتذكره ولي الأمر فيأتي به وزيراً للإعلام!! ذلك أن الوزير- عندنا- له شنة ورنة. وله جاه وسلطان وهيلمان تفتح له الأبواب.. وتسبقه طوابير الموكب لتفتح له الطريق.. ومازلنا نتذكر أيضا وزير الغفلة، أي الصدفة، التي جاءت به إلي المنصب.. ولم يكن هو المقصود بل كان المقصود شخصاً آخر.. وهي قصة حقيقية وقد تولي وزير الصدفة هذا وزارة التموين في حكومات ما قبل ثورة يوليو 1952!! وكان من مظاهر الأبهة الوزارية «كشك الحراسة» الذي يوضع أمام بيت الوزير حتي قبل أن يؤدي اليمين الدستورية.. ويزال بمجرد خروجه من الوزارة!! وكذلك كان منصب المحافظ- أو مدير المديرية قبل نظام الإدارة المحلية أول الستينيات.. لأن المحافظ هو أعلي وأكبر شخصية بالمحافظة وهو يمثل الملك، أو رئيس الجمهورية.. في محافظة، وله أيضا موكبه الذي تسبقه الموتوسيكلات وسيارات الحراسة.. ولوازمها. وهو بحكم منصبه هذا يرأس كل كبار المسئولين.. في المحافظة من تعليم وصحة وتموين وشرطة ومالية وكلمته أو أوامره تعادل كلمة رئيس الحكومة تماما، في محافظته. ولكن الأوضاع تغيرت الآن تماماً.. بعد أن تغيرت الموازين وأصبح علي المحافظ أن يحمل مشاكل المحافظة- كلها- فوق كتفيه.. فلو سقطت عمارة.. أو أغرقت مياه الأمطار، أو المجاري، أى شارع. أو لو مات مريض فى أى مستشفى أو اختفت أنابيب البوتاجاز.. أو ارتفعت تلال القمامة.. فهو المسئول الأول والأخير.. وعليه أن يحمل أوزار كل المخطئين من مرؤوسيه، حتي ولو كانوا بدرجة وكيل وزارة!! فما بالنا بمسئولية الوزير؟! وهكذا بعد أن كان الوزير أو المحافظ ينعم بكل شيء- زمان- إلا أن الوضع تغير الآن.. وبالذات عندما تضخم دور الإعلام.. من صحافة وتليفزيون وبعد أن أصبحت الفضائيات تبحث عن أي خطأ وتسلط عليه الأضواء.. وليس أسهل من اتهام المحافظ والوزير بالمسئولية والتقصير.. حتي ولو كان سجله يضم عظيم الانجازات. ولكن الرأي العام لا يرحم ومن ثم تنهال الاتهامات والانتقادات علي الوزير أو المحافظ. لذلك- بعد أن عشنا عصراً يبحث فيه المصري عن المنصب الكبير.. أصبح يهرب منه.. وبعد عصر «عبده مشتاق» وجدنا من يعتذر عن عدم قبول المنصب أو من يتهرب منه، لأنه إن قبله عليه أن ينسي دوره الأسري أو العائلي وينسي تماماً واجباته تجاه زوجته وأولاده.. بل إن الزوجات بعد أن كن يتباهين بمنصب الزوج- وزيراً أو محافظاً- أصبحن يحرضن الأزواج علي عدم قبول هذا المنصب، أو ذاك. و«طظ» في المنصب والجاه.. ولذلك قال الرئيس السيسي- منذ ساعات- إن 90٪ من الشخصيات العامة صاحبة الكفاءة تعتذر عن تولي المسئولية لأنهم يعرفون مقدماً أنهم سوف يتعرضون للجلد من الإعلام لأسباب ليس لهم علاقة بها.. ولاحظوا الأسلوب الذي يتعامل به مقدمو البرامج الحوارية في الفضائيات، مع المسئولين بلا استثناء.. وهو أسلوب أراه مهيناً للأشخاص المسئولين.. فضلاً عن قلة الذوق وانعدام الأدب في التعامل مع المسئولين، وعلي الهواء مباشرة.. فهل تجاوز الإعلام دوره في النقد الحقيقي.. ودخل في مرحلة المهاترات وانه كلما ارتفعت نغمة النقد زادت شعبية المذيع أو القناة؟! نحن فعلاً تجاوزنا النقد البناء.. إلي النقد الهدام.. وتركنا النقد الذي يقوم علي الحقائق إلي الشائعات التي باتت تطول الأمور الشخصية للمسئولين الكبار.. ولذلك ليس مستغرباً أن نجد من المحافظين من يطلب اعفاءه من منصبه بل ويلح علي ذلك، وفي مقدمتهم الدكتور علي عبدالرحمن محافظ الجيزة أستاذ الجامعة ورئيس أقدم جامعاتنا العريقة.. ويا أيتها الحرية.. ويا أيها الاعلام كم من الجرائم الآن ترتكب باسمك.