مذلة.. مهانة.. ورحلة عذاب يتكبدها ذوو الاحتياجات الخاصة كل يوم يضطرون فيها لركوب المترو، باعتباره الوسيلة الأكثر أمانا وسرعة إذا ما قورنت بباقى وسائل المواصلات، وبدلا من أن ينشغل المسئولون بحل مشاكل 15 مليون معاق يعانون أشد المعاناة داخل محطات المترو التى تفتقد أى معايير لمراعاة حقوق تلك الفئة، يصبح شغلهم الشاغل رفع سعر التذكرة ليصير الفزع فزعين خاصة أن أغلب تلك الفئة لا يعملون ويعتمدون على المعونات من الجمعيات الأهلية والخاصة، كما أن كارنيه التأهيل والمفترض أن يعفيهم من دفع ثمن التذكرة لا يعمل به وأغلب المحطات تصر على دفع نصف تذكرة والتى ستزداد قيمتها بالطبع حال تم رفع سعر التذكرة. وباعتبارى من رواد المترو فإننى شاهدة على عشرات الوقائع المذلة والمهينة، التى يتعرض لها ذوو الاحتياجات الخاصة كل يوم. الواقعة الأبرز والأكثر تأثيرا فىّ.. كانت لأم وطفليها يبلغ عمرهما 14 عاما ومصابين بتخلف عقلى وشلل فى الجزء السفلى من جسدهما.. رأيت تلك السيدة داخل محطة مترو الشهداء تحمل أحد الطفلين لبضعة أمتار ثم تتركه على الأرض وتعود لتحمل توأمه فى الشكل والمرض، واستمرت على هذا الحال إلا أن وصلت لرصيف المترو، فطرحت الاثنين على الأرض من شدة إعيائها، وأخذت تلتقط أنفاسها لبرهة استعدادا لإكمال مشوارها لقصر العينى. المشهد غير الآدمى للطفلين.. بات اعتياديا بالنسبة للأم التى تعودت على تلك المشقة فى مشوار علاجها لهما.. وسريعا وصل قطار المترو إلى المحطة بينما لم أكن انتهيت من حديثى معها، وبصعوبة بالغة حملت معها أحد الطفلين وقذفناه داخل العربة التى أغلق بابها على قدم أحدهما، ليعلو الصراخ والعويل، داخل عربة السيدات، إلى أن تجرأت إحدى السيدات وفتحت الأبواب عنوة وأنقذت قدم الطفل، فى غيبة تامة لرجال الأمن وعمال المترو المنوط بهم تقديم المساعدات لمثل هذه الحالات الحرجة. قصة أخرى بطلها الطفل «إياد» ذو الوجه الملائكى والبالغ من العمر 6 سنوات، والذى كان طفلا طبيعيا إلا أن خطأ طبيا جعله يتعرض لنقص الأوكسجين فى المخ نتج عنه فقدان السمع والبصر والقدرة على الحركة. رأيت سيدة فى العقد السادس من عمرها تحمله وتقف به داخل العربة.. وسرعان ما تبرعت لها الكثيرات بالجلوس، وتبين من حديثى معها أنها جدته تصطحبه كل يوم من شبرا الخيمة إلى أحد مراكز تأهيل ذوى الاحتياجات الخاصة بالدقى، بعد أن ألم بظهر أمه التعب جراء حمله بصفة يومية والذهاب به إلى مراكز العلاج المختلفة تقول جدته: نعانى الأمرين كل يوم فى طريق ذهابنا بإياد إلى المستشفى، فلم نعد نقدر على تكلفة العربات الخاصة لأن مصاريف العلاج اضطرت والده وجده إلى بيع كل ما نملك من أجل أن يشفى ويقدر على ممارسة حياته بصورة طبيعية، ولم يعد أمامنا سوى مترو الأنفاق باعتباره الوسيلة الأرخص إلى الآن، لكن لا توجد أى مصاعد داخل محطة مترو شبرا الخيمة، وكوبرى مشاه شبرا الذى يصلنا إلى داخل المحطة طويل جدا، وحملى الطفل وأنا فى هذا العمر والمشى به تلك المسافة الطويلة أمر فى غاية الصعوبة على وعلى الطفل. قررت أن أخفف عنها عبء المشوار هذه المرة وحملت معها «إياد» وأخذنا نبحث عن المصعد، إلى أن وجدنا أحد المصاعد مفتوحا، لكنه لا يعمل، تظاهرت بالقوة وانا أحمل «إياد» ومضيت أبحث عن عامل المصعد قرابة 10 دقائق دون جدوى، لنكمل مشوارنا فى صعود السلالم وكل ما أفكر فيه كيف تتحمل تلك الجدة المشى لساعات حاملة الطفل كل هذه المسافة، خاصة أن المعاناة لن تنتهى عند الخروج من المترو لكن ستبدأ أنواع أخرى من المعاناة بدءا من تعدية الطرق التى تسير بها السيارات بسرعة جنونية ومرورا بمراكز العلاج التى لا تراعى أن تكون بالقرب من المترو، وانتهاء باستغلال بعض مراكز التأهيل لحاجة الأهالى لرؤية أبنائهم يمشون على أقدامهم ويجعلون ثمن الجلسة الواحدة التى لا تزيد علي ساعة 100 جنيه فيما فوق أى أنه يحتاج لجلسات علاج أسبوعية بتكلفة 3000 جنيه. قصة معاناة أخرى داخل المترو بطلتها هذه المرة سالى السيد الطالبة فى السنة الأخيرة بكلية الآداب جامعة القاهرة، والتى تعد من أشهر رواد المترو، فرغم إصابتها أيضا بمرض شلل الأطفال وجلوسها على كرسى متحرك فهى تصر على الذهاب إلى كليتها كل يوم، ولا تكتفى بذلك وحسب، لكنها تصر على المشاركة فى كثير من الأنشطة والفعاليات الثقافية الى تكون بالقرب من خط المترو على حد قولها. تحكى «سالى» معاناتها فى التحرك داخل المترو، بسبب وجود محطات كثيرة دون مصاعد وحتى المحطات الموجودة بها مصاعد تكون معطلة وتفتح وقت زيارة المسئولين، وعليها أن تنتظر لفترة زمنية أمام سلم كل محطة، لتطلب من عدد من الشباب حملها بكرسيها المتحرك إلى داخل المحطة، ونفس الأمر يتكرر عند الخروج منها. قررت «سالى» التخلى عن شعورها بالحرج من طلب المساعدة فى كل مكان تذهب إليه لصعوبة تحركها، وتصر على النزول كل يوم من المنزل لإكمال تعليمها قائلة «هذا حقى على المجتمع والذى ترفض الدولة إعطائى إياه، لكن حتما سيأتى اليوم الذى تعترف فيه الدولة بحاجتنا. وعبرت سالى عن دهشتها من رغبة المسئولين فى رفع سعر تذكرة المترو متسائلة ماهى الخدمات الجديدة التى تقدمها الهيئة لنا أو حتى الركاب الأصحاء لكى ترفع سعر التذكرة، وشددت على ضرورة استثناء أصحاب ذوى الاحتياجات الخاصة من تلك الزيادة قائلة «كفاية علينا مصاريف العلاج».