فى البلاد التى نهضت.. تجد المواطن عضواً فى مجلس إدارة الجمعية الاستهلاكية بالمؤسسة التى يعمل بها.. وهو أيضاً أمين لجنة الاتصال بجمعية الحى الذى يقيم فيه.. وهو عضو بلجنة تطوير المهنة بالنقابة التى ينتمى إليها وهو عضو رابطة خريجى المدارس التى أتم بها دراسته وهو يشترك دائماً فى اجتماعات مجالس الآباء للمدرسة التى يتعلم بها ابنه... وقد تجد مواطناً آخر سكرتير جمعية حماية المستهلك فى الحى الذى يقيم به وعضو نقابة مستأجرى المساكن المتوسطة التى انتقل حديثاً للإقامة بها وعضو الحزب الديمقراطى ورئيس رابطة الدفاع عن حيوان ما يتجه للانقراض وتجد هذا المواطن يشارك في الأعياد وفى الخدمة العامة للأبراشية التى ينتمى إليها... ما وصفته من نشاطات لأفراد فى المجتمعات التى نهضت وتقدمت هو النشاط العام العادى لأى مواطن.. حيث تحترم فكرة وقيمة العمل والواجب العام وفى كل نشاط هو يشارك فيه فإنه يعطى الوقت والجهد اللازمين لإنجاز المهمة التى تصدى لها. وفى هذا الإطار نلاحظ تداخل حلقات النشاط والعمل الاجتماعى والأهلى والتنموى والسياسى وتبادل قوى الضغط المجتمعى وأثرها فى النهاية فى صياغة وصناعة القرار الذى يفعل العلاقة بين الدولة والمواطن... ويقول مكس فيبر السياسة معناها الارتقاء الى المساهمة فى الحكم أو فى التأثير وفى التوزيع سواء أكان بين الدول أو بين جماعات البشر داخل الدولة.. ويقول ريمون أرون «يعتبر من السياسة كل دراسة للعلاقات القائمة على السلطة بين الأفراد والجماعات ولتدرج القوى داخل المجموعات المترددة».. فسلطة الدولة ليست منفصلة عن السلطات الأخرى ومنها بالتأكيد سلطة الجماعات المختلفة... والسلطة العامة تحادث مختلف الجماعات فى مختلف المجالات سواء تعلق هذا بالإسكان أو بالصحة أو بالضرائب أو بالخدمات العامة أو حتى بأوقات الفراغ.. فليس هناك فطاع من قطاعات النشاط الإنسانى غير مرتبط بالتطور الجماعى وبقرارات الدولة. وتشعر الدولة المسئولة أمام مواطنيها بحاجة متزايدة لاستشارة الجماعات المتخصصة والأهلية والحزبية المختلفة للوصول الى واقع أكثر سيولة وتشابكاً مبدية فى هذا أكبر قدر من المرونة لصناعة الرضا العام والقرار الديمقراطى... ولاشك أن التطور الاجتماعى والاقتصادى الذى مرت به العديد من دول أوروبا من عصر الاقطاع الى الثورة الصناعية مروراً بالحروب الدينية والحروب الاستعمارية الكبرى ووصولاً لمجتمع المعلومات والتقنية كان له أكبر الأثر فى النمو التراكمى للجماعات الأهلية والنقابية والحزبية طبقاً لتطور المطالب طبقاً للتجربة ولاحتياج المجتمع والناس.. أما فى مصر ففى رحلتها لبناء الدولة الحديثة فى أعقاب محمد على نشأت بها الجمعيات الاجتماعية والثقافية التى تطورت مع عهد إسماعيل وتتجه نحو تشكيل الحزب الوطنى الأول فى 1879 والذى يتعاون مع حركة الضباط بزعامة عرابى وكانت وقفة سبتمبر 1881 وجاء الاحتلال البريطانى ليعصف بهذا التطور... ثم ما لبث أن نشأت العديد من الجمعيات والأحزاب والنقابات مع بداية القرن الماضى وكانت نشأة حزب الأمة والحزب الوطنى ونقابة لفافى السجاير وعمال الترام والجمعيات الخيرية والأهلية التى انجزت جامعة القاهرة ثم كانت ثورة 19 التى كان الوفد الابن الشرعى لها.. وتطورت الحركة الحزبية والنقابية حتى أنه تحدد فى 27/1/52 إعلان اتحاد عام نقابات مصر فجاء حريق القاهرة ليعصف بالحياة الحزبية والنقابية... وتأتى حركة «23 يوليو» فتقضى قضاء مبرماً على كافة أشكال العمل العام وتنشأ دولة القمع ويقوم ناصر بعمل نظام الحزب الواحد وتقوم حركة نقابية صفراء ويأتى السادات فيخترع نظاماً فريداً للحزبية المقيدة.. لم يتحمله فأطاح به بترسانة القوانين المقيدة للحريات وجاء مبارك بالقانون «100» لوأد الحركة النقابية وأضاف الإخوان فى عهد مبارك مسخاً جديداً للحركة النقابية المهترئة فاخترعوا أغرب تخريجة انتهازية لاستمرار المسيرة النقابية الصفراء بأن يكون النقيب من الحكومة أما أعضاء مجلس النقابة فتشكيله من الأطراف المختلفة...وتم خلط السياسى والحزبى بالنقابي والخدمى... لتستمر وتمضى أغرب مسيرة فى تشويه ومسخ العمل العام وإفراغه من مضمونه وإفقاده للمصدقية والجدية مما خلق بيئة راعية للازدواجية والتعامل مع الجهات الأمنية الراعية والمسيطرة على الحركة المجتمعية وظهور الجمعيات الممولة خارجياً فى ظل رعاية نفس الجهات الأمنية...مما جعل الانصراف والاستنكار المجتمعى أمراً طبيعياً لكل تلك المظاهر السيئة فضلاً عن مناخات القهر والإرهاب البوليسى مما أسقط فكرة المشاركة والعمل العام فى بئر بلا قرار...!! فى ضوء تلك السيرة البائسة هل نستطيع أن نسمع صوتاً لجمعية حماية المستهلك، أي منطقة محلية... أو هل لنا أن نرى حشداً خلف مطالبات جمعية انقذوا القاهرة التاريخية فى مواجهة طوفان الاعتداءات الكارثية على آثار القاهرة المملوكية العثمانية من بيوت وأسبلة وجوامع.. وبعد ذلك يسألونك عن الأحزاب وكأن التاريخ لم يمض وكأن الأحداث المتراكمة لم تصنع مسخاً وتشويهاً.. انعدام المشاركة المجتمعية واختفاء أى تراكم لتجارب المشاركة والعمل العام المنتج... كل هذا يضع الجميع أمام المهمة الصعبة الواجبة وهى بعث واستنهاض قدرات المجتمع فى المشاركة والعمل العام الجماعى من أجل المحافظة على قوة دفع ثورتنا روحها من أجل الوصول الجاد والحقيقى للدولة الحديثة الديمقراطية دولة المشاركة والتسامح وقبول الآخر... مصر الحية الحرة الناهضة لكل أبنائها.